خالد جهاد - حظر تجول

نيسان/ أبريل ٢٠٢٠

لم يكن الأثر الذي تركته الجائحة الوبائية في نفوسنا بالهين، وهي التي لا زالت منذ عامين تطل برأسها من وقتٍ لآخر كأفعى تخرج من جحرها فتظهر بشكلٍ مختلف وأسماءٍ جديدة لتذكرنا أنها لا تزال موجودة، تاركةً معها العديد من العناوين التي دخلت على حياتنا وغيرتها وغيرت معها الكثير من طقوسنا ومشاعرنا من حيث لا ندري، فقاومناها في البداية ثم أصبحت جزءاً منا ربما لأنها تشبه كل ما حولنا، فكانت حياتنا اليومية عبارةً عن لعبةٍ للأقنعة واخفاء المشاعر والتي تطورت ببساطة ٍ وتلقائية إلى إخفاء الملامح كالكلمات المتقاطعة..

فاعتقدت لمجرد أني شخص بيتوتي، انتقائي ومحدود العلاقات أنني صاحب القرار في عزلتي الجزئية ومنفاي الإختياري الذي اكتشفت أنه (محض وهمٍ) تبدد مع إعلان حظر التجول حول العالم، فدبت مشاعر الخوف في قلبي كأي إنسان لأجد أنني عالقٌ في مكانٍ ناءٍ في إحدى ضواحي الذاكرة والزمن..لا أعرف اسمه ولا أعرف كيف أطلب المساعدة، فعقارب الساعة توقفت منذ سنوات رغم أنني لا زلت أمشي على قدمي، أذهب إلى العمل، أتابع التلفاز، أخالط الناس بجسدي لا بروحي التي قررت أن أضعها في مخبأ ٍ آمنٍ ومحصن كمن يعيش في الظلام لأن الضوء يؤذيه فلا يفتح الباب لأحدهم إلا لحاجةٍ مخافة قناعٍ يتوارى خلف القناع..

هناك الآن متسع من الوقت..لكن لماذا يبدو الوقت هكذا ضيقاً رغم اتساعه؟ ولماذا أريد بشدة أن أمشي وحدي في هذه الشوارع الخالية؟ هل تبدو مغريةً أو آمنةً أكثر في ظل غياب البشر ؟ وهل ستكون معزوفة الصمت هي الأشد صخباً بين الأجساد المتوارية والنظرات المنكسرة والأنفاس المحتبسة بإنتظار فجرٍ جديد وخبرٍ آخر وطيفٍ خارقٍ للطبيعة، يتخطى حظر التجول ويتسلل كاللصوص مثل صوتٍ بعيد يتغلغل في وجداننا ولا يكف عن دندنة ذكرياته داخل رؤوسنا، أو مثل موسيقى ً تنبعث من المنزل المهجور الذي يجاورنا عازفةً لحننا الحزين المفضل..

فجأةً.. تعود الأحاسيس إلى طفولتها وبرائتها متسائلةً لماذا قرر الكبار ألا نغادر منزلنا ؟ أقولها بينما أبحث عن بنٍ يكفي لفنجان قهوةٍ يساعدني على النوم بعد أن اتسعت رقعة المساحات السوداء تحت عيني فلا أجده.. وأفكر بجنون بمحاولة كسر الحظر بحثاً عن القهوة لكنني لا أعرف من أين أبدأ، أتناول الحبة الأخيرة في شريط المسكنات التي نادراً ما ألجأ إليها وأنتبه إلى أن هذا الحظر فاجأني كما فاجأ الكثيرين فلم نتزود بما نحتاج كما ينبغي، وتذكرت تلك الحكايات عن أيام الحرب التي عاشها أهلنا وتلك اللحظات التي لا يفكر الإنسان فيها سوى بالنجاة بعد الكثير من السكوت والخوف، أنظر إلى المرآة وألاحظ ازدياد وزني وشعري الأبيض وانعكاس وجعي على ملامحي بعد أن طفا على سطحها كزورقٍ يفضحني رغم صمتي، مستعيداً لشريطٍ من الأحداث التي لم أكن لأصدق حدوثها، ولوجوهٍ أحببتها وأدرت ظهري لها بعد أن أدارت قلبها لي في ذروة احتياجي إليها، وأمني نفسي بأن تعود لتطلب السماح في حالةٍ من الإنكار للوجه الحقيقي الذي رأيته لهم بعيداً عن ذلك الذي رسمته في خيالي وأتساءل لماذا ثم لماذا ثم لماذا..

أسمع صوت أحدهم بعيداً مختلطاً بمواء قطةٍ خائفة أفتح لها الباب الذي أغلقته في وجه البشر بعد أن سمعت طرقاتها عليه في ساعةٍ متأخرة من الليل، حيث لا أتوقع اتصالاً أو زيارة واسميتها (سعاد)، أثارت استضافتي لها حفيظة طيوري فأومأت لهم مطمئناً وأخبرتهم أننا يمكن أن نتقاسم الطعام والحياة والطريق والمشاعر إن كنا صادقين في حبنا حتى في أصعب الظروف التي لا تبرر غياباً أو خيانة، واحتفلنا جميعاً..كلٌ على طريقته بعد أن وجدت بعض البن الجديد الذي لم أنتبه له بين بعض الأواني، حتى أنني سمعت صوت أغنيتي المفضلة للموسيقار محمد عبد الوهاب ينبعث من الشقة المهجورة المجاورة يردد (لأ مش أنا اللي أبكي ولا أنا اللي أشكي لو جار عليا هواك.. ولا أنا اللي أجري وأقول عشان خاطري ولا ليا حق معاك) ونظرت حينها إلى الطيور والقطة (سعاد) مبتسماً وقلت لهم.. أسمعتم؟ فحدقوا بي بشيءٍ من الدهشة فضحكت وقلت لهم.. لا تهتموا أوشك الفجر على البزوغ وسينتهي معه الحظر..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى