علي حسن - مطاعم شارع الدواسة - الموصل 1980 -4-

4-

في شارع الدواسة؛ عشرات المطاعم؛ بعد أن التحقت بالمدرسة المتوسطة المركزية للبنين، تعرفت على أقراني من أبناء مدينة الموصل "أم الربيعين". عرب وأكراد، آشوريون وكلدان، مسيحيون ومسلمون، سُنة وشيعة، إيزيديون وصابئة. لم أرَ يومًا خلافًا نجمَ بين عرقين أو جنسين، أو صراعًا نشب بين عقيدتين أو مذهبين، ما أذكره أن صديقًا لي اسمه وليد سعدي، كان والده شيعيًا بينما أمه سُنية!
على ذكر الأكراد؛ كان صديقي "دلشاد" كرديًا، يملك أباه مطعمًا لتقديم المأكولات المَوصلية في شارع الدواسة، كل العاملين في مطعمه من المصريين!
دعاني "دلشاد" يومًا إلى تناول الغداء في مطعم والده؛ لتذوق "الكَبة العراقية" وغيرها من الأكلات المَوصلية العريقة. حين دخلت إلى المطعم، شعرت أني قد دخلت إلى مملكة دلشاد!
رغم صغر سنه -أربعة عشر سنة- إلا أن عمال المطعم يحسبون له ألف حسابٍ، يقفون في انتظار تلقي أي أمر منه إليهم، يبالغون في تقديره وفي الوقت ذاته، يضحكون معه بلهجتهم المصرية التي يُتقنها "دلشاد" نتيجة مشاهدة الأفلام والمسلسلات المصرية!
حين علم العمال أن ضيف دلشاد مصري، أحسنوا الترحاب؛ سألني "دلشاد": "تاكل إيه يا معلم؟"
لم أجد جوابًا لقلة خبرتي بالمطبخ العراقي! لكن "حسن الطنطاوي" المسئول عن الصالة أناب عني في الرد: "هو ضيفنا؛ دعنا نرحب به على طريقتنا".
بعد دقائق؛ جاء حسن يحمل أطباقًا من الكَبة العراقية والدولمة والملفوف.
الكَبة هي أقراص مصنوعة من البُرغُل (الفريك) المخلوط باللحم المفروم، توضع في الماء المغلي، وبعد أن تنضج، تُلقى في الزبد للتحمير.
الكَبة بعد التحمير نكهتها زكية، يسيل لها لعابك؛ ما زالت حاسة الشم تحتفظ برائحتها الشهية، حتى بعد أن مر على هذا اليوم أربعة وأربعون عامًا! أذكر أن أمي تعلمتها من صديقاتها العراقيات، لقد أجادت إعدادها على الطريقة الموصلية دون نقصان.
دوستة الدولمة؛ تشكيلة رائعة من المحشيات بالأرز البسمتي (التمن) باذنجان، فلفل، طماطم، كوسه، ياپراق (ورق الكرم أو العنب) لكن الأجمل والأعلى مذاقًا هو محشي البصل، الذي لا نستخدمه في مصر.
البصل العراقي يأخذ شكلًا مختلفًا عن مثيله المصري، حيث يكون طويلًا ومسحوبًا، وليس مستديرًا مثل الكرة!
الملفوف؛ يشبه محشي الكرنب، لكنه مصنوع من نبات السلق الذي يشبه إلى حد كبير السبانخ أو الخس. يوضع الأرز داخل ورق السلق، ويضاف إليه اللحم المفروم في أغلب الأوقات، فتزداد رائحته إزكاءً وقبولًا وطيبًا.
بعد أقل من خمس دقائق؛ حضر حسن يحمل الدولمة مع الملفوف في طاجن من الفخار بين يديّه، بينما يقف خلفه شابان، "مرزوق الأسيوطي" الذي قدم لنا الكَبة في صنية ثم رجع إلى الوراء خطوتين، بينما تقدم زميله "سعيد الإسكندراني" يحمل طبقًا من المشويات كبير الحجم، لم يمنعنِ كبر حجمه من الإتيان عليه وإفنائه! سَحَب حسن طبقًا كبيرًا كان أمام دلشاد؛ وضعه فوق الطاجن ثم قلبهما، هزهما هزًة قوية، ثم وضعهما أمامنا. ما أن رفع الطاجن حتى استقرت الدولمة فوق الطبق، فانتبهت إلى ضلوع الخروف (الريش) التي ظهرت زاهية شهية فوق الدولمة!
لم يكن مطعم "دلشاد" هو الوحيد في شارع الدواسة؛ كان أمامه مطعم ومشويات "كويسنجق" الذي يقدم الكباب والكفتة مع التمن العراقي، بدينار واحد، في هذا الوقت كان الدينار العراقي يعادل ثلاث دولارات تقريبًا.
على يسار المتجه نحو شارع "دواسة خارج" عند منتصف شارع الدواسة الذي يبلغ طوله كيلومترين تقريبًا، يوجد مطعم "الكهف" الشهير.
دخلت مع والدي ذات مساءٍ إلى مطعم "الكهف" الذي استوحى صاحبه التصميم من اسمه؛ فصار المطعم كهفًا حقيقيًا، تبدد الشموع بنورها الخافت المتراقص على الجدران، ظلامًا مخيفًا لمَن كان صغيرًا مثلي، تشعل في نفسه الرهبة، وتخلق الخيالات الموحشة! بينما الكبار يجدون في ذلك متعة لا توصف، عندما يجلسون بين الفجوات الصخرية، المفعمة برائحة شواء زكية، مشوبة بأريج أعشاب برية منعشة، ثم يأتيهم ما لذ وطاب من طعام، يتناولونه على أنغام ساحرة.
بعد عشاء طازج ودسم، جاءنا النادل بـ "السماور" الذي يتكون اسمه من كلمتين (السماء + وِرْ) أي السماء الحارقة.
السَمَاوِر إناء من النحاس لإعداد الچاي (الشاي)، بعض العائلات الموصلية العريقة لديها "سماور" من الفضة؛ يوضع الماء داخل السماور ليغلي بواسطة أسطوانة مملوءة بالجمر، ثم يوضع القوري (البراد) فوق هذه الأسطوانة حتى يغلي ويخرط، يُصَب بعدها عبر صنبور في استكانات عراقية شهيرة (أكواب زجاجية صغيرة الحجم) تُقَدَّم مع مكعبات السكر. السماور يُستخدم في روسيا وإيران وتركيا، ومنها عرفه الموصليون، وانتقل عن طريقهم إلى بغداد ثم بقية مدن العراق، رأيته في أحد زياراتي إلى إسطنبول مصنوعًا من الخزف.

(يتبع)
علي حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى