محمد مزيد - امرأة تخرج من قصر أبن بطوطة

كنتُ جالسةً لوحدي في البيت، ليلا، عندما طُرق الباب، طرقاتٍ سريعةٍ متتالية، افزغتني، نهضتُ راكضة الى الباب، لما فتحته قليلا، بمساحة شبرٍ، فوجئتُ بشاب أسود، يلهث، دفعني أنا والباب الى الداخل، ثم قفله بالرتاج الحديدي خلفه، رأيته يرتدي بنطالاً قصيراً يكشف ساقيه ونصف فخذيه، ينزف من فخذه الايسر ، انحنى الى وسطي، قبّل يدي، لامس رأسه الحليق فرجي وقال متضرعا" أرجوك احميني " ثم انزوى بسرعة الى الحمام الملاصق الى الباب. بقيت جامدة في مكاني، وقد أصابني الذعر والخوف، فهو رجل غريب، وأنا أرملة أسكن لوحدي، في مدينتي الصغيرة المطلة على نهر دجلة، التفتُ الى الباب، فتحته، فلم أجد أحدا يتبعه، أخفى سواد الليل كل شيء، حتى القمر توارى خلف الغيوم الكثيفة. ولما تأكدت انه غير ملاحق من أحدٍ، ذهبت الى غرفتي بسرعة، ارتديت ثوبا محتشما يستر عريي، إذ كنت أرتدي ثوبا شفافا بسبب الحر. ذهبتُ الى باب الحمام وخاطبت الشاب " من أين أتيت ؟ ومن يطاردك ؟ " فقال " أنا خرجت من كتاب أبن بطوطة ، يطاردني حرس الامير ، هل لديك ضمادا لكي اوقف النزيف ؟" جلبتُ خرقة واعطيتها له ، وأنا مازلت خائفة متوجسة من المجهول الغامض الذي يضمره وجود الشاب الاسود في بيتي، اطفأت القناديل التي تضيء الرحبة، فقال هامسا " سيدتي لقد حل الظلام، ما عدت أرى شيئا " فقلت له " أخرج من الحمام ، بوسعي أن اضمّدك في الظلام "! خرج الشاب، رأيته عبر بصيص نور خافت ينبعث من غرفة منامي، جلس على الاريكة ، لا اعرف كيف اهتدى اليها، اوقدت شمعة صغيرة ووضعتها ارضا، تحت منضدة صغيرة ، أخذت الخرقة وطلبت منه أن يمّد ساقه الجريحة على المنضدة، ثم قلت له " أحكِ لي حكايتك، لماذا خرجت من مخطوطة ابن بطوطة ؟ فقال هامسا، بصوتٍ شعرتُ بعذوبته تدغدغني وبدأتُ، وهو يتحدث، ألمس فخذه المتخشب باصابعي المرتجفة، منذ زمن بعيد لم تلمس يداي جسد رجل، فقال " رأيت اقواما تنقرض، بسبب الحروب والنزاعات المدمرة على المياه والانعام والنساء، كنتُ أعمل خادما لدى امير بلدتنا، لا يوجد في القصر الذي يسكنه الأمير رجل سواي، بل كان القصر ممتلئا بالنساء والمحظيات، كنت دائما أشم رائحة الدم في الغرف العديدة التي ينام فيها الامير ، فاكتشفتُ ذات يوم ، انه ما أن تجلب له احدى الحسناوات ، حتى يأخذ منها وطره في الليل، ليقتلها في الصباح ، وأن سبب خلو بلدتنا من الرجال، يعود الى مشاركتهم في الحروب التي كان يشعلها مع البلدان المجاورة، بزعم عدم السماح لرياح الاديان الجديدة اختراق عقول ابنائنا.
كنت ارهف السمع لصوته، وهو يعبث بعروقي اليابسة ويحفز المياه الجامدة في نسغي، لكي تتدفق بين وديان روحي وجسدي ، أكمل " كنا نعيش في ليل حالك الظلام ، تنتهي الظلمة عند الفجر ، لتبدأ ظلمة القصر ، لايحب الامير الضوء ، لايحب النهار ، وياويلنا اذا ما فتحت ستارة النهار بالخطأ، كانت ستائر القصر تحجب ضوء الشمس طوال وقت شروقها ، كنا بالكاد نتنفس الصعداء الا عند غروبها ، شن اميرنا الحروب على كل الولايات المتاخمة على حدودنا، لديه الزمن عبارة عن ظلام ، فهو يغزو في الليل وينام في الليل، ويضاجع النساء في الليل " . ثم توقف الشاب، بعد أن أحكمت شد الخرقة على فخذه وأنا أصغي الى نبرات صوته الساحر الذي زعزع كياني، فقلت له " ما سبب جرحك هذا ؟ " فابتسم ، سحرتني الابتسامة! أين كانت مطمورة ؟ كما لو انني رأيت حقلا من اللؤلؤ يشع في ظلمة بيتي ، فقال" كنا داخل القصر لا نستطيع الكلام ، مساحة الكلام ضيقة، نتعامل بالاشارة والهمس واللمس احيانا، كما قلت لك كنتُ الوحيد بين حشد هائل من النساء ، تحول ضيق الكلام الى اختزال شديد بحركات الاصابع ، كانت نفوسنا تنحدر الى التعاسة ، تصل احيانا الى العدمية، ولما يتجول الامير داخل القصر، كان لايخرج منه ، لانه يخاف من المعارضين له، بالرغم من عدم وجودهم اصلا ، كلهم ذبحهم وطردهم الى الحدود، يتجول وبيده سيفه وحوله كلابه الوحشية ، نقطع انفاسنا حين يتجول ، فالخط الانحداري لتعاستنا يصل أحيانا الى الشعور بالموت باية لحظة، وكان الأمير مستعد على الدوام، لا يتورع من أن يبقر بوحشية جسد اية فاتنة تقف منحنية امامه، اذا ما انعكس مزاجه الاصفر في تلك اللحظة الى الاسوداد، الى أن يحل الظلام، في الليل كنا نستمع الى صوت فحيحه في أحدى الغرف، وهو يعذب أحدى الحسناوات، حتى فوجئنا ذات صباح بصراخ الامير المرعب " هربت مني العاهرة، اجلبوها " هزّ صراخه كل جدران القصر ، فأصبنا بالهلع والذعر والخوف، ذلك لأن واحدة من النساء، قد هربت من القصر، ولم يستطع أن يلمسها طوال الليل، لانها بقيت تلاعبه وتتضاحك معه ، ولانعرف كيف نوّمته، ثم هربت، ولما طلب مني، أنا بالذات، لأنني الرجل الوحيد في القصر، أن ألاحقها وألقي القبض عليها، هربتُ خلفها، بزعم مطاردتها، حتى خرجتُ من مخطوطة أبن بطوطة، بعدها لحقني حرسه، وأصاب فخذي سهم، قطعت الفيافي والوديان والجبال حتى جئت اليك.
عندئذ ضحكتُ أنا ضحكة مزمجرة وقلت له " أنا أيضا خرجتُ من مخطوطة ابن بطوطة ، أنا المرأة التي هربت من القصر في تلك الليلة، وما إن رأيتك حتى عرفتك فورا .
بقينا ساعة ونحن صامتان نتبادل نظرات عميقة، حتى فززنا من صوت طرقات شديدة على الباب الخارجي، عرفنا أن حرس الامير وصلوا الى بيتنا، فأمسكت بالرجل الوحيد في هذا العالم، دخلنا الى غرفتي وألتحمنا جسديا في طيات فراش مخطوطة ابن بطوطة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى