مقتطف مصطفى الحاج حسين - رواية (ملح السراب) الجزء 11

الجزء 11

من نافذة اختناقها ، تطلّ على الزّقاق الضّيق ، بشغفٍ جنوني، تتلقَّفُ تلهّفه، قلبها الغضّ يخفقُ بصخبٍ ، ولعينيهِ المتوسّلتينِ تطيّر ابتسامة من دمع . لكنّ وجه ابن عمهّا " رضوان " المقيت ، يبرز فجأة أمام غبطتها فتجفلُ وتصفعها حقيقة خطبته لها ، ترمق خاتمها الذّهبي ، الذي يشنقُ أحلامها بازدراء ، ترتدُّ نحو انكسارها ، تغيب مخلِّفة وراء النَّافذة حسرة في قلب " فتى النَّافذة " .
بعدَ توسّلاتٍ مذبوحةٍ ، وإلحاحٍ مستميتٍ ، تشفق الأمُّ " أمينة " على كآبة ابنتها " سميرة " ، فتفرجُ عن جناحيها لبعضِ الوقت .
يبرقُ قلبها من الفرحةِ ، يذوبُ جليد الرّوح ، وتسري في الأوردةِ مراكب الأماني البيض .. سيلتقيان .. وتتشابك الأصابع بارتعاشها ، تحتفي بخطواتهما الأرض ، تحتضنُ الدّروب فراشات بوحهما والغيوم البيضاء تطال جنون القبلات .
أشهر مضت على إعلانِ حتفها ، خطوبة "رضوان " ابن عمَّها لها ، وهي قابعة خلف كثبانِ أحلامها ، مع خاتمها اللعين ، تراقب باختناقٍ حادٍّ ، تحرُّكات " فتى النَّافذة " القلقة .
ـ أتريدينَ شيئاً من أمِّ " زينب " ؟.
تردُّ أمَّها " أمينة " ، المنهمكة بترتيبِ قبرها الأثير :
ـ بلِّغيها السَّلام .. لكن إيَّاك والتّأخر .. اليوم موعد مجيء عمّكِ من " حلب " ، وممكن أن يأتي معه خطيبكِ " رضوان " .
تندفعُ نحو الباب ، كسحابةِ شوقٍ ، ترقصُ خلجاتها على إيقاعِ الانعتاق ،تسبقها عصافير التَّوق ، متقافزة فوقَ أحجارَ الطّريق المرصوفةِ .
ومن بعيدٍ تلمحُ فتاها " إبراهيم " يتتبَّعها ، فيشتعلُ الصَّهيلُ في نبضها ، يرفرفُ دَمُ إشراقها جناحاها يغرّدانِ ، وهي تقاومُ رغبةً في الالتفات :
ـ مجنونة . . ماذا لو افتضح أمرك ؟. . ستذبحينَ كخالتكِ " سعاد " ، ارجعي .. ارجعي .
تنأى بارتباكٍ شديدٍ عن الحارةِ ، تَتَغَلْغَلُ في أزقَّةٍ متطرِّفةٍ الخوفُ يثقلُ قدميها ، أنفاسها تزعقُ برعبٍ :
ـ ارجعي .. ارجعي .. قد يصادفكما قدوم ابن عمَّك " رضوان " مع والده عمَّكِ ، زوج أمّكِ .
تتباطأ حائرة ، وبعيونٍ متلصّصةٍ تمسحُ المكانَ من حولها تلتفتُ ، تتمهّلُ ، لتقصّرُ المسافة ، بينها وبين الحبيب الحقيقي " إبراهيم " .
يتصاعد الخوف مشوباً بالحذرِ في قلبِ العاشقِ المتيّمِ " إبراهيم " ، تنبتُ في قلبهِ أنيابٍ شرسةٍ ، مدركاً خطورة المغامرة ، يمسك خطاهُ عن حبيبتهِ " سميرة " :
ـ لن أقامر بها وبي ، لن أشاطرها جنونها ... ماذا لو طاوعتها
؟!.. سيقولُ أبي : فضحتنا يا كلب ، جلبتَ لنا الدَّمار ،ولأهلها العار ، ثمَّ هل تجدنا قادرينَ على مجابهةِ عائلةِ " الرَّضوان " ؟! . . عشيرتهم كبيرة ، ونحنُ عائلة بسيطة وصغيرة
سيقتلونكَ ، خطيبها " رضوان " وهو ابن عمِّها ، ووالده متزوّج من أمّها ، هو بحدِّ ذاتهِ حيوان متوحّش ، فماذا تَتَوقّع منه ، حينَ يعلمَ بعلاقتكَ مع خطيبتهِ ؟!.. سيقتلكَ ، ونحنُ لن نموت من أجلكَ ، ومن أجل قلبك الطَّائش .
بجوارحٍ مشرئبَّةٍ متيقِّظةٍ لوصولهِ ، تتخيَّلُ ما سيدورُ بينهما من حوارٍ :
ـ مرحباً .
ـ أهلاً .
مُتَحَرّراً من تلعثمهِ ، حاثَّاً خطاهُ بمحاذاتها :
ـ كيفَ الأحوال ؟.
وبنزقٍ تضعُ " سميرة " ، حدّاً لمقدِّماتِ " إبراهيم " :
ـ " إبراهيم " ، يجب أن نجدَ حلَّاً .
أفاقتْ " سميرة " ، من شرودها ، على تأخرهِ ، شارفتْ على تخومِ البلدةِ ، بجرأةٍ تستديرُ ، فتصطدمُ بخيبةٍ متوحِّشةٍ ، تنقضُّ على جناحيها الأبيضينِ ، حينَ لا تبصرُ أحداً يتعقَّبها .
ينتحرُ بريقُ عينيها ، أغصانُ بهجتها تَتَقَصَّف ، يجفُّ نسغ الانعتاق ، وتتهشَّمُ مرايا السَّماء ، فوقَ قفار روحها بينما تجأرُ أعماقها النَّازفة :
ـ آهٍ " إبراهيم " لماذا الفرار ؟!.
في زقاقٍ مُتَهَدّمٍ ، تلمحُ الشَّمسُ الأفلةُ ، فتى النَّافذةِ العاشق " إبراهيم " ، لاهثاً بانهزامهِ ، يجرُّ غُصَّته بمشقّةٍ ، وفي وجدانهِ الجريح تتعاركُ الأسئلة :
ـ سامحيني يا " سميرة " ... لن ألحقَ بكِ العار . أهل بلدتنا لا يعرفونَ الرَّحمة ، ليتنا يا " سميرة " وُلِدْنا على كوكبٍ آخر .
تعودُ " سميرة " مضرَّجةً بخيبتها ، تعرجُ على قبرِ صديقتها " زينب " ، كاتمة أسرارها ، تحملقُ الصّديقة في أخاديدِ الدَّمع في وجهِ " سميرة " ، وتشهقُ بالسؤال :
ـ هل التقيتما ؟!.
تندُّ عن أوجاعِ " سميرة " ، صرخة مسكونة بالموتِ :
ـ انهزم !.
تَتَكوَّرُ الصّبيَّتانِ ، المنكسرتا الأجنحة ، تبكيانِ أحلامهما بضراوةٍ ، ذليلة تنكفئُ الشَّمس، وبفظاظةٍ ينبثقُ ليلٌ من عويلٍ أسودٍ ، يُسربلُ حلمَ المدينة *.
يتبع.. / 12 /والأخير
مصطفى الحاج حسين
حلب



ملح.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى