د. أحمد الحطاب - لماذا نقول: القرآن الكريم صالحٌ لكل زمان ومكان؟

أولا وقبل كل شيء، أريد أن أنبِّهَ القارئَ أن كل ما سيرِد في هذه المقالة من مضمون هو ثمرة جهدٍ وبحثٍ خاصين. وبالتالي، فهذا المضمون هو مجرَّد رأي شخصي يحتمل الصوابَ كما يحتمل الخطأ. والله ولي التَّوفيق.

ما أريدُ أن أُلِحَّ عليه، هو أن القرآنَ الكريمَ، كما قلتُ ذلك في عدَّة مقالات نشرتُها على صفحتي، ليس كتابَ علوم بالمفهوم الدنيوي لهذه العلوم. ولو كان الأمرُ هكذا، لكان كلُّ ما توصَّلت إليه العلوم الدنيوية من تقدُّمٍ متضمَّنا في القرآن الكريم. لكن لا شيءَ من هذا القبيل موجودٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى. ما يوجد فيه، هو بعض الإشارات لبعض الظواهر الطبيعية. وعندما نقول "فيه إشارات"، فهذا يعني أن البعضَ من هذه الظواهر مُشارٌ إليها في بعض الآيات القرآتية، لكن دون الدخول في التَّفاصيل النظرية لهذه الظواهر.

إن القرآن الكريمَ كتابُ هدايةٍ وإرشاد وموعظة وإيمان وتقوى واستغفار وتواب… وما دام هذا هو الهدف من تنزيله على الرسول محمد (ص)، فهو صالح لكل زمان ومكان. لماذا؟

1.لأننا، عندما نقرأ هذا القرآن الكريم، نلاحظ أن كثيراً من سورِه عبارةٌ عن دعواتٍ من الله سبحانه وتعالى للأقوام الغابرة (أقوام الماضي السحيق) ليهديَهم إلى ما أراده لهم من خير وليُخرجَهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان والتقوى.

2.من بين هذه الأقوام الغابرة، الواردُ ذكرُها في القرآن الكريم، أذكر قومَ نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط ومدين وقوم فرعون. كما أن أنبياءَهم، بالتتالي، هم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، إضافةً إلى أقوام أخرى كأصحاب الرس وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (الفرقان، 37 و 38) أو مصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : "وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (ق، 12، 13 و14). وحسب بعض الأحاديث النبوية، إن عددَ الأنبياء والرسل الذين بعثهم اللهُ للبشر، يفوق المائةَ ألف. وهذا دليل على أن اللهَ سبحانه وتعالى يريد الخير لعباده بهَديِهم إلى ما يُسعدهم دنيا وآخرة.

3.إضافة إلى بعث هذا العدد الهائل من الأنبياء والرُّسل، فإن اللهَ لطيف بعباده، بمعنى أن اللهَ سبحانه وتعالى بَارٌّ بهؤلاء العباد، أي يريد لهم الخيرَ ويهتم بمصالحهم من حيث لا يعلمون ومن حيث لا يحتسبون مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (الشورى، 19). واللهُ سبحانه وتعالى كذلك رؤوف بعباده مصداقا لقوله جل عُلاه : "...إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ" (البقرة، 143). و الرؤوف الرحيم هو كثير الرأفة والرحمة، أي كثير الخير والنِّعمة. واللهُ سبحانه وتعالى كذلك غفور رحيم، أي كثيرُ الغفران، بمعنى أن اللهَ جلَّ جلالُه يعفو ويصفح ويغفر الذنوبَ مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل عمران، 89)، أي أن اللهَ، بلُطفه ورأفته ورحمته، يغفر ذنوبَ من تاب واستغفر وعمِل عملاً صالحاً إلا أن يُشْرَكَ به مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ،(،النساء، 116). فلماذا اللهُ سبحانه وتعالى لطيف ورؤوف ورحيم بعباده؟ لأن الله يعرف أن البشرَ يُخطئون، أي يرتكبون الذنوبَ، ورغم ذلك، فإنه يغفر هذه الذنوب تأكيدا منه على أنه يريد إسعادَ البشر وهِدايتهم إلى ما لهم فيه خيرٌ.

4.كثيرة هي الكلمات الواردة في القرآن الكريم والمستعملة بمعنى واسع، أي أن كلمةً واحدةً قد تتفرَّع عنها أشياءٌ تنضوي تحت جنسٍ genre واحد. مثلا، عندما نقول "نخل"، فالأمرُ يتعلَّق بكلمة عامة وجامِعة sens générique تشمل جميعَ أنواع النخل. وأنواع النخل التي توصَّل الباحثون إلى التَّعرُّف عليها كثيرة ومتنوِّعة. والكلمات من هذا النوع وارِدةٌ بكثرة في القرآن الكريم. من بينها مثلاً : "خير"، "فساد"، "دابة"، "نبات"، "طين"، "طير"، "نِعمة"، "رزقٌ"، "شجر"، "ثمرة"... وعلى رأسِها كلمة "شيء". والقرآن الكريم لم يبيِّن بالتَّفصيل وبالتَّسميات ما هي أنواعُ الخير والفساد والدواب والنبات والطين و… أما كلمة "شيء"، فتشمل كل ما هو موجود على/في سطح الأرض. والشيء يمكن أن يكون ماديا جامدا أو ماديا حيا. كما يمكن أن يكونَ الشيءُ معنويا، أي لا يوجد إلا على مستوى الفكر. وللإشارة، فإن كلمةَ "شيء" توجد في أكثر من 190 آية من القرآن الكريم. فلْنتَصوَّر الآن أن اللهَ سبحانه وتعالى فصَّل هذه الكلمات الواسعة المعنى وفصَّل كلمةَ شيءٍ (ليس بعزيزٍ على اللهِ سبحانه وتعالى أن يفصِّلَ أنواعَ كل شيء مادام هو خالِق كل الأشياء). ولْنتَصوَّر أن اللهَ فصَّل، في القرآن الكريم، كل الظواهر الطبيعية (البيولوجية، الفيزيائية، الكيميائية، الرياضية، الجيولوجية، المناخية، الجوية، المائية، النباتية، الحيوانية، السماوية…). لو حدث هذا التفصيلُ لأصبح القرآن الكريم كتابَ علوم وتطلَّبَ تجميعُه ملايين الصفحات. ولَصَعُب حِفظُه واستيعابُه من طرف العقل البشري. ولفَقََد القرآن المغزى الذي أراده له الله، أي كتاب هداية وهَدي وموعظة وإرشاد وتنوير وتقوى وإيمان…

5.اللهُ سبحانه وتعالى خلقَ الأنسانَ فوق الأرض وأمره أن يعمِّرَها. ومن أجل هذا الإعمار، وهبه العقل وسخَّر له كل الخيرات الموجودة فيها وعليها. ولنتصوَّر الآن أن اللهَ سبحانه وتعالى فصَّل، في القرآن الكريم، في كل الأشياء، فماذا سيبقى للعقل البشري؟ أو بعبارة أخرى، لماذا خلق الله الإنسان و وهبه العقل وأمره أن يعمِّرَ الأرضَ وسخَّر له كل الخيرات الموجودة عليها وفيها؟ لكن الله لم يُفصِّل في الأشياء في قرآنه الكريم وترك مهمَّةَ التَّفصيل في الأشياء للإنسان العاقل. لكنه رسم له الخطوطَ العريضةَ والطريق السَّوي (المستقبم) للوصول إلى ما وصل إليه من تفصيل في الأشياء أو إلى ما وصل إليه من علوم مكَّنته من التفصيل في الأشياء. وهذه حكمةٌ من الله سبحانه وتعالى أراد من ورئها أن يكونَ القرآن الكريم كتابَ هداية وهَدي وموعظة وإرشاد وتنوير وتقوى وإيمان…

6.كل الأنبياء والرسل، عليهم السلام، بعثهم اللهُ سبحانه وتعالى لأقوام معينة إلا محمد (ص) بعثه الله للبشرية جمعاء مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ، 28). "بشيرا"، أي يبشِّر الناس بما أراده لهم اللهُ من خيرٍ. و"نذيرا"، أي يُنبِّه الناسَ بعواقب ما اقترفوه من أخطاء وذنوب. وحتى يتمكَّنَ الرسولُ محمد (ص) من أن يكونَ بشيرا ونذيرا، أنزل اللهُ عليه القرآن الكريمَ ليهديََ الناسَ إلى السراط المستقيم وليس ليّعلِّمَهم كيف يصنعون الأشياءَ وكيف يبنون البيوتَ وكيف يحسِّنون المحصول الزراعي وكيف يُربُّون المواشي… كما جاء في حديث نبوي : "أنتم أدرى بأمور دنياكم"، أي أن هذه الأمور، بحكم التِّكرار والتجربة والفضول، تمكِّن العقلَ البشري من اكتساب الخِبرة الكافية ليصنعَ الأشياءَ وليبنيَ وليُحسِّنَ المحصول الزراعي… وهذا دليل على أن الرسول محمد (ص) بُعِثَ ليهديَ الناس إلى الطريق المستقيم مستعينا بالقرآن الكريم وليس ليعلِّمهم الأمور الدنيوية العملية مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء، 106). والرسول محمد (ص)، هو نفسُه، قال : "إنما بُعِثثُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق".

7.مات الأنبياء والرسلُ ومات محمد (ص)، لكن القرآن لا يزال قائما و معمولا به كنبراس للهداية والموعظة والإرشاد… وقد تمَّت ترجمتُه إلى عدِّة لغات لينهلَ منه المسلمون وغير المسلمين، أينما كانوا، ما هم في حاجة إليه من عبادات ومعاملات.

8.البشرية، بحكم طبعها المتأرجح بين الخير والشر، في حاجة دائمة للتوعية الدينية والموعظة والإرشاد وتقوية الإيمان والتَّقرُّب من الله والمغفرة وتحسين الأخلاق والمعاملات وحسن التَّعايش والتَّساكن والنهي عن المنكر ومعرفة الله وصفاته من لطف ورافة ورحمة وإحسان وعطف ورفق ومغفرة…

كل هذه المعطيات، من رقم 1 إلى 8، تبيِّن بوضوح أن القرآن الكريم كتاب هداية وموعظة وإرشاد… وصالح لكل زمان ومكان ما دام ليس كتاب علوم بالمفهوم الدنيوي كما يدَّعي البعضُ. وسيظل هكذا إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف، 54)، أو مصداقا لقوله سبحانه وتعالى:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر، 9). "لحافظون" تعني أن اللهَ سبحانه وتعالى يحفظ القرآنَ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف ليبقى موجِّها ومُرشِدا لمَن أراد أن يتَّعظَ…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى