تربة بنت عمار - تيه الذكريات.. قصص

1- تيه الذكـريات
عندما كان ينتظر الحافلة، في منتصف النهار أمام بوابة جامعة نواكشوط في رحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية، تاهت به ذكرياته وآماله بعيدا حتى أذهلته عن موقفه في لفح الحر وزحمة النقل وضيق ذات اليد، إنها سحابة من اليأس والغم وتزجيها غمامة من التشاؤم والضجر تظل سماء محمود هذه الأيام الأواخر من السنة الجامعية، لأنه مشغول بإعداد رسالة تخرجه.

وأكيد أنه ركام من المشكلات يعترض طريقه بعد ذلك التخرج، أسرة كثيرة العيال، وحب شاب في صباه.

انقطع حبل تفكيره بوقوف الحافلة، قرب قدميه مع تلويح المحصل(انكسر) صحبة شيء قليل من الرغبة لمجرد أنه طالب، وجد أمامه حافلة مكتظة بالركاب ولم يجد إلا موطئ قدم إحدى رجليه، ومقبض أصابع إحدى يديه، أما يده الأخرى فقد أمسك بها مذكراته الجامعية، وهذا لم يكن بالأمر الغريب في حياة محمود الطلابية، ثم واصل شريط خواطره وذكرياته، وبدت قضايا حياته المستقبلية الكبرى تبرز أمامه كأنها أشباح مخيفة تطارده: العمل ومسؤولية الأسرة والزواج.

ومما يخيفه أكثر فأكثر أن يرى ليلى عروسا مزفوفة بزينتها كلها لغيره: إنها خطوط حمراء تحت تلك العناوين الثلاثة، وقوف الحافلة لتقف معها أحلام محمود الشارد نصفها لينزل منها، ويتجه صوب منزل أخته أم كلثوم القاطنة في حي البصرة، وهو أحد الأحياء الشعبية بانواكشوط.

وما هي إلا أيام قلائل، حتى كان اسم الشاب محمود من ضمن الناجحين لكنه لم يستحق منحة، أغلقت كليته أبوابها، وسافر إلى قرية أهله: مستوصيا زوج أخته بالبحث له عن عمل ولكن من هو صهره هذا؟. إنه رجل خمسيني، قصير القامة أسمر اللون يظن نفسه مثقفا ومطلعا علي القضايا المعاصرة.

ولكن حقيقة الأمر أنه ساذج، إذ يناقش مختلف القضايا بثقافة متواضعة، يظل معظم وقته ملقي علي ظهره يثرثر عن زملائه ممن يعتقدهم شخصيات هامة، مع أن محمودا لا يعير أي اهتمام له.

قبل أن يصل محمود قرية أهله الريفية الجميلة التي تبعد عن مدينة عاصمة ولايتها وسط شرق موريتانية حوالي ستين ميلا، على جانب الطريق.

وعند ما كان جالسا علي أحد الكراسي الأمامية من سيارة أجرة، كان في تلك اللحظة تسلمه الفكرة إلي الأخرى ويحسب للمستقبل ألف حساب.

وطبيعي أن تكون حالته تلك شبكة من التشاؤم تارة والملل طورا آخر، والتفاؤل بأماني قليلة جدا.

إنه ابن السادسة والعشرين، أبوه شيخ بيطري متقاعد وتسعة من الأخوة ما بين الإناث والذكور، ينتظرون محمودا ليفتح لهم أبوابا من قصور السعادة: خمسة بنات لم تتزوج منهن إلا أم كلثوم وأربعة إخوة صغار، يكبرهم عبد الله الذي لما يتجاوز الخامسة عشرة، أما محمود فهو الابن البكر للعائلة، مما جعله فريسة لليأس وساحة للأمل، وحبه لابنة خالته (ليلى )هو ما يأخذ بمجامع قلبه.

إنها ملاك استولى على وجدانه، وأحكم ربقة فؤاده اشتعلت في جنانه هذه المشاعر وهو يخاطب نفسه: لابد أن أختم مشهد مهزلة حبنا الذي استحال جحيما بعد أعوامه الأولي،ثم أغمض جفنيه وأحنى رأسه خلف، واستسلم لرنين وحنين ذكريات الماضي الجميل مرتسمة أمام عينيه لوحة باسمه من زهور السنين الخوالي لتقترب منه صورة ليلى رويدا رويدا، وشيئا فشيئا متجلية أمامه تلك الصورة واضحة تامة.

2- استذكار لحظة اللقاء:

كان اللقاء الذي جمع نفسيهما أول مرة زوال الأربعاء 15 من شهر تشرين، بعد عودتها مباشرة من المدرسة تحمل حقيبتها وتلبس ملحفة ذات لون بني، وهي يومئذ ابنة الثالثة عشرة، بيضاء اللون ربعة القامة، هي إلى الطول أقرب، ناعمة الأطراف، سبطة الأصابع، مهاوية العينين، ذات شعر أثيث فاحم، مرسل خلفها بتسريحة جذابة تفوح من كل جسمها رائحة مسك أنثوي رقيق، ضوعته رائحتها الطبيعية، فبدت أنيقة رشيقة فتانة، لكن سحرها الحقيقي هو كامن حين تشرع في الحديث المتواصل، إنها ثرثرة لذيذة تقطعها ضحكات عذبة على المسمع، تدخل شغاف القلب موغلة داخل أعماقه دون استئذان، كأنما يذكر وقع كلامها سحر البيان الذي يقول فيه ابن الرومي:

تقول هذا مجاج النحل تمدحه! = وإن ذممت فقل قيء الزنابير
مدح وذم وعين الشيء واحدة! = سحر البيان يري الظلماء كالنور

ليس بيان ليلى من جنس الإبلاغ الذي يشير إليه البلاغيون، وإنما هو متجل في المنظومة البريئة من الكلام المراهق الذي تحسبه محيطا بكافة تصوراتها حالئذ، وتحسن التعبير عن ذلك، إن بيانها هو براءتها، واعتقادها الصدق فيما تقول.

3- وقع المفاجأة:

كم كانت مفاجأتها بعد عودتها من المدرسة متأبطة حقيبتها، إذ وجدت محمودا، هذا الضيف الحدث يجالس أمها، ولما يبلغ عمره الخامسة عشرة، فارع القامة يميل إلى النحافة ناصع بياض البشرة، بهي الطلعة بالغ الوسامة، يلبس " دراعة" بيضاء ويرتدي قميصا رماديا.

إن سمت محمود ينتزع هيبة خفيفة الظل في النفس، وما إن دخلت ليلى الدار، حتى ابتدرتها أمها قائلة:

سلمي يا ليلى على ابن شقيقتي محمود، وواصلت الأم مسترسلة: لقد قدم لدخول المدرسة بعد أن حفظ القرآن الكريم ضبطا وتجويدا، ثم أردفت ممازحة نزيلها وابن شقيقتها، يشرفني أنه طالب علم سيزاوج بين المحظرة التي تمثل تعليمنا الأصيل، والمدرسة العصرية التي يعتبر دخولها مفتاح المعاصرة نفسها، وعليه فإن ذلك سيثمر أخصب النتائج، ويجعل ابن أختي متمثلا للأصالة والمعاصرة معا.

مرت هنيهات ، وليلى سارح خيالها شاخص بصرها فلم تتمالك بعد ذلك إلا أن افتر ثغرها عن ابتسامة رائعة:

- آه كم التهبت شوقا إلى ذلك اليوم الأغر المؤذن بقدومك إلينا قصد الدراسة، وعند ما كنت أخطف من أمي أنك آت أحسست بقرب نفسي لا يقاوم، يشدني إليك شدا، مما ساقني إلي أن أدنوا منك لأصافحك، بيد أن أمي نبهتني تنبيها خفيفا أن قرابتي منك أخوية خوؤلية لا محرمية.

4- بـداية حـب:

أحست ليلى بتحول عاطفي يغزو عالمها الصغير، دون أن تحدد طبيعة المشاعر التي انتابها، وإن كانت قد استلذتها، وكأن شيئا ما تسلل إلى قلبها وتحول إلى بديل مستحب، أما محمود فكان تلك اللحظة لا يدري أي المواقف يقفه؟! وما طبيعة دبيب شعور أخذ يعانق نورا أضاء جوانبه أول مرة بعد عالم ناء عما ألفه من حياة في قريته الريفية، وهو يزمع الالتحاق بالصف الأخير من المدرسة الابتدائية.

5- رب ضـارة نافعة:

كم كانت مشاعره نهبي لألم الفراق وتوديع أحبة قريته متمثلا قول المتنبي:

حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا! = فلم أدر أي الظاعنين أشيع

وعواطفه التي أشعلها لقاؤه الأول بليلى، والذي سيؤذن بميلاد غرسة الحب الأولي التي رتقت قلبيهما الصغيرين.

وكان تلك اللحظة خجولا، وكانت دقات قلبه تتسارع متتالية الوجيب، لا يدري كيف يجلس جلسته ولا كيف يعرف أول كلمة ينبس بها، مما جعله يضطرب وجدانه ويرد سلاما قصيرا في لغة طفل بريئة.

جلست ليلى غير بعيد منه، بجانب أمها تثرثر وتسأل سؤالا متتاليا عن ذويها في القرية، دون أن تنتظر أن يحير محمود جوابا.

كانت ليلى آنذاك في الصف السادس الابتدائي، وهي الأنثى الوحيدة لأبويها، أما أبوها أحمد فكان أستاذا في المملكة السعودية، وأما أمها زينب فكانت تكتفي أن تبقى في بيتها لتربية أبنائها، وأما إخوتها الذكور فكانوا أربعة أكبرهم إبراهيم قنصل بجدة، وأما الآخرون فأحدهم دكتور في الآداب، والآخر يتاجر تجارة المقسط، وأما أصغر إخوتها فطالب في تونس، أما ليلى فكانت تصغر إخوتها أولئك جميعا.

وقد أنجبتها أمها بعد ما بلغت سن اليأس- كما يقول الأطباء- وهي سن الخامسة والأربعين، وإن كان الوسط الريفي الذي نبتت فيه ليلى لا يعير أي عناية لتلك السن، بناء على المنظومة الميتولوجية لأهل الريف العميق الزاعمة أن ذوات المحاتد العريقة يظللن ينجبن حتى ولو بلغن من الكبر عتيا.

إن مترعرع ليلى جعلها- وهي فتاة غر- تحس تدليل أهلها، وإطباقهم على حبها فكانت لعوبا شغوبا تشعل الفوضى في قسمها، ولا تبالي بطرد معلميها لها عقابا لما اقترفت يداها من تجسير التلاميذ على معليمهم، واخترق ذلك الحجاب الصفيق بين هؤلاء وأولئك.

وإن كانت فتاتنا الغر تعي جيدا أن معلميها- وإن تظاهروا بالعقاب- إلا أنهم في طواياهم يستعذبون نزق ليلى، ويستمرؤونه.

لقد اقتضت متابعة ليلى دراستها، من والدتها وهي ابنة وسط محافظ عريق أن تسافر من قريتها وتسكن معها قطعا للألسنة الهامزة اللامزة المتربصة وطمأنة لليلى ذاتها.

وكانت دنيا الأب والأم والأخوة يومئذ، تقام ولا تقعد من أجل أن تعيش ليلى حياة هنيئة تملؤها سعادة غامرة ويشع منها لألاء العلم.

6- سفينة الحب تمخر العباب:

يوم عاطفي خالد ذلك اليوم الذي انطلقت فيه سفينة حب عذري، تصارع أمواج عاطفتي محمود وليلى المراهقين، لتتخذ تلك السفينة من الأيام ذخيرتها وديمومتها وتألقها، ما نهاية هذا الإبحار؟ أي مآل سيؤوله أزواج أو فراق، لا يهم لقد قرر أن يبحرا: كما يقول نزار قباني:

الحـب ليس روايـة شـرقية! = بختامهـا يتـزوج الأبطـال
لكنـه الإبـحار دون سفينـة! = وشعـورنا أن الوصـول محال
هـو هذه الأزمات تسحقنا معا! = فنمـوت نحـن وتزهر الآمال
هـو أن تظل على الأصابع رعشة! = وعلى الشفاه المطبقات سؤال!

من يبادر بالوشاية عن الحب؟ إنها ليلى التي اختزنت بواكير شخصيتها ملامح الجرأة واستباق المواقف، فكانت هي المبادرة السباقة إلى تلك- وإن آثرت أن يكون ذلك على سبيل التلميح والإشارة-، لكنها توخت أن يكون ذلك تعبيرا مفهوما أمينا لإيصال تلك المشاعر الأنثوية الرقيقة البريئة.

أما محمود فكان في أسابيعه الأولى شاكا في صدق حبها إياه، معتبرا كل ما تقوله، أو تشير إليه أحابيل ألفاظ، ضمن طنطنة وحركة بهلوانية طفولية، بل لعله يحس أنه في منازلة الحب يفوقها، لكنه آثر كتمانه، وألا يستعجل وقاره، فأبقاه ذلك على رزانته وإن كان – كما يقال ويل للخلي من الشجي- إيراد لمثل مشعر بحاله محمود التي يراها خلطاؤه كما لو كانت هادئة، بينما داخله يغلي بركانه عاصفا بأعاصير الأفكار والأوهام والأشباح، التي تتخذ من ليلى محرابا.

7- بيـت ليلــى:

وداخل ذلك البيت الميسور أحكمت آصرة الحب قلبي هذين المخلوقين: محمود وليلى.

لقد استحال ذلك البيت والمدرسة إلى عيش يؤوي إليهما هذان الفرخان، وإن كان يطيران بأجنحة الشوق التي تلتهب، كأنهما كوكبان لا علاقة لهما بالمنزل وبقية الأسرة.

كانت المدرسة أحد هذين الوكرين، وأما المنزل فهو حلبة عاطفية لكليهما: دار واسعة تتوافر علي كل وسائل الرخاء والاستجمام، يسكنها أفراد قليلون، مما أشاع فيها هدوءا كاملا، لا يكاد يقطعه شيء، وكان محمود يستبقي لذلك البيت أحلى الذكريات، إذ شهد أول تعانق وتمازج لنظراتهما.

كان ذلك عندما حل ضيفا على خالته، وكانت نظرته الأولى لليلى انفتاحا لا متناهيا على عالم جديد في مسارح أحاسيس قلبه، وإن لك يكن ذلك أول لقاء بينه وبينها، إذا لا ينسى منذ أعوام حفيت قريتهم بزيارة أبوي ليلي جدتهما، وهي لما تبلغ سن العاشرة يومئذ وقد استضافا وأبويهما خالها محمد، لكن محمودا كان حين ذاك مشغولا بتجويد القرآن الكريم علي محمد المذكور شقيق أميهما، وقضت ليلى وأبوها نصف العطلة الصيفية في منزل واحد مع محمود، لكن شعوره لم يجاوز العتبة العادية إلى آفاق وجدانية، بيد أن الأمر مختلف هذه المرة تماما عن سابقه.

كانت الدقائق والثواني شجرات من الورود والياسمين تميل نشوى؛ ليقطف من رحيقها هذان الحبان صبابة يمكن أن يقال إن محمودا أذكى من ليلى في إخفاء تباريح شوقه، إذ يرى أن خالته – وإن كانت تحتضنه أعماقها- إلا أنها وهي سليلة بيت عفة ومحافظة، لا يمكن أن تغفل عين رقابتها عن هدير حب غامر يكتوي به هذان الصغيران، ولو بقي هذا الحب متلفعا بجلابيب العفة والاحتشام والطهر.

وكانت تستند هذه المحافظة دراية جيدة من الثقافة العربية الإسلامية لهذه الأسرة؛ تتمثل في حفظ معظم أفرادها القرآن الكريم، والاطلاع الذي لا بأس به علي الفقه والسيرة النبوية وأيام العرب وأحوالها في الأعصر الخوالي.

وقد أبحر محمود بسفينة حبه ورسا في شاطئ عذري جعل ليلى تشك في غرامه بها أول الأمر، وتدور الأيام دورتها، وبدأ السر الذي أخفته جوانح المتصافين تصفحه لواعج الشوق الذي يحترق به محمود وليلى، وبدأت خالته تحس بشيء خفي بينهما، مما أيقظ هاجس التوجس والريبة، فشرعن تتحسس من أمرهما- وإن كانت ما تزال ترتاب، أصاديق حدسها أم كاذب؟- وربما حانت منها التفاتة مراقبة تلقيها خلسة، لعل شكها يقطعه اليقين في أوقات مختلفة، آنا من ليل وأطرافا من نهار.

أما عندما يكونان داخل القسم فإنهما يجلسان علي طاولة واحدة متظاهرين كما لو كانا شقيقين خرجا من رحم واحدة، لكنها في كنهها رحم عاطفية شدت روحيهما معا، وكانت ليلى تغازل محمودا هامسة- حتى في اللحظة التي يكون فيها المعلم قريبا منهما-، وإن كان هذا المعلم لا يلقي بالا لذلك لتعوده من ليلى تلك الحركات البهلوانية، كيف لا وهي شيطانة القسم التي يغضب سلوكها، وتستعذب براءتها "الطائشة".

وفي أحد الأيام الأواخر من السنة الدراسية، وبينا كان محمود وليلى عائدين من المدرسة ابتدرته ليلى:

- محمود هل تحبني حقا؟ - وكانت كل جارحة منها تستعجل جوابه ليتك تحبني حقا-.

- هل تبادلني حبا بحب وغراما بغرام؟، يقول المتنبي:

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ربه! = وبالبين فهو الدهر يرجو ويتقي

- محمود: لن أجيبك على سؤالك الساذج، إلا إذا قضينا معا العطلة بالقرية في أحضان جدتنا وعندئذ ستستبين الحقيقة، وسأصدقك القول.

أطبقت ليلى جفنيها، كأنها تحت سورة خمر سكرى، ثم ضحكت قليلا وقالت سأستأذن من والدتي عساها أن تقبل قضائي العطلة في القرية، وما إن وصلا إلى البيت حتى عادا من كوكبهما الغرامي وبدوا كما لو كانا تلميذين ألحمتهما وشائج القرابة وزمالة الدراسة فقط.

8- نهايـة السنة الدراسية:

انقضت السنة الدراسية وكان محمود من بين الناجحين، أما ليلى فقد شغل قلبها بهذا الحب المدنف؛ مما صرفها عن العناية بدراستها، وكان منطقيا- والحالة هذه- ألا يصادفها النجاح في الامتحان.

قضت الظروف أن تفرق بين الاثنين، ليس في المضاجع في البيت، وإنما في مقاعد الدرس، مما كان له أبلغ الوقع علي قلبيهما المعذبين.

عاد محمود إلى قرية أهله الريفية وبدأت بشائر فصل الخريف تلوح في سمائها الصغيرة الجميلة الهادئة الملبدة بغيوم أمل خريف ممطر ممرع.

وقرية محمود هي مجموعة أبنية عريقة ذات هندسة معمارية تقليدية، تتجاوز فيها المنازل الطينية والخيام والأعرشة، وإن كانت لا تخلوا من بعض الدور المبنية على الأسمنت المسلح، ومما يزين هذه القرية ويبهيها في عين الزائر حدائق النخيل هندسية بديعة. والخمائل المنتثرة دوحاتها مصارعة الكثبان الرملية التي تشع حباتها لونا ذهبيا زاحفا على النجود، أما قطعان الإبل والبقر فتسيم في منتجعاتها غير البعيدة عن القرية ليروحها الرعيان ليلا، كم هي جميلة ورائعة تلك القرية!! في فصلي الخريف والشتاء، إذ تتعانق الحقول بخضارتها وحبوبها مع زرقة السماء، ووهج الرمال الذهبية، وواحات النخيل الغناء، إنها حقا قطعة خضراء من جنة الفردوس، وكم لبست هذه القرية حلة قشيبة هي أجمل يوم 26 من شهر تموز! وذلك عند ما حلت ليلى بربوع القرية لتقضي العطلة مع جدتها يلفها حانان خالها محمد وخالتها عائشة أم محمود، ودفء مشاعر بنتي خالتها: شقيقتيه: زينب ومني، أما زينب فكانت تربها وصديقة طفولتها، وأما مني فإنها تصغر ليلى بسنتين، لكن ما أرغم ليلى علي زيارة القرية هو أن تلاقي محمودا الذي شغفها حبا وعلق قلبها بقلبه، لعله يشفي غليل سؤال- ما انفك يلح عليها- وهو هل يحبها حقا؟!

9- كيف كانا يقضيان وقتيهما:

ما إن التقيا حتى أحسا كأن الزمان شلت حركته، وكان ليلهما سمرا لذيذا يتخاطفان حتى تلك الساعات المتأخرات من هزيع الليل، وكانا يصغيان- كأنما علي رأسيهما الطير- لجدتهما وهي تروي لهما غرائب الحكايات والطرائف والأحاجي القديمة، وكانت تلك اللحظات- التي يسهو فيها الرقيب- هي أعذب ما في وقتيهما، وكانا بين الحين والحين يتناجيان نجوى مسترقة، لها أعظم الوقع عليهما، وكانت ليلى تجلس قريبا من محمود، ونسيم ذاك الجو الريفي يداعب روعة سحر أنوثتها وهي تصنع الشاي على الطريقة التقليدية، أما خالهما محمد فكان كثير الانشغال خارج القرية بتدبير أمور العيال، ومرافقة سائمته مع الرعيان.

أما زوجته نفيسة وهي بنت الثلاثين فهي ريفية بريئة أقرب إلى السذاجة، لا تفهم الأمور إلا إذا كتبت بالمهارس- كما يقال-، ولم تدر هذه المسكينة الساذجة- أنه تحت سقف بيتها- دون محمود وليلى فصول قصة غرام، لم تحس منه بشعرة مثل جدتهما العجوز.

أما أختا محمود: زينب ومني اللتان كانتا في سن ليلي وهما أيضا صديقتاها، وبحكم كونهما تقضيان جل أوقاتهما معهما فقد كانتا على علم بخفي حبهما، لأنهما كانتا تحسان ذلك، وربما فاتحتهما ليلى من وقت لأخر بما فضل عنها من مشاعر الوجد والغرام لمحمود.

كم بلغت سكرة الحب حمياها تلك الأيام بين العاشقين!! لا يفترق جسماهما إلا ساعات قليلة من النوم، ليلتقي طيفاهما فيه، وربما يقع بينهما شجار يحفظ ليلى، ولكنه غضب يستعذبه محمود؛ مما يهيج مشاعره ويذكي مغناطيس حبها في قلبه، لكن ليلى " الثرثارة" التي تظهر الدلال لمحمود ما تنفك تتهمه بأنه لا يكتوي بحبها كما هي مكتوية، مع أنها في مكنون فؤادها تدرك أن كل ذلك ظلم وجداني له، ولكنه مظلوم يحب ظالمه وقتيل يحب قاتله، كما يقول جميل بثينة:

خليلي-فيما عشتما- هل رأيتما! = قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟!

لقد بلغ حب محمود لبنت خالته أن كل جارحة منها كانت تتحرك في قلبه- حتى ألوان ملاحفها وأحذيتها- محدثة تراقصا في عينيه ووجادنه، مشكلة صرحا من الخيال والعفة والمشاعر والأحاسيس، أو من اللامعقول،أو من عالم مجنون ساحر غرق محمود في عمق لجج غمرته، سن المراهقة حتى أصبح يعيش عالما غريبا عن محيطه، فهو الأليف الغريب، لقد كانت دورة الزمن محناة مخضعة لهما، وهما تلميذان يختلفان إلى المدرسة، وأما المدة التي يقضيانها في الطريق إلى المنزل فهي فسحة يتخفف فيها هذان الصغيران من أعين الرقباء، ليتفاتحا، ويتشاكيا، ويتعاتبا، (ويبقى الود ما بقي العتاب)أوفي العطلة الصيفية إذ يقضيان بقريتهما الريفية في كنف جدتهما الحنون، حتى امتزجا وتروت دماؤهما من معين شوق لا ينفد.

يقول ابن الرومي:

أعانقهـا والنفــس بعـد مشوقة! = وهـل بعـد العنـاق تـدان؟!
وألثم فاها كـي تزول صبابتي! = فيشتـد مـا ألقى مـن الهيمان!

وفي إحدى العطل التي قضياها في قريتهما الريفية مع جدتيهما: أيامها الأواخر، كانت ليلى جالسة وقت الزوال عند أهل محمود مع شقيقاته، وقد خضبت الحناء يديها الجميلتين، وأشاعت الناقشة فيها ألوانا من الخطوط المزخرفة التي تنسرب فيها خيوط بيضاء تخترق سواد الحناء مما خطته هذه الناقشة من بديع صنعها وزينته هذان اليدان بأصابعهما المحمر بنانها، فكان أن التقى اللونان: الأبيض والأسود في يدي هذه الفتاة المشبعين بالبراءة والنزق الطفولي العذب.

وكانت تلك اللحظة تلبس ملحفة ذات لون مائل إلى بياض، وقد زينت معصمها ساعة ذهبية تشع منها أضواء مرجانية ساطعة.

ومما أحال ذلك اليوم حالما شاعريا هو ذلك الغمام الذي لبد السماء؛ فتقاطرت رذذات منه، حملها نسيم عليل، فكان حقا ذلك اليوم من أجمل أيام الخريف كأنما الطبيعة مستنفرة في مهرجان لتودع ليلي محمود.

ولم تكن هذه اللوحة المكونة من سحري ليلي والطبيعة لتغيب عنه فلم يتمالك نفسه، ورماها بقصاصة كتب فيها:كم أنت جميلة ساحرة رائعة! جننت بحبك أتاهني!، لك عذوبة الأطفال: كما يقول الشابي في " صلواته بهيكل الحب".

كانت تلك المغازلة الرقيقة في منزل أهلهن غير بعيد من أبويه لكن دون أن يشعرا، أما أخواته فقد أحسسن بعض الخجل.

لم يكن محمود طائش التصرف عادة، لكنه هذه المرة لم يستطع أن يغالب سحر ليلي، وعبق أنوثتها، فكان أن استسلم لسلطان الهوى.

مضت سبعة أعوام، والزمن غلام طيع لهما جنبهما حذرهما الطفولي البريء من صرامة والدة ليلي وغضبها.

وفي أحد الأيام الأواخر من السنة الدراسية، ومحمود مستنفر لخوض امتحان الباكالوريا في المدينة، وليلي في السنة الخامسة الثانوية.

- محمود لليلي: كيف يتصور الفراق بيننا وأنت جزء من كياني؟. أقسم إنك رئتي التي بها أتنفس، والماء النمير الذي منه أشرب.

أطرقت ليلي إطراقة من اخترق حديثه حجبها ولم تعقب!

نجح محمود في امتحان الباكالوريا، وذهب في منتصف العطلة إلى نواكشوط، لأن العطلة- هذه المرة- لم تدم طويلا لأن ليلى لم تقض منها إلا القليل، بمعية والدتها، ثم عادت إلى المدينة، وذاكرتها تختزن نصائح أمها، استعدادا لخوض شهادة الباكالوريا، أما محمود فقد أخذ يستعد للتسجيل في كلية العلوم الاقتصادية والقانونية.

هكذا نسجت أيان محمود وليلى بألوان مغايرة تماما لأعوامها السبعة المنصرمة، التي تقضت، لتحل الفرقة محل الوئام والوحشة محل الأنس، وتأججت نار الصدمة التي انتصبت جبلا شامخا أعاق أحلاما لذيذة، حتى كادت روحا هذين لمولهين أن تصعدا، وكان ذلك عندما كان محمود في بداية سنته الأولى من دخوله الجامعة ، يعد الثواني والدقائق، ويسابق الزمن، لعله أن يطلق ساقية للريح، لينال لقاء من ليلى في العطلة بقريتهما.

لكن المثل (من تأنى نال ما تمنى) لم يصدق هذه المرة، يقول المتنبي:

مـا كـل مـا يتمنى المـرء يدركه = تجري الـرياح بما لا تشتهي السفـن

وسيقف زورق الحب الصغير على مجادفه، وقد هزته أمواج البحر العاتية.

10- قدوم والد ليلى من جدة:

كان لرياح ليلى ومحمود أن هب منها إعصار عودة والدها من جدة، وهي- وإن كانت تتمنى ذلك- إلا أنها أضمرت في نفسها بعض المرارة، إذ أن عودته ستجعل البيت ساحة حراما أن يقع فيه أي لقاء بينها وبين محمود، ولو تدرع بالبراءة والعفة.

لقد قضى والدها ثمانية أعوام كاملة، وصادف مجيئه أن ليلى مشحونة بوجدها، وانتظارها بفارغ صبر- قد عيل- نتائج الباكالوريا، التي لم تكن لتبشرها بالنجاح.

بعد ذلك أخرجها من الثانوية مبديا بعض التوبيخ، ومظهرا الأسف علي إحباطها في الإمتحان.

ما إن عاد أحمد: والد ليلى، واستراح أياما قلائل من سفره الشاق، حتى طوت عائلتها رحالها من المدينة، ميممين قريتهم الريفية الصغيرة، التي استبق والدها مجيئهم إليها ببناء دار كبيرة بديعة المعمار منذ سنوات، لم تخل هندستها من لفت أنظار بداة القرية الذين لم يعتادوا مثل هذا البناء، كما بنى مسجدا ومحظرة قرآنية ودكاكين واقعة على الطريق الرئيس فيها؛ مما أدب الحياة، ومنحها وجها اقتصاديا وحضاريا، ما كانت لتعهده سابقا، مما قطع ذلك الهدوء الذي خيم عليها زمان طويلا.

ولأن معاشر الموريتانيين قوم يحنون – بحكم نشأتهم- إلى البادية، فقد أراد أحمد أن يضرب بسهم وافر في ذلك فكان له قطيعه من الإبل، وبعض السائمة الأخرى، وكان ما ينفك يتعهدها وارعيها من وقت لآخر ممتطيا عابرة صحراء يابانية (Pajero).

11- تغير حياة ليلى:

اتخذت حياتها لونا مغايرا، لما كانت عهدته، وأصبح والدها صارما في تضييق الخناق عليها، واستقال من عمله في جدة، ليتفرغ للتدريس والإفتاء في قريته: موطن آبائه وأجداده، وأصبحت ليلي رهينة محبسين: الغرام المؤرق، وتضيق والدها عليها.

- آه ما أغرب الأيام!

جملة قالها محمود عند عودته إلى القرية؟، وهو يقضي عطلته الصيفية فيها، ملاحظا هذا التغيير الكبير في حياة منزل ليلي.

مرت أيام بطيئة مملة دقائقها، وهي شارد ذهنها شاحب وجهها، لم يعد لها ذلك النشاط الطائش الحلو، الذي تسحر به خلطاءها بل إن محمودا كان عند ما يزور خالته في منزلها الكبير الميسور، وهو إنما عينه على ليلي، يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي دلالة على لغة العاشقين تلك:

إذا جئت فـامنح طـرفك غيرها! = لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر

يرى إنسانته، وهي لا ترد سلاما، ولا تجيب كلاما خوفا من سطوة أب، أخذ يعد عليها أنفاسها، مما جعل أوقات اللقاء خاطفة (أندر من بيض الأنوق)كما يقال.

وكانت ليلي تكتفي بزيارة جدتها وخالتها مرة واحدة في الأسبوع.

لقد أصبح محمود وليلي يعيشان ألم هذا المحبس الجديد.

إن تعذر اللقاء بينهما كان هما يغتمان به في غفلة من الجميع، وعندما يلتقي محمود بوالد ليلي في مسجده أو منزله يحس بضيق شديد، حابسا أنفاسه منتقيا كلماته، حتى لا تبدر منه زلة لسان تكشف سرا طواه بين جنبيه، وإن كان والد ليلي يلقاه بالترحاب هاشا باشا، مبالغا في إظهار الحفاوة والتقدير، كأنما شعر بحاسة سادسة، أنه إنما يعتذر عن ذنب جناه في حقه، وليست هذه الحفاوة بمستغرب أن يخص بها محمود؛ الذي يجمع أهل القرية علي حبه، إذ يرون فيه مثالا رائعا للشاب ذي الأخلاق الحسنة الموطأ الأكتاف.

12- سـفـر محمود:

قبل أن يسافر إلى نواكشوط لاستئناف دراسته الجامعية بالسنة الثانية؛ كتب بيتين من شعر نزار قباني علي قصاصة صغيرة بخط دقيق، وبعث بها إلي ليلى مع أحد أولاد جيرانها:

أنا هنا بعد عام من قطيعتنا! = ألا تمدين لي بعد الرجوع يدا
ولا تقولين ما أخبارها سفني؟! = أنا المسافر في عينيك دون هدى

لم يقع البيتان علي ذلك الطائر المهيض الجناح شوقا وإنما التقطتهما يد، لم يحترق صاحبها، نزل البيتان علي قلب والدها كالصاعقة، إذ قرأ- مما وراء السطور- أن في بيته من يغازله الآخرون، وإن لم يعرف من كتب البيتين ، مما جعله يضاعف أسوار الرقابة، وعيون التيقظ الراصدة لليلى، وظل سور الرقابة مضروبا، حتى سافر محمود إلي انوكشوط.

إن والد ليلى- وإن لم يجد دليلا- مباشرا- قد تحسس حدسا أنه بينها وبين محمود علاقة دفينة مكبوتة، فأراد أن يجهر عليها بأسلاك الرقابة والحذر والتربص.

انتهت سنوات الدراسة الأربع في الكلية، والزمن عدو للحبيبين اللذين أنضجتهما السنوات، ونما حبهما الذي رافقهما منذ الطفولة حتى أصبح جزءا من وعيهما وتجاربهما.

إنهما الآن في انتصاف عقديهما الثالث وقد تفتحت مشاعرهما عن حب أثمر التصافي بينهما، ليس من جنس حب الآخرين المتداول، كما يسر بذلك محمود لأعز أصدقائه: المختار وهو شاب في سنه، يفاتحه في كل خلجات قلبه، ولكم مرة نفس عن فؤاده، وأفضى إليه أن حبه ليلى خالط منه الشغاف.

13- انتهـاء التـذكر:

فتح محمود عينيه ليجده قد غابت به الذكريات بعيدا خلف غياهب السنين، توقفت السيارة على جانب الطريق غير بعيد من منزل أهله يوم الاثنين السادس من شهر آب، استقبله إخوته استقبالا حارا حتى أطفال الجيران، همس مخاطبا نفسه مع شيء من التوبيخ هل أنا أستحق هذا كله؟ ولم آت لأحد منهم بشيء من اللباس أو ببعض الحلويات، أه تبا للفقر، تحلقت حوله جماعة من الرجال والنساء والصبية، وذاك اعتبار وتقدير ومحبة له، كان محمود يتميز عن الجميع بوسامة وبهاء رجوليين، مع ذلك يهش فرحا في وجه كل قادم عليه، وإن كان هذا الابتسام مصطنعا لأنه بداخل محمود ما يمنعه من المرح، لأن أول ما وقعت عليه عيناه نصف منزل أهله الطيني متهدما لأول اصطدامه بوابل من المطر مع بداية الخريف، وكان من بين القادمين عليه للتحية خالته أم ليلى.

وبعد أن اختفت الشمس في مخبئها الليلي، خرج محمود مع خالته إلى منزلها الذي يضم بين جدرانه أعز كائن حي على قلبه، وكان وقتئذ يلبس دراعة من " بزاه"صقيلة رائعة، إنه شاب رزين أنيق وسيم يتميز بتلك الأناقة التي تميز الطلبة عند عودتهم إلى ذويهم، كان محمود بدون منافس، فارس أحلام كل فتاة في تلك القرية الصغيرة، لكنه بكامله حتى شعرات رأسه وفتلات شعر شاربه، رجحت به بنت خالته، بدون شك خرج مع خالته منتصب القامة، ناصع اللون، كأنه يبحث عن سلوى، عن صورة أهله القاتمة، يود الفرار من واقع أصبح أكثر إلحاحا من ذي قبل، يبدو تباين واضح بين منظره البهي ووضعية أهله المتردية، وبعد مقدمه على منزل خالته صحبتها استقبله زوجها والد ليلى بحرارة معتذرا له عن عدم قدومه عليه للسلام،

رد محمود مجاملا ومطأطئا رأسه أمامه:

- لا داعي، فأنا هو الذي سآتيك وذلك واجبي.

كانت ليلى في تلك اللحظة جالسة في أحد غرف المنزل الكبير، وعندما سمعت صوت محمود خرجت ودخلت عدة مرات؟، ولا تدري لماذا، أما محمود، فكان يسرق نظراته إليها، على غفلة من والدها كأنهما عشيقان عذبا بدون أن يجلبا ذنبا لأحد.

وبين الهنيهة والأخرى، كان زوج خالته يسأله قائلا:

- هل وجدت عملا مناسبا بعد تخرجك هذه السنة ومسيرة الدراسة الشاقة؟

شعر محمود بحرج من هذا السؤال، وقال:

- سيكون ذلك قريبا إذا حالف الحظ.

وبعد هذا الحديث الذي دار بينهما حول العمل ومشكلة البطالة استسمحهم مودعا إياهم تاركا عطراته تتعانق مع زفرات ليلى اليائسة من أقصر لقاء معه، مخلفة تلك الزفرات صدمة عاطفية لا حدود لنهايتها.

لم ينم محمود تلك الليلة ولا يدري لماذا يسهر؟!

لموانع كثيرة، لكنه لا يعرف بالتحديد ذلك الهاجس الذي يزعجه في نومه، هل هو من أجل التفكير في هذه الأسرة والتغيير من حالها؟ أم كيف يضع حدا لحبه مقنعا عاطفته أن ليلى مجرد كوكب دري ظهر متلألئا ثم اختفى إلى الأبد؟

إنها مجموعة هواجس تدور رحاها في هامة محمود، وبعد حين يأتي خاطر رقيق ويطرح فكرة الزواج من ليلى للنقاش من أجل تحويل ذلك الحب السجين إلى قسمة زوجية ينعمان فيها بعد سنين عجاف من الهجران، ثم يأتي هاجس الفقر واليأس من الوظيفة، وبكل تأكيد سيزيد ذلك الأمر الطين بللا والفقر فقرا.

وبعد تناوله الإفطار، بدأ الوالد الشيخ يتحدث بصفة جدية مع ابنه محمود أمام الوالدة عائشة والأبناء والبنات، كأنها مسرحية تراجيدية يرفع عنها الستار أمام الجمهور قائلا:

- يا بني اعلم من الآن أن الشيخوخة أنهكتني وسنوات عمري تسير سيرا حثيثا نحو السبعين، وهؤلاء الأشقاء أمانة في عنقك لتكون لهم خيرة خلق لخير سلف.

وكان الجميع ملقى كأن موسيقى حزينة باكية تعزف في مسامعهم، والأب الشيخ يواصل حديثه، ويقول:

- الآن وقد تخرجت ولديك شهادة متريز في العلوم الاقتصادية، ما عليك إلا أن تصبح جادا في طلب الوظيفة وسأكتب لك رسالة تذهب بها- بعد أسابيع قلائل من الراحة لأن الوقت يطاردك إلى زميل قديم وصديق حميم وتعطيها إياه،

ثم تنفس الصعداء فقال، وكأن التاريخ أعاد أمامه لوحة فوتوغرافية عن ماض جميل أدبر؛ مخلفا وراءه حسرة على ماضيه:

- عساه أن يتذكر ما قدمت له عندما كان طالبا، وأنا آنذاك موظف من خدمات مالية ومصارف نقدية منذ عشرين سنة والآن بلغني أن دنياه جادت حتى أصبح من الشخصيات الهامة في البلاد، أقدم عليه عله يجد لك عملا مناسبا، عند ذاك يزف الرخاء والسعادة لنا،

ثم واصل حديثه إلى أن وصل إلى مرحلته الأخيرة قائلا:

- وكأن كل شيء تحقق-

- وعنذئد سنصبح سعداء، وتصبح أنت من الشخصيات الهامة في القبيلة وذلك هو أملي في الدنيا.

أعاد الجميع أنفاسه بعد انحباس دام عشرات الدقائق مبتسمين كأن المسرحية التراجيدية اختتمت بسعادة الأبطال وانتصار الحق على الباطل.

تراقصت أمام عيني الفتى محمود كل الأحزان والآمال لتفرز له نتيجة يائسه، ولا يدري لماذا هو متشائم إلى هذا الحد، ثم ابتسم قليلا وقال:

- سأفعل ما في وسعي حتى أحقق لكل فرد منكم نهرا من السعادة يسبح فيه بمفرده.

تتابعت الأيام ثقيلة قاحلة لم يبللها ندى للقاء.

ولم تكن تلك العطلة أقل حظا من سابقاتها، بل أخذت نصيبها أيضا من الهجران، إنها أبواب ونوافذ واسعة من المشكلات تتربص بمحمود وتقف عقبة أمام طريق المرح والاستمتاع بأيام الخريف الخضراء في تلك القرية الهادئة داخل قلب محمود المهموم لعدة أسباب منها انشغاله البالغ بمحبوبته ليلى، إضافة إلى مسؤولية الأسرة والتغيير من وضعها القاتم.

ثلاثة أسابيع مضت على مقدم محمود إلى قريته الريفية وليلى لم يرها، حتى إنها لم تأت لزيارة جدتها وخالتها، وطبعا محمود هو المستهدف، إنه استفزاز من نوعى خاص،والدها يمنعها حتى من تأدية واجباتها الضرورية لا لشيء إلا لحصار محمود، وهنا بدأ ناقوس الخطر يدق باب وقت محمود معلنا قرب رحيله، ذلك لأن والده الشيخ يظل يكتب رسالة ثم يبدلها بأخرى أكثر إثارة ليعلن لابنه محمود عن موعد رحيله بعد غد لطلب الوظيفة، والشيخ لا يدري أن الأيام تنصرم دون أن تسجل بين ثنايا دقائقها وثوانيها لقاء واحدا مع ليلى التي تسلقت ذرى مجد الحب العذري وسماء الغرام بشطريه الطفولي والناضج، حديث عابر مع إحدى زميلاتها وسمر مع إحدى جاراتها.

14- برور محمود:

لكن محمودا كان يوافق دائما على القرارات التي تصدر من والده بشكل مراسيم إدارية، مع عدم الاقتناع بجدوائيتها.

لم يبق إلا يوم واحد على موعد سفر محمود وليلى المسكينة معذبة داخل مخبئها الحصين.

وفي الليلة قبل الأخيرة من صبيحة يوم سفره كان محمود يلبس" دراعة" من " بزاه" ذات لون أخضر فاتح يجلس بجانب من زفاف لزميله من أهل القرية في البهو، وكانت ليلى لم تقدم على ذلك العرس مع العلم أن العروس زميله لها، لكنها تشبه المريضة مرضا مزمنا أو الغائبة عن القرية لشدة تضييق الخناق عليها وخاصة فترة وجود محمود في القرية.

وبعد منتصف الليل تسللت ليلى كسجين يفك أغلاله مؤقتا، وقدمت على حفل الزفاف لتجلس وجها لوجه أمام محمود الذي أخرسته المفاجأة، لأنه منذ عدة سنوات لم يلتق بها على هذا المستوى، لكنه ابتلع ريق الفرح أو المفاجأة ودنا منها قائلا: وكأن ملك الدنيا سقط بين يديه، حتى ظن أن مئات الأشخاص الموجودين معه في مكان الزفاف قد شعروا بفائض من السعادة لا مثيل له.

- كيف حالك ولماذا هذا الضياع كله يا أعز مخلوق على قلبي؟

كانت ردود ليلى تلك الليلة مقتضبة فاترة لم تكن بحالتها الطبيعية، فكلامها قليل غير مرح هادئ كأنها مغمورة وكل جارحة منها تفيض شعورا بائسا مع أنوثة سحرية يملؤها الخجل وروعة الجمال، كأنها غارقة في تحليل نص معقد، ثم مالت برأسها قليلا إليه وقالت بصوت خافت جدا مصحوب بنغمة حزينة جاعلة تلك النغمة من صوتها الأنثوي الرقيق صوتا مبحوحا؛ لكنه لذيذا في مسمعي محمود:

- حبيبي محمود هل تدري لماذا حضرت الليلة هذا الزفاف مع أنني غير مرتاحة لتشكيلاته الفنية؟.

- قال لها لا، غير أنني متلهف لمعرفته ما عساه أن يكون خيرا ودقات قلبه تتقارب بانتظام مشكلة موسيقى للإثارة.

تابعت كلامها قائلة:

- لقد سمعت عند والدتي أنك ستسافر غدا لطلب الوظيفة فحضرت لألتقي بك قبل ذلك من أجل أن أوجه لك الاقتراح ربما يكون فيه شفاء لغليلنا،

ثم سكتت تحملق في وجهه الوسيم لتستكشف ردة فعله لكنه واصل إصغاءه قائلا:

- هيه ما هو اقتراحك؟

استأنفت الكلام وأنفاسها تقطع أسلوب حديثها:

- أنت تعرف جيد أن حبنا بعد أعوامه الأولى صار قطعة من العذاب ولم نجد له من الحلول غير الزواج.

- محمود: الزواج؟!

انفلتت من فيه بدون تأمل.

لكن ليلى واصلت حديثها قائلة:

- اخطبني من أهلي، وبعد ذلك تذهب في طلب الوظيفة، وبعد عودتك يتم الزواج، ونكون قد أنجزنا جزءا هاما ولبنة أساسية في صرح عالم الزواج.

دارت في رأسه ألف فكرة ثم قال:

- هل أنت واثقة من موقف والدك أنه سيوافق على ذلك؟.

- بالتأكيد أنا جد واثقة من ذلك، لأن عمري 24 سنة، وهذه فترة مناسبة أو متأخرة نسبيا في مجتمعنا المحافظ، إضافة إلى أنني كثيرا ما أسمعه يمتدح الزواج على الطريقة الشرعية: قلة المهر وحسن المعاملة، هذه فعلا عدة عوامل تعزز من يقيني لتقبله لك صهرا.

تزاحمت الأفكار عبر ممر ضيق في عيني محمود وكان الطريق أمامه شائكة، وغير معبدة مليئة بالأسلاك، وبعد أن جالت ليلى بنظراتها على الحاضرين، وكأنها في عالم برزخي بعيد مالت على محبوبها لتواصل حديثها، وقد تقلصت نسبة الإبحاح وعدم الارتياح ليحل محلها مرح نسبي وضحكات خافتة وكأنها عزفت على ألحان متفائلة قائلة:

- حبيبي المهم أن تبعث لوالدي، وطبعا أنا جد واثقة أنها الفرصة الوحيدة لنتخلص من حياة الحرمان والشقاء.

هكذا بدأت الآمال والأحلام تتعانق في فضاء رحب طوباوي حالم، ليبني قصرا من الأحلام على أسس مجهولة، وبدأ نسيم من الأمل اللذيذ يشيد صرحا فاضلا من قصور السعادة في تلك اللحظة الحالمة الرومانسية.

بدأ بلبل حبهما العذري يشدو نشوان، على إيقاع أحلام الحي وآمال الغرام مغردا بلون طربي لذيذ.

وبعد هنيهة ودعته ولم تدعه يقف معها خارج مكان الزفاف حفاظا منها على عرضها، وقبل أن تنهض همست في أذنه قائلة:

- فاتح والدتي في الموضوع، لأنها ستكون أحسن رسول يكلف بهذه المهمة، وأدبرت.

لم يطل محمود المكوث بعدها في العرس، لأنه دخل عالما مجهولا، ولا يدري نتائجه، لكنه كان متفائلا، لأن خالته ستتولى دور الوسيط، وبات ليلته تلك يتحدث مع نفسه في كيفية الخطبة، هل ستكون بشكلها التقليدي؟ وذلك بأن يرسلها مع أمه، أم يكلم خالته كما أمرت ليلى، وأخيرا توصل إلى فكرة الأخذ باقتراح ليلى، لأنه ربما يكون أكثر سرية، والسرية كما – يقولون- عامل من عوامل نجاح الخطبة.

15- القـرار الصـعب:

وفي ضحى صبيحة ذلك اليوم أخذ قراره بالذهاب إلى منزل خالته للحديث معها بشكل رسمي في شأن الخطبة التي يراهن بدمه على نجاحها، وبعد أن جلس بجانب الخالة: أم ليلى في بيت على انفراد، وبعد برهة من الصمت قال محمود والخجل يأخذه ويدفعه، حتى تمنى لو كلف أمه بهذه المهمة، لكنه جاهد نفسه حتى قال:

- يا أماه أنا أتقدم إليك لأطلب منك يد ابنتكم ليلى، وقبل جوابك أستشيرك هل توافقين علي ذلك؟ وبعد موافقتك أرجوك أن تبلغي ذلك للشيخ.

وكان محمود هذه اللحظة لا يدري أي الجمل ينطق بها إلى أن قال لها:

- كوني على علم أن مدة الخطبة لن تطول سنة على أكثر احتمال.

وهنا تنفس قليلا لأنه قذف فقرات الخطبة دفعة واحدة بدون تردد في انتظار الجواب.

كانت ردة فعل الخالة، إشراق السرور في كل موضوع منها وبدأ انبساط أسارير وجهها يختلط مع تجاعيد الكبر حتى صفقت بكلتا يديها طربا ونشوة، بأن زف أحلى نبأ يصل إلى مسمعيها قائلة:

- بكل مرح أنت هو مطلبي منذ عدة سنوات آه لقد تحقق حلمي.

الآن لقد انهزمت جيوش اليأس فلولا أمام إيقاع طبول نصر الأمل والتفاؤل في مخيلة محمود، ثم قال:

- الآن وإذ لم يبق أمامنا إلا الشيخ، فمتى إذن سيكون الجواب؟

قالها وهو ينهض للقيام، قالت الخالة الطيبة:

- في المساء سأتيك بالجواب عند منزلكم ولا داعي لرجوعك يا ابن شقيقتي.

عاد محمود إلى منزل أهله ونشوة النصر تمطر السماء عليه ذهبا، وتجعل القبيح أمامه جميلا رائعا حتى تصور أمامه منزل أهله المهدم نصفه عمارة من ناطحات السحاب، إنه نسيج مجاني من صنع الخيال لا حدود لمداه يتراءى له في تلك اللحظة أنه حصل على المال والعزة والجاه والإباء.

وبعد هنيهة ينتبه من غمرة الفرح، يتذكر موقف الأب الذي ما يزال مجهولا، ولا يدري من أي نوع سيكون ذلك الموقف؟.

ودعت شمس ذلك اليوم سماءها لتترك المكان لخيوط الليل، ولم تقدم خالته بالجواب وفي وقت تناوله لوجبة طعام العشاء، مع أنه غارق يرتب مئات الاحتمالات عن مصير خطبته قطع عليه أحد القادمين حبل تفكيره المتشائم مخبرا إياه أن خالته تنتظره خارج المكان، وهكذا قطع اليقين الشك، طبعا بشارة قبول الخطبة تختلط مع خيوط الظلام الحالك لتجعله نورا ساطعا ينعم الجميع بضيائه، لكن هيهات هذا مجرد نسيج أحلام يتبدد أمام اصطدامه بأول صخرة من أرضية الواقع ربما تكون صماء.

بعد تحية قصيرة من الخالة بنبرة صوتية أنكرتها أذنا محمود، لم تثلج صدره، قالت:

- أستسمحك في عدم التزامي لك بالميعاد، وذلك راجع لطول الحوار الذي دار بيننا في شأنك، وخلاصة القول أن والد ليلى اعتذر عن عدم تقبله لك مع كل الأسف لأنها خطبت قبلك لأنك تأخرت.

لم تصل هذه الجملة الأخيرة إلى مسمعيه، حتى صحبها سائل حديدي صب فيهما وفي بصره، وكل حواسه مع دوران شديد في رأسه، وانهيار قوي في مفاصله مع أن هذا استمر أقل من نصف ثانية، حيث انطلقت زوبعة من التجلد والرجولة لتبدد أحاسيس اليأس، وخيوط العنكبوت التي نسجت بناء على عينه لتحول العالم أمامه لوحة قاتمة سوداء قائلا بصوت يجاهد الاختناق:

- متى خطبها هذا اللعين الذي سبقني؟

فقالت الخالة الحزينة نصف باكية:

- لا أدري غير أنني أعتبره مجرد حجة مختلقة، لأن الأمر لو كان كما قال لكنت على علم به على الأقل،

ثم قالت بنغمة الإحباط وعدم الارتياح وصوت فاتر خارجه عن حدود هذا الموضوع:

- هل ستسافر يا بني صبيحة يوم غد؟

قال لها:

- أجل.

ودعته بآيات قرآنية وتمنت له التوفيق، ثم أدبرت عنه إلى منزلها.

هكذا ذهبت بعد إن حولت أحلامه الشبابية اللذيذة إلى كتلة سوداء ثقيلة، تلفها نيران اليأس، وتحيط بها هالة من الحزن يشفعها هو نفسه بعدة تساؤلات:

- لماذا يرفضني؟

- هلا رضيني صهرا له وزوجا لابنته الوحيدة؟

- هل هناك موانع تمنعني من سمو الرجولة؟،

- هل هناك شيء مباشر أو خفي لا أدركه؟

وأخيرا يجيب نفسه:

- طبعا لأنني فقير فقط.

- لماذا هذا الشيخ يتظاهر بأنه سني ولا يريد الثراء وحده بقدر ما يفضل الجوهر على العرض حسب ادعائه؟ أم أن هذا مجرد شعار زائف؟.

وبعد عودته إلى منزل أهله سألته أخته زينب قائلة:

- ما هي حاجة خالتي في هذه الساعة من الليل؟

أجابها مع انكماش شديدي في قلبه وعدم رغبة في الكلام كأنه يتكلم بجرح نازف:

- كانت تودعني فقط.

وبعد أن اتكأ للنوم، أطلقت أخواته صيحات متتالية – وقد كن مع جدتهم- التي كانت تشكو ألما حادا في رأسها ومفاصلها وعندما سمع محمود تلك الصرخات طاش عقله وأسرع مهرولا مسرعا إلى منزل خاله الذي توجد به الجدة.

وإذا بخالته أم ليلى مقبلة تجري مسرعة تقاوم الكبر الذي يقف في رجليها، لكي يمنعها من العدو والإسراع، وليلى خلفها تسابق الرياح فزعة، حتى وصل الجميع ليجدوا الجدة تتخبط في غيبوبة عميقة، وباتوا تلك الليلة في قلق عظيم على سلامة جدتهم حتى أذهل محمود وليلى القلق عن وقع رفض الخطبة، وفي الصباح استعادت الجدة وعيها، وطبيعي أن محمود عدل عن السفر ذلك اليوم، وبعد الظهيرة وجد محمود نفسه جالسا بجانب ليلى وهما بجوار جدتهما، التي بدأت تتماثل للشفاء النسبي، تلك الجدة التي تربيا ونمت عواطفهما تحت ظل عطفها الحنون.

نظر محمود هذه اللحظة وجه ليلى ولم يمض على رد الخطبة سوى عشرين ساعة، فإذا بوجهها شاحب عبوس، تطلق أنينا خافتا يعبر عن ألم حاد داخلها، ألقى عليها تحية أخوية ودية ثم قال لها:

- هل أنت قلقة على جدتنا؟

تنفست صعداء وكأن السؤال خلفه استفسار ما، وكانا وقتئذ قريبين من والدتيهما وجمع من النساء العائدات.

قالت:

- أجل أنا جد قلقة على صحتها.

أجابها وهو متجاهل كل حركاتها غير المفتعلة التي صدرت عنها من جوارحها وموجها نظراته إلى الجدة:

- لا بأس فهي الآن بدأت تتماثل للشفاء الحقيقي والحمد لله ولا داعي للقلق.

كل الجماعة الموجودة تدرك - ولو قليلا- من قصة محمود وليلى.

وفي المساء عندما كان محمود وليلى يتبادلان نظرات تائهة تلاحق فلولا من الأمل الجريح، إذ حضرت جماعة من العائدين وكان من بينهم الشيخ أحمد والد ليلى وقام محمود لاستقبالهم، وجلس بجانبه وبعد إن اختفت الشمس معلنة رحيل ذلك اليوم، نظر والد ليلى بتأمل ملامح وجه محمود، الذي كان لحظته متشاغلا بالحديث مع أحد الزوار ولكنه كان من شدة ملاحظته يرى خلف تلك النظرات احتقارا أو إهانة.

وأكيد أنه يخص موضوع علاقته بليلى ثم سحب نظراته منه إلى ليلى مباشرة ربطا فنيا خفيفا ليخاطبها قائلا، بعد أن نهض قائما:

- تعالي يا ليلى أسرعي قبل حلول ظلام الليل، أسرعي للحضور إلى المنزل.

وقف محمود في توديعه وكل جارحة منه تهتف، أمقتك أمقتك حتى تمنى الجنون في تلك اللحظة لكي يطعنه بخنجر في الصدر، لكنه استطاع أن يودعه وجلس وقبل أن تنهض ليلى من جلستها، إطاعة لأوامر والدها خاطبتها أمها قائلة:

- آتيني بطعام الوالدة من المطبخ

وكانت جماعة العائدين قد ذهبت وبقي المنزل شبه خلاء، إلا من أهله الذين بدأوا يستعدون لصلاة المغرب.

دخلت ليلى المطبخ لتخرج منه بسرعة قائلة:

- دخان يعلو بكثافة في المطبخ.

أسرع محمود ليجد الأمر سهلا.

وفي هذه اللحظة وجد محمود نفسه وجها لوجه مع ليلى داخل المطبخ على انفراد، وبعد برهة كان الصمت فيها سيد الموقف، دنا محمود من ليلى وأمسك بيده ثوبها كمن يريد خنقها، قال مخاطبا إياها بصوت خافت نسبيا:

- مباركة هي الخطبة.

ثم أردف:

- هل تودين أن أحدثك عن نتائج اقتراحك الساذج؟ هكذا عرفت الآن أنك غير واثقة من موقف أبيك العنيد، أم أنك كنت تتقمصين شخصية ماكرة من أجل تمثيل دور خبيث لكي تضعينا في فخ وتتركي أحلامنا تطاردها العواصف الهوجاء هكذا صار مصيرنا؟ أم أنك شيطانة لعينة؟!

كان محمود هذه المرة كالبركان الملتهب أو كالأسد الثائر يطرح سؤالا تلو الآخر بدون تريث للجواب أو الاعتذار من ليلى، كأنه يريح كاهله من أطنان ثقيلة دفعة واحدة حتى كاد أن يلطمها على الخد قائلا:

آه لقد نجحت لعبتك لكنه هدأ قليلا كأنه يدرك أن هذا ظلم وتسلط على ليلى الضحية.

كانت ردة فعل ليلى مجرد انحدار عبرات دافئة منظمة قائلة بصوت مزيج بين الحزن والأسى، والصدق، والبراءة:

- آه لقد خدعني حدسي، ولكني أعاهدك...

قاطعها محمود قائلا:

- ولكنك تسرعت حتى رميت حبنا من مجهول إلى مجهول، أو ربما إلى جحيم لا نهاية لقعره.

ثم استأنفت مع اعتذار أنثوي رقيق، ولكن محمودا كان تلك اللحظة ثائرا غاضبا قريبا منها متلامسة أطراف ثيابهما كأنه قابض على مجرم سفاح، ليحقق معه لكن ليلى أصرت على أن تكمل اعتذارها بصوتها المبحوح:

- أقسم لك أنني لن أتزوج غيرك، ولن أرضى غيرك شريكا لحياتي.

ثم أضافت:

- أرجوك أحس بصداع شديد مصحوب بدوران وقشعريرة الحمى تسير في مفاصلي، دع الموضوع مجرد حدث عابر اعتبرنا كما كنا من قبل حبيبين صفا ودهما ونجعل من العقبات تجربة نواجه بها التحديات من حولنا.

هنا بدأت ليلى تبعث الحياة في جسم محمود المنهار، لكي يجمعا معا أشلاء حبهما المبعثرة ممددة فوق أرض قاحلة، ثم اختتمت حديثهما قائلة وهي مدبرة:

- إنني حتما سأصاب بحالة نفسية.

رق محمود وقتئذ لحالها وأرخى قبضة يديه من ثوبها، مع أنه لم يكن بأقل منها تعرضا لحالة نفسية، بل أقوى؛ إنه بساط أسود من عدم الارتياح يأخذ كل منهما بطرف منه، ثم أمسك بطرف ملحفتها مرة ثانية قبل أن تخرج من المطبخ قائلا:

- لقد قرأت عشرات القصص التي تقول إن أبناء الأقارب الذين ينشؤون في مكان واحد دائما تقع بينهما قصة حب لا يكتب لها النجاح في أغلب الأحيان ونحن مجرد جزء من كل.

تراجعت إلى الوراء قليلا وقالت:

- أرجوك دعنا في أحلامنا.

فقال لها بحدة:

- لكن الواقع أيقظنا ليزف في مسامعنا أن الأحلام غدارة.

أجابت ليلى: بسرعة.

- لكنها ربما تصدق أحيانا أخرى.

قال لها:

- كذلك قال أبو نواس، لكنه مجنون ومخمور وكاذب ولعين.

هنا رأت ليلى في عيني محمود الغضب الحقيقي فدنت منه قليلا حتى كادت أن تضع يدها قرب ذقنه قائلة:

- أقسم لك بكل ثقة أن إرادتنا ستحول الحلم إلى حقيقة في يوم من الأيام.

صاح في وجهها قائلا:

- هذه كلمات سحرتنا منذ نعومة أظفار عواطفنا.

- آه أنا جد مريضة يا محمود أرجوك لا تذهب إلى نواكشوط حتى نلتقي مرة أخرى، وأتوسل إليك ألا تحملني مسؤولية رفض أمر ضحيت بكل دماء مشاعري من أجل أن نشيد صرحا متمكاسك البناء ينعم في ظله بعضنا مع بعض.

رد عليها محمود وهي تخرج من المطبخ.

- أؤكد لك أنها آخر مرة نلتقي فيها.

سمعت ذلك ثم اختفت لأن الوقت جد مطارد لكليهما، لم يكن محمود مرتاحا هذه الليلة لأن لقاءه مع ليلى لم يأت بالجديد بل ثار ثائرة في قلبه وأحاسيسه الوجدانية وحول ليلى إلى كائن مؤلم حتى حروف اسمها التي كانت تحرك شعروا غريبا داخل قلبه تحولت إلى ألم حساس يثير الغضب ويبعث الاشمئزاز.

قضى محمود عدة أيام من أجل الاطمئنان على جدته ومع ذلك يتساءل دائما في نفسه:

- لماذا لم يتقبلني الأستاذ زوجا لابنته لماذا؟

- طبعا لأنني فقير وابن فقير.

ليلقي أكبر مفاجأة، وذلك يتمثل في انتشار خبر الخطبة، وما قابله والدها.

هكذا وقعت صدمة نفسية على قلب محمود لأن الخبر انتشر بسرعة مذهلة داخل المنازل في القرية.

- من أي جهة تسرب هذا الخبر؟

- أنا واثق من خالتي وليلى مريضة جريحة، وبالتأكيد لم تتحدث مع أحد في الموضوع أي إنه بوق من الجن أذاع هذا النبأ على مسامع الجميع حديث حدسي داخل قلب محمود.

تربصت الأسئلة بمحمود من أي شخص يتلقاه يواجه تلك الأسئلة الثقيلة بلا مبالاة.

ثم يتخلص من هذه المطاردة بقوله:

- وجهوا هذه الأسئلة للخالة ربما تكون لديها معلومات أكثر.

وفي إحدى الليالي لمظلمة، بينما كان محمود عائدا إلى منزل أهله من زيارة لأحد الجيران، إذ سمع نسوة يتحدثن في موضوع خطبته لليلى قائلة إحداهن للأخريات بصوت مرتفع نسبيا:

- هل سمعتن المانع الذي منع والد ليلى من تقبله محمودا صهرا؟

قالت الثانية:

- إنه طبعا صهر مثالي ذو شخصية متميزة ومحببة على الجميع.

فواصلت الأولى تقول:

- كانت ردة فعل والد ليلى مقبولة لكنه أسر لأحد خلصائه أن المانع الحقيقي وراء رفضه هو حسب قوله أن هناك تفاوتا طبقيا بينهما ذلك لأن والد ليلى يعتبر أن جده العاشر هو المؤسس الفعلي لهذا التجمع القبلي منذ عدة قرون من الزمان وأجداده أولئك أصحاب قيادة عريقة وعليه فإن علاقته بأسرة أهل محمود مجرد علاقة الرابطة العصبية فقط ومن غير المعقول عنده أن تتطور تلك العلاقة من مستوى الأحلاف إلى مستوى المصاهرة.

فقالت الثانية:

هذا تفاوت نسبي جدا ومجرد أوهام.

هنا انكشفت الحقيقة لمحمود لتصل إلى قلبه مباشرة عازفة على وتيرة من نوع لا يحدده.

واصل سيره ورأسه مثقل بالهموم متمنيا كل الموانع غير التفاوت الطبقي حتى الذل والهوان والفقر، ثم تذكر قليلا ليستعيد فلولا من عنفوانه واعتزازه.

ذلك أن جدته كانت دائما تحدثه عن بطولات أجداده ومغامراتهم الحربية ثم يقول:

- آه أنا محروم فقير أولا شريد مطارد ابن سبيل مجهول الهوية ثانيا! لقد حكم علي بهذا العالم الظالم الذي تتحكم فيه الخرافة والشعوذة والعادات البدائية، إنها حقا لن تقف تلك الطقوس متفرجة على قصتي مع ليلى لتمنحني الدفء والعطاء آه كم هو قاس هذا المجتمع اللعين!.

وصل محمود إلى منزل أهله تلك اللحظات يلملم جراحا نازفة، فوجد أختيه زينب ومنى غائبتين، فسأل عنهما فقيل له:

- إنهما ذهبتا لعيادة ليلى المريضة، وبعد برهة وصلتا وكانت زينب قلقة على بنت خالتها ليلى.

وكان محمود في تلك اللحظة، ينتابه شعور غامض لا يدري هل هو قلق عليها أم لا؟.

بعد العشاء ذهب محمود صحبة والدته عائشة لعيادة ليلى والاطمئنان عليها، إضافة أن محمود سيودع خالته ، إذا سيسافر غدا.

وكان شعوره – تلك اللحظات- أن أصداء شائعات الخطبة تلاحقه، وتريشه سهام ذلك، وكل شيء من حوله مخيف عابس، يقف منه موقف العداء، يخاف الأشياء لا لشيء غير أنها أشياء، وفي حديث قصير جرى بين محمود ووالدته سألته خلاله عن صحة هذه الشائعة، رد عليها ردودا مقتضبة مع شيء من عدم الإنكار.

لم تكن والدته عائشة كثيرة الكلام بل العكس ردت عليه قائلة:

- عسى الله أن يبدلك خيرا منها.

دخل محمود وأمه على منزل أهل ليلى، ليجداها ممدة في قاعة الاستقبال، وعند رأسها أمها مغطية جسدها بثوب كثيف كمن يشعر ببرد شديد.

وأما والدها فهو غير موجود، إذ ينعش حلقة دينية في المسجد.

جلست عائشة عند رأسها ومحمود يبعدها قليلا لتضع، يدها على رأسها ومحياها قائلة:

-آه هذه حمى شديدة.

- قال: محمود بنبرته الرجولية الدافئة- التي تميزها ليلى من آلاف الأصوات- مهما كانت حالتها المرضية:

- هلا استخدم لها أقراصا طبية ولو مهدئات؟

أجابت الخالة بنعم ،أما ليلى فقد دبت دماء الحياة في عروقها، لكنها لم تتكلم ولم ترفع رأسها، ولا تدري لحظتها تلك في أي العالمين هي، بيد أن الوجد بمحمود واليأس منه، هما اللذان حركا مياها راكدة عكرة من الأمراض والانهيار المعنوي داخلها.

بقيت ليلى تتابع حديث محمود مع أمه وخالته في شأن مرضها، وهي واثقة أنه يعي جيدا الخفايا وراء وعكتها الصحية، وبعد برهة خرج صحبة أمه مودعا خالته مخبرا إياها بموعد سفره غدا، ومتمنيا لليلى الشفاء.

بعد شروق شمس صبيحة ذلك اليوم، كانت سيار أجرة تتهادى بمحمود بين أغصان النخيل وواحات المزارع، مودعا قريته الريفية الجميلة، التي أصبح يود الهرب منها لأن شيئا مخجلا يطارده منها، يخفي جمالها ليجعله جمالا غير محبب.

16- البحث عن العمل:

وصل محمود إلى مدينة انواكشوط ليواجه مصيره بنفسه وبعد مرور أسبوع على مقدمه،توجه إلى منزل المدير الكبير ليسلمه رسالة والده، تلك الرسالة التي يعتبرها محمود مجرد ثقل وزني داخل جيبه.

قضى محمود أسبوعا كاملا يتردد على منزل ذلك المدير، يظل جالسا داخله، دون أن يسلم عليه أحد، أو يسأله عن حاجته.

وبعد انقضاء ذلك الأسبوع، تلبدت سماء محمود بضبابة من الإحباط والملل، ثم غير وجهته نحو مكتب المدير، عله يكون أحسن وبعد مرور أيام أو أسابيع من ترده على المكتب، استطاع أن يتصل بسكرتيرته وأخبرته أنه خارج البلاد منذ عدة أسابيع، وسيعود بعد يوم أو اثنين.

رجع محمود إلى منزل أخته ودنياه مظلمة عابسة، لا يجد نورا ينير به الطريق، وبعد أيام وصل محمود إلى مكتب المدير وسأل سكرتيرته التي قالت إنه موجود في مكتبه، لكنها استأنفت قائلة تريث حتى أستأذن لك، وبعد برهة عادت لتقول له إن المدير لا يستقبل أصحاب الحاجات الخاصة إلا يوم الخميس القادم.

رجع محمود حينئذ متصورا أن كل شيء في الوجود يحبس أنفاسه، ينتظر خيوط فجر الخميس، وبدأ يرتب مع نفسه كيفية الحوار الذي سيجريه معه في ذلك اللقاء الذي يعلق عليه آمالا، ويضع في مخيلته عدة صور عن شخص الموظف، الذي صار قبل الخميس، مجرد جزء حيوي من تفكيره، حتى أصبح يحفظ الأسئلة والأجوبة التي يرسمها للقاء الخميس.

ومع بزوغ شمس الخميس الموعود، مرسلة أشعتها الذهبية على المباني الشاهقة والشوارع المكتظة، كان محمود جالسا في الحافلة، موزعا نظراته على الركاب، علهم يشاركونه همه الذي يحمله، إنه كان ينتظر يوم الخميس ويفترض آلاف الافتراضات عن هذا اللقاء الذي يعلق عليه مصير أسرة بكاملها.

نزل محمود متوجها إلى مكتب المدير، وكل التوقعات تتضارب أمام عينه بألوان مختلفة، يختفي لون ويظهر آخر كل هذا في مخيلة محمود.

جلس ينتظر، وسارت ساعات ذلك اليوم طويلة مملة لا نهاية لها، وبعد الزوال وقد أمله الانتظار، وأيقن عدم جدوائية جلوسه وبينما هو في حالته الممزوجة بالتشاؤم والملل إذ دقت عليه فرصته لتقطع عليه حبل تفكيره المتشائم، ليفتح الباب ويدخل محمود، وإذا هو وجها لوجه أمام المدير الذي كان يرسم عنه عشرات الصور، فإذا هو لم يكن بواحدة منها.

إنه رجل متقدم في السن- فيما يبدو- طويل القامة أصلع الرأس يقطر مكرا ودهاء وتكبرا في عينيه، حياه محمود مصافحا مع أنه كان كمن لا يرغب في المصافحة؛ لأن يده اليمنى مشغولة بحمل سماعة الهاتف الموجود بجانبه، لكنه أومأ إليه بالجلوس، وهو منشغل بمكالمة طويلة؛ متجاهلا وجود محمود أمامه، متحدثا بصوت مرتفع.

استمرت لحظات صمت على محمود كأنها الدهر كله، وبعد أن أنهى المدير المكالمة الطويلة، أشعل سيجارته والتفت إليه قائلا:

- ما حاجتك.

- أدخل محمود يده المرتعشة في جيبه وأخرج الظرف وسلمه له ، فأخذ يقرأه مع لامبالاة شديدة وسيجارته بيده مداعبا الدخان المتصاعد منها.

أنهي القراءة ، ثم قال لمحمود:

- عفوا ماذا عن هذا الشخص؟ هل لديك تفاصل أكثر عنه؟ لقد نسيته تماما.

استرسل محمود يسرد له رؤوس أقلام عن تاريخ علاقة والده به، حسب ما روى له.

أطفأ الموظف سيجارته وقال:

- لقد نسيت كل ما مضى، ولكن لا بأس، هل أنت خريج جامعة انواكشوط.

أجاب محمود:

- أجل

دون أن يسأله عن تخصصه.

- أرجو لك التوفيق لست على علم الآن بمنصب شاغر في إدارتنا، ولكن تردد علينا علنا نجد عملا على المدى البعيد.

تراءت أمام عيني محمود صحار من رمضاء اليأس تتهاوى على أسرة أهله المنكوبة، أين وضعها من المدى البعيد؟!.

وبعد عودته إلى منزل أخته خطرت به فكرة الهجرة عن الوطن، من أجل المزيد من العلم وممارسة عمل يدر على أهله شيئا من الرخاء، ألقى ذلك تجاوبا من جميع خواطره ومشاعره حتى أحاسيسه، وبعد مرور أسبوع تمت تهيئة محمود لنفسه للسفر، ووقع اختياره على تونس التي يوجد بها ابن خالته ليكون له معينا ودليلا.

وصل محمود إلى تونس العاصمة يوم الأحد الثالث من شهر تشرين الأول، وهنا داخل تونس بدأ محمود لونا جديدا من الحياة لقد هيأ له ابن خالته كل مستلزمات الدراسة الجامعية، وسجله في قسم الترجمة، كما وجد له عملا في فترة العطلة في إحدى الشركات الزراعية العملاقة ذات الرواتب المرتفعة.

17- الوجه الثاني في حياة محمود:

مرت سنة محمود الجامعية الأولى سعيدا قرير العين في عالم الدراسة والعمل وتوظيف الوقت، هاربا عن عالم الحب والمشاعر ناقما عليه، معتبرا إياه عالما ظالما مستبدا، وبعد نهاية عطلة تلك السنة التي قضى معظمها عاملا رسميا في شركة للبذر والادخار، تسلم مبلغا يزيد على المليون أوقية، بعثه بكامله لأهله الذين أسسوا منه منزلا ضخما، ومع بداية السنة الجامعية الثانية، كان محمود خلالها في مطاردة مع مشاعره وعواطفه أمام فتاة موريتانية طالبة بالكلية نفسها، وبعد مقاومة شديدة أعلن محمود هزيمته، وجلس معها في مقهى الكلية ليتعرف عليها.

هي الفتاة المسماة عزيزة، تكبره بسنتين، قصيرة القامة، ليست بيضاء اللون، لكن بشرتها ذهبية ناعمة دعجاء العينين، تميل إلى السمنة أكثر من الرشاقة، مع أن سمنتها من نوع جميل، رزينة جدا تتحدث معه كالمنشغلة بالعبارات المناسبة، كمن يحلل نصا فلسفيا، كانت عزيزة هذه عميقة جدا، مع أنها غير بريئة تخفي وراء عينيها الداكنتين، مكرا أنثويا غير مصطنع، كانت ليلى وعزيزة مختلفتين اختلافا كبيرا، ولا يجمعهما إلا قلب وذوق محود.

وهنا جعلت منه الأحاسيس والوجدان مسرحا مناسبا لنموها، لتستسلم كل قواه أمام جمال عزيزة القوي، ومرة أخرى تكون الجامعة حلية عاطفية لمحمود، لكن هذه المرة من مستوى أكاديمي معمق، وهنا بدأت الكلمة تتعانق مع الشعور ليتمايل الجميع نشوان.

تتابعت السنوات وتحسنت وضعية أهل محمود المالية، وأصبحوا من الأسر الثرية في تلك القرية لتكون عاطفة محمود مستقرة أمام أعين عزيزة الأنثوية الجميلة.

وبعد تعاقب خمس سنوات ومحمود وعزيزة تظلهما سماء تونس الخضراء، ينعمان بحبهما اللذيذ،تخرجت عزيزة قبلة بعام، وقبل مغادرتها بدقائق كان محمود في توديعها قال لها:

- هل توافقني أنك رائعة؟!

ضحكت عزيزة ضحكتها الناعمة الرخيمة قائلة:

- هل توافقني أنت أنك محبوب من نوع فريد؟!

قال لها محمود بسرعة:

- أرجوك تحدثي معي بجدية في هذه اللحظات الأخيرة هل تتصورين أن الفراق بيننا آت؟

أجابت:

- أجل لكنه سيعوض إذا عدت إلى البلاد بعد سنة.

أجاب محمود:

- من أي نوع سيكون ذلك التعويض؟

قالت:

- لا أدري أنت هو سيد الموقف.

قال:

- هل أنت واثقة من أنني أنا هو سيد الموقف؟

قالت:

- أجل أنا متأكدة من ذلك.

قال:

- طبعا سيكون التعويض من مستوى مشروع أو بعبارة أوضح من مستوى الزواج، مادمت أنا هو سيد الموقف.

ابتسمت عزيزة ابتسامة الموافقة ونهضت من جلستها لأن الوقت المحدد للسفر قد أزف.

قضى محمود بعدها سنة واحدة، بعث خلالها مبلغا ماليا كبيرا لأهله، لأنه أصبح من عمال الشركة الزراعية الرسميين، وبعد مغادرته لتونس سجل اسمه في المترشحين للترجمة الدولية في تلك الشركة التي أعلنت عن قبوله بعد ثلاثة أشهر، هنا وجد محمود فرصة للسفر إلى وطنه وذويه، كي يبدأ بحياة زوجية مع محبوبته عزيزة التي أصبحت بمرور الأيام انسانته المثالية، بعد دراسة لشخصيتها الغامضة، غير أن محمودا قد اعتقد أنه متأكد من صدق مشاعرها نحوه، لثقته في مؤهلاتها العلمية ووعيها وعمقها المفترض.

وصل محمود إلى مدينة انواكشوط يوم الثلاثاء 12 تموز بعد غربته عن موريتانيا، التي استمرت ستة أعوام تسلى خلالها عن الكثير بما في ذلك حبه الطفولي لليلى.

وبعد مقدمه بيوم واحد، كان محمود ذلك الشاب الذي يلفت انتباه المارة بوسامته وطول قامته، يرتدي دراعة ذات لون أخضر داكن وقميصا برتقاليا وساعة ذهبية، ينزل من سيارة PRADOU في أحد شوارع مدينة انواكشوط أمام مدخل عمارة أهل عزيزة لتفتتح عنه أختها وتدعوه للدخول، وعند دخلوه الصالون وجده مليئا ببعض الشباب، وعزيزة من بينهم التي استقبلته استقبالا رتيبا أقل ما يقال عنه إن تحيته غير حارة، لم يجد من عزيزة تلك الفتاة التي كانت بالأمس القريب تلاحقه بنظراتها الفائضة من الشعور العاطفي، أجاب نفسه:

- أكيد أنه تنكر من نوع غريب.

وبعد برهة قالت عزيزة لمحمود:

- متى قدمت؟ هل وجدت العمل؟

أردفت سؤالين بدون مبالاة وبدأت تقرأ كتابا ضخما كان بيدها.

- آه احتقار رذيل مخيف (حديث نفسي لمحمود)

وبعد برهة كان نصيب محمود الصمت، استسمحهم ونهض، لكن عزيزة قالت له قبل أن يتجاوز الباب:

- أرجوك عد إلينا ليلة غد.

لم يرد عليها مع أن كل شيء غامض أمامه يعجز عن التمييز والإيضاح.

وفي طريق عودته إلى منزل أخته كان كمن يتحاور مع شخص آخر، هل يأتي لعزيزة في موعدها؟ أم أنه يعتبر تلك الألوان التي تعاقبت على وجهها مجرد بداية نهاية؟

ولكنه اقتنع أن الأمر ربما خارج عن إرادتها أو لأسباب ما من المعقول الاستفسار عنها، مع أن هناك إنذار من نوع مخيف.

وفي حدود الساعة التاسعة ليلا، قدم محمود إلى منزل أهل عزيزة ليجد في الصالون الكبير الراقي –جدا- فتاة يبدو أنها أخت لعزيزة وتصغرها بعدة سنوات، لكنها تتميز عنها ببياض بشرتها الناصع، وكذلك رشاقتها وطول قامتها، ويبدو أنها غارقة جدا في متابعة مسلسل أجنبي، كان من نوع خليع إلى حد ما، تلبس ملحفة كلون السماء الصافية، وبعد تحية قصيرة ومقتضبة وقبل أن يسأل عن عزيزة فتحت الفتاة حقيبة صغيرة موجودة بجانبها وأخرت منها- بعد أن نادت الخادم بالشراب والشاي- ورقة عريضة بيضاء جدا ودفعتها لمحمود كتب في وسطها بقلم عزيزة الأزرق السائل وخطها الجميل الواضح، الذي لا يخفى على محمود:

وستعـرف قبـل رحيـل العمـر! = أنـك كنـت تطـارد خيـط دخـان

قرأ محمود البيت قبل أن يفهمه، حتى تراقصت الأحرف والعبارات كشرارة بركان، يلتهب لحي الهشيم في جروح محمود بعد أن طبقته الأيام والرحلات، وهنا دارت أمامه دنياه معلنة رحيله عن دنيا الحب وعالم المشاعر، أقل ما يقال عن هذه اللحظة أنها معادة طبعا معادة على قلب محمود المسكين الجريح وهنا لملم أشتات قوته، ليقول للفتاة التي بدأت تتابع باهتمام بالغ أحداث المسلسل:

- هل لديك معلومات دقيقة عن عزيزة؟

أجابت:

- طبعا لأنها شيقيقتي.

- إذا ما هي بالذات تلك العقبة التي صيرتها إلى خيوط من الدخان؟

قالت الفتاة:

- لا أدري ربما لأنها مخطوبة.

قال محمود:

- متى كان ذلك؟

- كان ذلك في سنتها قبل الأخيرة من تخرجها من تونس، وذلك عند ما كانت في العطلة، إذ تقدم أحد أقاربنا الأثرياء بخطبتها قبلت، لكنها طلبت منه مهلة حتى تتخرج.

- متى سيتم الزواج؟

قالت:

- عندما تعود الوالدة من فرنسا.

أنهت الفتاة حديثها، والتفت نحو التلفاز، لكن محمودا تعمد على الرغم من أنه يعرف تثاقلها من الأسئلة الموجهة لها، التي تقطع حبل مواصلتها للمسلسل قائلا:

- لماذا هي خائنة كاذبة إلى هذا الحد؟!.

حركت الفتاة كتفيها مع عدم الالتفاتة إليه قائلة:

- لا أدري بالتحديد لكن عزيزة إنسانة عميقة غير واضحة لا حدود لمدى عمقها، ولكن ربما تكون لها أهداف أو ضغوط من نوع ما من هذه المراوغة أو تلك.

شعر محمود أنه أزعج هذه الفتاة بالأسئلة غير المجدية، فنهض من جلسته معتذرا لها، عن عدم انتظار الشاي، خرج وفي طريق عودته هتف لنفسه:

- آه ها هو الشؤم يطاردني يلاحقني حتى وإن كان الفقر قد نام عني قليلا، عاطفتي ومشاعري الذليلة خلقت لتكون هكذا.

ما الذي حل بحب محمود؟

أية شياطين حلت به فمحقت روحه، وأذبلت جسمه، وهو يلعق جراح السنين، ويحكم عض النواجذ ندما وتحسرا، على حياة أرادها صافية عبقة بالحب، وأرادتها نواميس المجتمع غير ذلك؟

ما الذي استبقاه من حب ليلى الذي رضعه من طفولته، لتنهش أحلامه في غفلة من الزمان نزوة شيخ، لم يعرف إلا التحجر والتقوقع في بنية القبيلة العنكبوتية؟

ما الذي دهاه حتى استطاب أن يرخى أزمة فؤاده حبا لهذه المخلوقة ليلى، التي أخلصته حبها، ومحضها مركزها الاجتماعي أن تكون طيعة حتى في اختيار نصفها الآخر، لوالدها الذي يخاطب ضمير المجتمع الجمعي، وتراكماته الطوباوية، بدل أن يصغي إلى إيقاع القلب وهمسة الروح وطيرة الفؤاد إلى من يحب؟

ولن يستريح بال محمود- وقد يظن ذلك- بأن غامر بدخول تجربة حب، أحكمت تمثيلها متلاعبة بعواطفه، أرته من خداع المظاهر أفانين، واستبطنت خنجر الغدر لتطعنه به، وقد أدمته تجربة سابقة مريرة، لم يفق منه إلا على صعقة عزيزة. إنهما إذن تجربتان مريرتان و" وجهان في حياة رجل".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى