( 1 )
يذكر الحاج محمد أن أول حادث سرقة للأحذية بدأ في جامع النصر الكبير، وأن اللص بدأ بحذائه اللامع المتين، قال له بعض المصلين يواسونه : " أخذ الشر وراح "، تكررت السرقة في مساجد أخرى، وظلت تتكرر لأسابيع وربما استمرت لأشهر، وأخيرا أمسكوه متلبسا، أشبعوه ضربا بالنعال، وكانت الأولاد التي أشارت إليهم أصابع الاتهام أكثر طربا بالقبض على اللص، وأكثر احتفالا به، وقال من شاهد الحادثة وشارك فيها : " إن قفاه تورم، وانسالت خيوط الدم من أنفه وفمه "، واختفى اللص وربما غادر المدينة، ولم يظهر إلا بعد عام أو عامين، شاهدوه يحمل على ظهره صندوقا خشبيا أسود يجوب به في الشوارع : ورنيش .. بوية، تلمع يا بيه ؟! "
يجلس تحت قدمي " الزبون "، بوجه أصفر كالح وثوب بال، ويعمل فرشاته بهمة في حذاء " الزبون " .. وكان يترقب العساكر، يعرف مواعيد إجازتهم، يتلقف " البيادات " والأحذية، تلتقط أذناه كلمات عن الحرب، يتشوق لمعرفة الأخبار منهم، فالمذياع في المقهى يقول بغير ما يقولون ..
( 2 )
أيام عصيبة يمر بها، ما عاد العساكر يأخذون إجازات كسابق عهده بهم، قليلون، قليلون جدا الذين يأخذون إجازات، وما عادوا يهتمون بتلميع " بياداتهم "، يطرق بفرشاته على الصندوق، وينادي بصوت حزين :
" ورنيش .. بوية .. تلمع يا بيه ؟!"
يحول البك وجهه عنه، ولما أدركه اليأس وقرصه الجوع – كان الوحيد – بين الجوع الحاشدة الذي يقول : تنح .. تنح، ولكن صوته يذوب في أصوات الجماهير الهادرة .. لا .. لا تتنحى .. لا تتنحى .
( 3 )
في مدخل السوق الكبير – الذي يقام كل يوم أحد – نحى صندوقه الخشبي جانبا وراح ينادي : " أصلح الأحذية القديمة " .. تكاثر حوله الناس، يركب لحذاء هذا نعلا أو فرشا، يدق لحذاء تلك كعبا أو وشا.
والغريب أن زبائنه لا يعرفون اسمه، ولم يفكر أحد في معرفة اسمه، فالمترددون على المساجد يذكرونه بلص الأحذية، وبعض الناس يعرفونه بماسح الأحذية، والغالبية ينادونه بالصرماتي ..
في السنوات الست العجاف، أغلقت أغلب محلات الأحذية أبوابها، فغربت شمس تجار الأحذية وبزغ نجم الصرماتي، في السنوات الست العجاف، لم يعد نظار المدارس يعنفون التلاميذ لتخليهم عن الحذاء اللامع الأنيق، وفي الأعياد .. اعتبر الآباء الحذاء ترفا – كالكعك والبسكويت – يمكن الاستغناء عنه، والصرماتي يعرف أكثر من غيره أن الناس في قرانا ومدننا الصغيرة يشيعون الميت حفاة، ويحرم الأهل على أنفسهم لبس الجديد، ومصر كلها في مأتم، شهيد هنا، وجريح هناك، ومال شحيح، وزاد قليل.
بعينين ثعبانيتين قال الصرماتي لأصحاب محلات الأحذية الذين لا يهشون ولا ينشون : " هذا زمن اللالباس واللامداس !! "
ساومهم على بضاعتهم، على مضض باعوها له بثمن بخس ليفوا بالتزماتهم .
( 4 )
في الوقت الذي انطلقت فيه الطائرات من مطاراتها، وخرجت المدافع من مخابئها، انطلقت الزعاريد في السوق، وصيحة الله اكبر للجنود على الشاطئ الآخر للقناة لاقت صدى لرواد السوق،وسوقا بعد سوق، أحس الصرماتي أن نجمه آخذ في الأفول، فبادر في استئجار محل كبير بالشارع الرئيسي بالمدينة، ووضع على واجهته يافطة كبيرة كتب عليها : " أحذية وخردوات لصاحبها ... " .
يذكر الحاج محمد أن أول حادث سرقة للأحذية بدأ في جامع النصر الكبير، وأن اللص بدأ بحذائه اللامع المتين، قال له بعض المصلين يواسونه : " أخذ الشر وراح "، تكررت السرقة في مساجد أخرى، وظلت تتكرر لأسابيع وربما استمرت لأشهر، وأخيرا أمسكوه متلبسا، أشبعوه ضربا بالنعال، وكانت الأولاد التي أشارت إليهم أصابع الاتهام أكثر طربا بالقبض على اللص، وأكثر احتفالا به، وقال من شاهد الحادثة وشارك فيها : " إن قفاه تورم، وانسالت خيوط الدم من أنفه وفمه "، واختفى اللص وربما غادر المدينة، ولم يظهر إلا بعد عام أو عامين، شاهدوه يحمل على ظهره صندوقا خشبيا أسود يجوب به في الشوارع : ورنيش .. بوية، تلمع يا بيه ؟! "
يجلس تحت قدمي " الزبون "، بوجه أصفر كالح وثوب بال، ويعمل فرشاته بهمة في حذاء " الزبون " .. وكان يترقب العساكر، يعرف مواعيد إجازتهم، يتلقف " البيادات " والأحذية، تلتقط أذناه كلمات عن الحرب، يتشوق لمعرفة الأخبار منهم، فالمذياع في المقهى يقول بغير ما يقولون ..
( 2 )
أيام عصيبة يمر بها، ما عاد العساكر يأخذون إجازات كسابق عهده بهم، قليلون، قليلون جدا الذين يأخذون إجازات، وما عادوا يهتمون بتلميع " بياداتهم "، يطرق بفرشاته على الصندوق، وينادي بصوت حزين :
" ورنيش .. بوية .. تلمع يا بيه ؟!"
يحول البك وجهه عنه، ولما أدركه اليأس وقرصه الجوع – كان الوحيد – بين الجوع الحاشدة الذي يقول : تنح .. تنح، ولكن صوته يذوب في أصوات الجماهير الهادرة .. لا .. لا تتنحى .. لا تتنحى .
( 3 )
في مدخل السوق الكبير – الذي يقام كل يوم أحد – نحى صندوقه الخشبي جانبا وراح ينادي : " أصلح الأحذية القديمة " .. تكاثر حوله الناس، يركب لحذاء هذا نعلا أو فرشا، يدق لحذاء تلك كعبا أو وشا.
والغريب أن زبائنه لا يعرفون اسمه، ولم يفكر أحد في معرفة اسمه، فالمترددون على المساجد يذكرونه بلص الأحذية، وبعض الناس يعرفونه بماسح الأحذية، والغالبية ينادونه بالصرماتي ..
في السنوات الست العجاف، أغلقت أغلب محلات الأحذية أبوابها، فغربت شمس تجار الأحذية وبزغ نجم الصرماتي، في السنوات الست العجاف، لم يعد نظار المدارس يعنفون التلاميذ لتخليهم عن الحذاء اللامع الأنيق، وفي الأعياد .. اعتبر الآباء الحذاء ترفا – كالكعك والبسكويت – يمكن الاستغناء عنه، والصرماتي يعرف أكثر من غيره أن الناس في قرانا ومدننا الصغيرة يشيعون الميت حفاة، ويحرم الأهل على أنفسهم لبس الجديد، ومصر كلها في مأتم، شهيد هنا، وجريح هناك، ومال شحيح، وزاد قليل.
بعينين ثعبانيتين قال الصرماتي لأصحاب محلات الأحذية الذين لا يهشون ولا ينشون : " هذا زمن اللالباس واللامداس !! "
ساومهم على بضاعتهم، على مضض باعوها له بثمن بخس ليفوا بالتزماتهم .
( 4 )
في الوقت الذي انطلقت فيه الطائرات من مطاراتها، وخرجت المدافع من مخابئها، انطلقت الزعاريد في السوق، وصيحة الله اكبر للجنود على الشاطئ الآخر للقناة لاقت صدى لرواد السوق،وسوقا بعد سوق، أحس الصرماتي أن نجمه آخذ في الأفول، فبادر في استئجار محل كبير بالشارع الرئيسي بالمدينة، ووضع على واجهته يافطة كبيرة كتب عليها : " أحذية وخردوات لصاحبها ... " .