هاتفني!.
عشر سنوات انقضت ولم نلتق إلا بضع مرات بالمصادفة، نتعانق لدقائق في الشارع ( الزي الصحة .. الزي الحال!. )
.. يهاتفنى من العريش.
كان يكبرني بسنوات قليلة.
يهنئني بنشر قصة لي في جريدة سيارة.
أداعبه : هل ما زالت أشعارك حبيسة الأدراج؟.
يأتيني صوته ضاحكاً :
" نويت أن أفك قيدها ، وأطلق سراحها .. "
ما زلت أحتفظ بوهج بداياته، كان متيماً بأمل دنقل.
ضحكاته تجلجل عبر الهاتف، يضرب لي موعداً :
- نلتقي غداً ظهر الأربعاء.
- لماذا تختار وقت كسوف الشمس يا مجنون؟!.
- أختار اللحظة النادرة ياصاحبي، لا تصدق علماء الفلك، فالشمس والقمر يتعانقان، يلتقيان، لقاء الحار بالبارد، السالب بالموجب.
ويضحك، فأشعر بأسلاك الهاتف تهتز، يقول :
- يُنبئني قلبي أن الشمس ستلتقطني فى هذا اليوم، تصهرني، تذوبني، وقد أصير شعاع ضوء أبدد مساحة العتمة.
أضع السماعة وأنا أضحك، وأجدني شارداً في ذلك الصديق القديم.
يقرأ علىَّ أشعاره ونحن نتسكع في طرقات مدينتنا الصغيرة، يحدثني عن بنت الجيران ربة الشِعر التي تلهمه القصيدة.
يتصيد أفكاره من شوارع " القصلة" الضيقة، والملتوية كأفعى، وبيوتها الواطئة، وتكدس الأولاد في غرف ضيقة لا تدخلها الشمس، وافتراش النساء لعتبات الدور، والذباب، وأكياس القمامة وتلال السباخ والناموس.
أدخلني إلى عالم حسن فتحي وعمارة الفقراء، يشرح لي نظرياته وأفكاره ورؤاه.
اتفقنا على حب –جمال عبد الناصر، وعلقنا صوره على الجدران، أهداني قصائد أحمد فؤاد نجم وأشرطة الشيخ إمام.
متكئاً على ذراع الذكريات، وصديقي القديم، متأبطاً ذراعي، نجوب شوارع مدينتنا الصغيرة، أسفلت الشارع يجلد أقدامنا، يحدثني عن أمه الطيبة، ووالده الرجل الطيب الذى يتباهى بابنه الذى ألحقه بكلية الهندسة، ومشقته في تدبير مصروفات الكلية وثمن المذكرات والكتب، يحدثني عن النيل والسد العالي، وأنظمة الري، يحلم بوصول النيل إلى جنوب الوادي، يحدثني عن دراسات علمية وأبحاث جامعية تجعل من مصر - لو نفذت - سلة غلال للعالم!.
أبتسم - وأحدث نفسي – هاهي أحلامك تتحقق يا صاحبي، النيل بصل إلى سيناء، وتترك هندسة الري بالزقازيق وتركب النيل إلى سيناء.
ساعات ونلتقي أيها الصديق وتحدثني عن حلمك الذى تحققه على أرض سيناء، ونستعيد معاً الذكريات.
- الولد أحمد العشري الذى هجر الشِعر والدراسة والبنات، وأطلق اللحية، ولبس الجلباب القصير، وأنكرنا في الطريق العام، ورفض مصافحتنا، وأسمانا أصدقاء الجاهلية!.
- والولد أحمد الجمال عاد من الخارج يلبس البنطلون الجينز والقميص الحرير المشجر يفوح منه عطر نفاذ، وسوار في معصمه، وسلسلة مفاتيح ذهبية، وساعة رادو، يمسك "موبايل" ويركب سيارة حديثة لا أعرف ماركتها، يكتب أشعاراً " بترودولارية"!.
- ورَّبة الشِعر التي كانت تلهمك القصيدة – داست على قلبك وشِعرك وفقرك وباعتك بحذاء أنيق ورداء أنيق، وألقت بنفسها في أحضان أول من صادفته يملك المال والثوب والذهب!.
و.. و.. وأنت أيها الصديق – رحت تحلم " بقصلة " جديدة في سيناء، شوارع واسعة نظيفة مسفلتة، وبيوت جديدة تدخلها الشمس والهواء النقي، عانقت أحلام أهل " القصلة "(*) البسطاء وامتطيت النيل وسافرت به إلى سيناء، تطبق نظم الري الحديثة، أكاد أرى بريق فرح في عينيك الخضراوين. أنظر في ساعتي حاثاً عقاربها على سرعة الدوران، أنادى الشمس أن تخرج لأخرج لمقابلة الصديق، رغم تنبيهات أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة بضرورة البقاء في البيوت والتحذيرات من التطلع إلى الشمس حتى لا تسرق شعاع البصر!.
أفتش في دفاتري القديمة عن بعض قصائده، أنفض التراب عن أيامنا الخوالي،
مسئولو الأمن في الجامعة يمنعون قصائده، كل المنابر لفظت أشعاره، ورفضت إعطاء قصائده هوية، لملم في أشعاره أحزان الوطن، ونسج من أحلام الغلابة حُلماً، قال :
- الشاعر .. كلمة - ألقاها الله في بطن العذراء - فكان المسيح قصيدة شعر .. الشاعر- نبي - بالكلمة يفتح قلوباً غُلفا .. ويُسمع أذاناً صُما .. بالكلمة نُطبب النفوس .. ونُلملم الجِراح ..
قصائده المتبقية في دفاتري وذاكرتي – تسرق الليل منى.
وفاجأتني الشمس عليلة ذابلة، تنثر ضوءاً خافتاً - وكما توقعت - الشارع خال من المارة – حتى العصافير التي كانت أصواتها في الصباح تطربني سكنت في أعشاشها، ورحت أتصوره بعينيه الخضراوين، المتألقتين، وشعره البني الجعد المفروق من الجنب، ماذا سيلقى علىّ من أشعار؟! ومساحة الحرية تتسع يوماً بعد يوم.
أفقت من شرودي على رنين الهاتف، رفعت السماعة، لأسمع صوتاً حزيناً
- " البقاء لله "!.
فزعاً صرخت : من ؟.
- حادث سيارة بشع راح فيه الباش مهندس!.
رميت السماعة، وخرجت مندفعاً - ناظراً للشمس بغضب.
وكل يوم أنتظره شعاع ضوء يبدد مساحة العتمة.
..................................................................
(هذه القصة مهداه إلى روح الصديق الشاعر أحمد محفوظ أسكنه الله الجنة)
(*) القصلة حي عشوائي من أحياء مدينة ديرب نجم.
عشر سنوات انقضت ولم نلتق إلا بضع مرات بالمصادفة، نتعانق لدقائق في الشارع ( الزي الصحة .. الزي الحال!. )
.. يهاتفنى من العريش.
كان يكبرني بسنوات قليلة.
يهنئني بنشر قصة لي في جريدة سيارة.
أداعبه : هل ما زالت أشعارك حبيسة الأدراج؟.
يأتيني صوته ضاحكاً :
" نويت أن أفك قيدها ، وأطلق سراحها .. "
ما زلت أحتفظ بوهج بداياته، كان متيماً بأمل دنقل.
ضحكاته تجلجل عبر الهاتف، يضرب لي موعداً :
- نلتقي غداً ظهر الأربعاء.
- لماذا تختار وقت كسوف الشمس يا مجنون؟!.
- أختار اللحظة النادرة ياصاحبي، لا تصدق علماء الفلك، فالشمس والقمر يتعانقان، يلتقيان، لقاء الحار بالبارد، السالب بالموجب.
ويضحك، فأشعر بأسلاك الهاتف تهتز، يقول :
- يُنبئني قلبي أن الشمس ستلتقطني فى هذا اليوم، تصهرني، تذوبني، وقد أصير شعاع ضوء أبدد مساحة العتمة.
أضع السماعة وأنا أضحك، وأجدني شارداً في ذلك الصديق القديم.
يقرأ علىَّ أشعاره ونحن نتسكع في طرقات مدينتنا الصغيرة، يحدثني عن بنت الجيران ربة الشِعر التي تلهمه القصيدة.
يتصيد أفكاره من شوارع " القصلة" الضيقة، والملتوية كأفعى، وبيوتها الواطئة، وتكدس الأولاد في غرف ضيقة لا تدخلها الشمس، وافتراش النساء لعتبات الدور، والذباب، وأكياس القمامة وتلال السباخ والناموس.
أدخلني إلى عالم حسن فتحي وعمارة الفقراء، يشرح لي نظرياته وأفكاره ورؤاه.
اتفقنا على حب –جمال عبد الناصر، وعلقنا صوره على الجدران، أهداني قصائد أحمد فؤاد نجم وأشرطة الشيخ إمام.
متكئاً على ذراع الذكريات، وصديقي القديم، متأبطاً ذراعي، نجوب شوارع مدينتنا الصغيرة، أسفلت الشارع يجلد أقدامنا، يحدثني عن أمه الطيبة، ووالده الرجل الطيب الذى يتباهى بابنه الذى ألحقه بكلية الهندسة، ومشقته في تدبير مصروفات الكلية وثمن المذكرات والكتب، يحدثني عن النيل والسد العالي، وأنظمة الري، يحلم بوصول النيل إلى جنوب الوادي، يحدثني عن دراسات علمية وأبحاث جامعية تجعل من مصر - لو نفذت - سلة غلال للعالم!.
أبتسم - وأحدث نفسي – هاهي أحلامك تتحقق يا صاحبي، النيل بصل إلى سيناء، وتترك هندسة الري بالزقازيق وتركب النيل إلى سيناء.
ساعات ونلتقي أيها الصديق وتحدثني عن حلمك الذى تحققه على أرض سيناء، ونستعيد معاً الذكريات.
- الولد أحمد العشري الذى هجر الشِعر والدراسة والبنات، وأطلق اللحية، ولبس الجلباب القصير، وأنكرنا في الطريق العام، ورفض مصافحتنا، وأسمانا أصدقاء الجاهلية!.
- والولد أحمد الجمال عاد من الخارج يلبس البنطلون الجينز والقميص الحرير المشجر يفوح منه عطر نفاذ، وسوار في معصمه، وسلسلة مفاتيح ذهبية، وساعة رادو، يمسك "موبايل" ويركب سيارة حديثة لا أعرف ماركتها، يكتب أشعاراً " بترودولارية"!.
- ورَّبة الشِعر التي كانت تلهمك القصيدة – داست على قلبك وشِعرك وفقرك وباعتك بحذاء أنيق ورداء أنيق، وألقت بنفسها في أحضان أول من صادفته يملك المال والثوب والذهب!.
و.. و.. وأنت أيها الصديق – رحت تحلم " بقصلة " جديدة في سيناء، شوارع واسعة نظيفة مسفلتة، وبيوت جديدة تدخلها الشمس والهواء النقي، عانقت أحلام أهل " القصلة "(*) البسطاء وامتطيت النيل وسافرت به إلى سيناء، تطبق نظم الري الحديثة، أكاد أرى بريق فرح في عينيك الخضراوين. أنظر في ساعتي حاثاً عقاربها على سرعة الدوران، أنادى الشمس أن تخرج لأخرج لمقابلة الصديق، رغم تنبيهات أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة بضرورة البقاء في البيوت والتحذيرات من التطلع إلى الشمس حتى لا تسرق شعاع البصر!.
أفتش في دفاتري القديمة عن بعض قصائده، أنفض التراب عن أيامنا الخوالي،
مسئولو الأمن في الجامعة يمنعون قصائده، كل المنابر لفظت أشعاره، ورفضت إعطاء قصائده هوية، لملم في أشعاره أحزان الوطن، ونسج من أحلام الغلابة حُلماً، قال :
- الشاعر .. كلمة - ألقاها الله في بطن العذراء - فكان المسيح قصيدة شعر .. الشاعر- نبي - بالكلمة يفتح قلوباً غُلفا .. ويُسمع أذاناً صُما .. بالكلمة نُطبب النفوس .. ونُلملم الجِراح ..
قصائده المتبقية في دفاتري وذاكرتي – تسرق الليل منى.
وفاجأتني الشمس عليلة ذابلة، تنثر ضوءاً خافتاً - وكما توقعت - الشارع خال من المارة – حتى العصافير التي كانت أصواتها في الصباح تطربني سكنت في أعشاشها، ورحت أتصوره بعينيه الخضراوين، المتألقتين، وشعره البني الجعد المفروق من الجنب، ماذا سيلقى علىّ من أشعار؟! ومساحة الحرية تتسع يوماً بعد يوم.
أفقت من شرودي على رنين الهاتف، رفعت السماعة، لأسمع صوتاً حزيناً
- " البقاء لله "!.
فزعاً صرخت : من ؟.
- حادث سيارة بشع راح فيه الباش مهندس!.
رميت السماعة، وخرجت مندفعاً - ناظراً للشمس بغضب.
وكل يوم أنتظره شعاع ضوء يبدد مساحة العتمة.
..................................................................
(هذه القصة مهداه إلى روح الصديق الشاعر أحمد محفوظ أسكنه الله الجنة)
(*) القصلة حي عشوائي من أحياء مدينة ديرب نجم.