د. سهام الفريح - صالون مـي زيــادة نموذجا.. قراءة لمشهد الصالونات الأدبية في القرن العشرين

كما كان في الماضي المنتديات النسائية التي تقوم عليها المرأة تستقبل فيها الرجال، ويدور في منتداها الحوار حول الادب والشعر، كمجلس سكينة بنت الحسين، تحولت المجالس الادبية في العصر الحديث في القرن العشرين تحديدا الى صالونات عندما حاولت بعض النساء ان تضع لها منتدى بجانب المنتديات التقليدية التي هي وقف على الرجال، وذلك بأن يفتحن ابواب منازلهن لحضور الجنسين، فهذه الصالونات كانت سببا لخلق نمط جديد من السلوك الاجتماعي، وخصوصا بعد الاستقلال السياسي عن النظام العثماني، وجاءت ايضا نتيجة نشر العلم الذي ادى الى ظهور طبقة مثقفة سريعة النمو والانتشار بعد ان نال بعضهم هذا القسط من العلم في الجامعات الاوروبية، كأمثال رفاعة رافع طهطاوي، وغيره كثيرون دعوا الى الحرية الفردية والمساواة، وكذلك دعواتهم الى تحرير المرأة التي كانت ضمن مطالبهم الرئىسية وعلى رأس هؤلاء قاسم امين.

ولما كان لعدد قليل من النساء فرصة الالتحاق بالمؤسسات التعليمية في ارجاء الوطن العربي، وبالذات في مصر والشام والعراق، واندفع البعض منهن الى الكتابة بأسماء مستعارة وتأسيس مجلات وجمعيات خاصة بهن، فانهن بقين بعيدات الى حد بعيد عن المشاركة في الحياة العامة، وبقيت المجالس الثقافية والادبية وقفا على الرجال، حتى جاءت بعض النساء بفكرة انشاء هذه المنتديات، وكانت اول من تجرأت على خرق هذه التقاليد امرأة من الطبقة العليا في مجتمعها وهي الاميرة نازلي فاضل في القاهرة، وهي ابنة الامير مصطفى فاضل زمن الخديوي اسماعيل، وممن ترددوا على هذا الصالون الامام محمد عبده، والشيخ عبدالكريم سليمان، وسعد زغلول، وقاسم امين، ومحمد المويلحي، وولي الدين يكن، وبعد ذلك انتقلت للحياة في تونس فأعادت صالونها هناك(1)، والكسندرة أفيدينوه في الاسكندرية، وقد سبق هاتين المرأتين اخريات في سوريا ولبنان ممن تلقين تعليمهن في بعض المدارس الاوروبية، فهذه الصالونات كانت بطابعها النسائي مدعاة الى تهذيب السلوك والعادات داخل هذه المنتديات، ومن بين هؤلاء النساء اللاتي برزن في الحياة العامة ماري عجمي (1888 - 1965)، وهي فتاة سورية تلقت علومها في مدارس عدة، حتى نالت قسطا وافرا من العلم والمعرفة، وكانت شاعرة وكاتبة، وقد انشأت اول مجلة في سوريا اسمها «العروس» عام 1910، وكانت مناضلة خطيبة غرست في نفوس النساء من حولها مناهضة الحكم العثماني، وعملت في المجال الاجتماعي، فأسست النوادي والجمعيات النسائية، كالنادي الادبي النسائي، وجمعية نور الفيحاء وناديها.

وقد وقفنا عند هذه المنتديات كظاهرة اجتماعية تمثل نقلة في حرية المجتمع وقبوله لحضور المرأة، وقبول دورها الفاعل في نشاط الحركة الفكرية والادبية في بدايات عصر النهضة.

صالون مي زيادة
فكانت مي زيادة التي جاءت الى مصر بعد ان انتقل والدها من الناصرة الى القاهرة في عام 1907، بعد ان اقامت اسرتها بعض الوقت في الاسكندرية، ثم انتقلت الى القاهرة، وقام والدها بتحرير «المحروسة»، ثم انتقلت ملكيتها اليها في عام 1909، وكانت مي متخرجة من مدارس الراهبات، لذا تأثرت بالآداب الاوروبية، التحقت بعد ذلك بالجامعة المصرية في وقت لم يسمح فيه رسميا للنساء بالدراسة بعد، كما ان ثقافة والدها وعمله الصحفي منحاها الكثير من الفرص لنشر مقالاتها والاتصال بالثقافة والمثقفين، وعندما بدأت باستقبال رواد منتداها مساء كل ثلاثاء، كانت تختلف عمن سبقتها من صاحبات الصالونات في البلدان العربية، حيث انها لم تكن متزوجة، ثم ان صالونها كان الوحيد الذي تستقبل فيه ضيوفها من الجنسين، وقد كان لوجود صالونها في بيت العائلة مزية تجعله يتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة لمحافظته على هذا الاطار التقليدي، لذا كان صالونها ملتقى لشخصيات متميزة امتد نشاطهم فيه لمدة عشرين عاما يتبادلون فيه الآراء من دون تمييز لفارق عقائدي او فكري او اجتماعي، ومن ابرز هذه الشخصيات العلامة الازهري مصطفى عبدالرازق، ويعارضه في الفكر الدكتور شبلي شميل صاحب المذهب الداروني، والشاعر مصطفى الرافعي، وعباس محمود العقاد الذي هو من ألد نقاده، لذا وصفه طه حسين بأنه صالون «ديموقراطي» على عكس صالون «نازلي» «الارستقراطي»، ففي صالون مي يلتقي التجديد والتقليد من دون نفور، لذا قال عنه الشاعر المصري اسماعيل صبري الذي كان من اوائل المترددين على هذا الصالون بأنه «لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشد فيه الرجال والشباب، فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والاصوات الناشزة والمناقشات الفجة، والاحاديث الجريئة والكلمات المندية، والذوق العامي والاحساس البطيء؟ لاحظ هذا المجلس، وقد حضرته امرأة واحدة لا غير، تجد الحركات تتزين، والاصوات تدق، والمناقشات تنتج، والاحاديث تحتشم، والكلمات تنتقي، والذوق يسمو، والاحساس يدق».

ومن شعره في هذا المنتدى:

روحي على بعض دور الحي حائمة
كـظامئ الطير تواقـا الى المـاء
ان لم امتع بميٍّ ناظريَّ غداً
لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء

مي زيادة الأديبة
كانت مي ظاهرة ادبية واجتماعية برزت في عصر النهضة، وكان لمجلسها «مجلس الثلاثاء»، الذي غيرت به الكثير من اوجه الحياة الثقافية» ليس على مستوى مصر فحسب، وانما على مستوى الوطن العربي، لذا يجب ان نتعرف على بدايات حياتها ونشأتها حتى اكتمل عودها، فنضجت فأصبحت هذه الشخصية المتميزة في عصرها، ليس لنشاطها الثقافي الذي ابرزه منتداها المشهور فحسب، وانما لمكانتها الادبية ونتاجها الادبي والفكري الذي اثار اهتمام الكثير من الباحثين والادباء لدراسته والعناية به.

ولدت مي في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886، لأب لبناني «الياس زيادة» ولأم سورية الاصل فلسطينية المولد هي «نزهة المعمر»، وكان الاب يمتهن التدريس، عاشت مي في الناصرة حتى عام 1899، انتقلت بعدها مع اسرتها الى لبنان للدراسة في مدارسها «الراهبات»، ثم عادت الاسرة ثانية الى الناصرة عام 1905، بعدها بسنتين غادرت الاسرة بصورة نهائية الى القاهرة بعد ان مروا بالاسكندرية، وكان ذلك في عام 1907 وحتى وفاتها عام 1941.

كان لمي مواهب فنية متعددة، عملت على صقلها وتنميتها بالقراءة والبحث، فإضافة الى معرفتها بعدد من اللغات الاجنبية فهما وكتابة مثل الفرنسية والانكليزية والالمانية والاسبانية والايطالية واليونانية الحديثة، فإنها اتصلت بالتراث العربي الاسلامي وحفظت القرآن، وقرأت الشعر العربي القديم.

وقد عرفت مي زيادة منذ ظهورها بالقاهرة كاتبة مقالة، وشاعرة باللغة الفرنسية، وخطيبة، وباحثة، فأول ما نشر لها، ديوان شعر بالفرنسية هو «ازهار حلم» عام 1911، باسم مستعار هو آيزيس

ومي عاشت في عصر ادبي يهتم بالصناعة اللفظية في نتاجه الادبي، فكان لها رأيها في هذا الجانب: «الصناعة اللفظية وجه من الوجوه العديدة في الادب، ولئن اقتصر كل من العلوم والمعارف على نفسه دون غيره تقريبا، فميزة الادب ان يحتضن الكثير من المعارف والعلوم، وله ان يتغذى بها جميعا ليعالجها على طريقته الخاصة، فلا يكون بعد الا ادبا»(2).

مشاركتها ونشاطها في الحياة العامة

لم يتوقف نشاط مي عند الجوانب الفنية في الكتابة والنظم، وانما تعددت انشطتها ومساهماتها وتنوعت فشملت مناحي عديدة، فقد كانت مي ذات رأي حر متميز بالدفاع عن حقوق هذه الامة، وعن حقوق المستضعفين فيها ففي كتابها (المساواة) الذي عالجت خلاله موضوعات في الحكم والاجتماع تحدثت فيه عن العبودية والرق: «السلاسل والقيود اقل رموز العبودية هولا، القيود في دمائنا واهلنا واوطاننا، القيود في رغباتنا وحاجاتنا، القيود في بشريتنا، لأن اصل العبودية باق على كر الدهور» فهي تؤكد ان العبودية تلاحق الانسانية بصور مختلفة، تعيق الوسائل التي تسعى الى الغائها وتدعيم قواعد التحرير، وفي الكتاب نفسه ناقشت موضوع الطبقية والاستقراطية، والديموقراطية والاشتراكية، وكان لها آراء شديدة في هذه النظم التي عالجتها تاريخيا وفلسفيا واجتماعيا، فكانت ترى ان الاشتراكية لا تتمكن من تحقيق المساواة: «وهل الانصاف في تجريد الغني ليعطي المعدم؟ الغد للاشتراكية بلا ريب، لكنها.. لن تكون اوفى من الديموقراطية في تتميم وعودها» ثم تواصل الحديث فتقول: «طبقة ارستقراطية المستقبل التي ستخلفها الكفاءة الشخصية وتقسيم العمل المحتم اليوم، والامس، وفي الغد. الغد للاشتراكية، ولكن الفردية ستظل منتصبة قربها على الدوام».

وكان لمي دفاعها الخاص عن المرأة في مجتمعها، فكتبت عن بعض الناشطات من النساء في عصرها مثل عائشة التيمورية ووردة اليازجي وباحثة البادية، وقد انضمت مي الى الحركة النسائية التي تتزعمها هدى شعراوي، وحضرت اجتماعاتها التي كانت تقام في الجامعة المصرية وكانت لها كتاباتها الجادة في قضايا المرأة، وان كانت تدعوها الى التحرر إلا انها تطالبها بأن يكون هذا التحرر على اساس العلم والتحفظ، وان لا تخرج عن حدود المعقول، فلم تغفل مي طبيعة المرأة التي خلقت لتكون امرأة كما في قولها «نحن بحاجة شديدة الى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال، دون ان يفقدن صفاتهن النسائية من لطف العاطفة، وعذوبة الخلق، والرقة والدعة والاستقامة والاخلاص». وهي نفسها التي قالت: «لو انا ابدلنا المرأة بالرجل وعاملناه بمثل ما عاملها فحرمناه من النور والحرية دهورا، فأي صورة هزيلة يا ترى تبقى لنا من ذياك الصنديد المغوار؟».


(1) مجلة العربي، العدد 496، مارس 2000، الكويت 1155.
(2) حنا فاخوري - تاريخ الأدب الحديث بيروت 1995، ص259.
(3) حنا فاخوري - المرجع سابق ص262-263.


صالون مـــــي زيـــــــادة نموذجا قراءة لمشهد الصالونات الأدبية في القرن العشرين :إقرأ المزيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى