زياد جيوسي - من بوح رفسة غزال

ويطوي الزّمان السّنوات عامًا إثر عام، وما زلت أحلم بأن نلتقي، أن تجمعنا جدران أنّت من برودة الوحدة. فأسكر بذكراك وأهتف لك (أنت ملكتي.. لا أبغي سواك)، فمن لي بحُبّ (يحمل إليّ لقاح بذور لا تكون إلاّ لسواي) غير حبك. وهل من طيف غير طيفك (أصرّح له بأننّي أحبّه كما النّرجس والليلك والنّار) فأنا لم أملّ الانتظار، وما زلت أنتظر حبّك أن (يعود أسطوريًّا في رعشات أصابعه.. في حرارة جسده..)، فما زلت رغم الغياب الطّويل و(عبق رائحتك لا يتركني)، وحبك يسكن منّي الرّوح فهو (مخبوء فيها نصل ورد ومرمر).

كوني معي، عودي من الغياب الّذي طال.. فأنا منذ غيابك من (أفاق على حياة فيها حمائم تحطّ وتطير في أقلّ من عُشر الثّانية)، أنا بحاجة إليك، بحاجة لحمامة تعود وتحطّ ولا تطير من وكنها. وطوال سنوات الغياب كنت من (تحرّكه قدماه لمصعد يعتليه قلبه وزقزقات هناك تناديه ليحتلّ مقعدًا فيها)، فمن غيرك لي حمامة تحلّ السّلام في قلبي المشتعل، (تسكنه ذات المكان وذاته)، ولا تترك أحلامه (أضغاث أحلام وخيالات مقطّرة بما يرقرق الماء وترقّ له النّسائم فتترقرق).

تجول بي الذّاكرة إلى الماضي، إلى ضمّات الهوى الّتي كانت تضمّنا، حين كنّا نختلي على أعلى التّلّة، أحتضن فيك (امرأة نصف التّاريخ كانت) فترقّ لنا حوريّات الهوى وقد (حللن ضفائرهنّ الطّويلات، تلك النّساء "ربّات الفنون") اللواتي يعرفن ما الهوى؛ فهنّ عرائس الماء حسب الأسطورة اليونانيّة، أسطورة رغم كلّ ما عرفت لم تستطع أن تعرف قصّة هوى كهوانا.. ننظر للأفق البعيد حيث تتعانق التّلال مع أفق السّماء ونحلم، ولم نكن ندري أنّ القدر يلعب لعبته (لينفصل الشّيء عن نقيضه)، فنضيع عن بعض ولا يبقى في الذّاكرة إلاّ الحلم وما عشناه. ولعلّ التّلّة ما زالت المكان الّذي من حبّنا (زخر بالرّائحة الصّندل وبلل الحكايا من عرائس الماء).

جلت الليلة مع نسائم الهواء المنعشة في ذلك الطّريق الّذي سرناه معًا ذات يوم؛ كان الهواء يملأ صدري، وأنت وخيالك لا تفارقين ذهني.. وقفت تحت ظلال الشّجرة الّتي وقفنا تحت ظلالها يومًا، فشعرت بحبّنا (أنفاسه تلهب المكان حيث هيكل الشّجرة المتكوّن من أجساد مردة كانوا) فالمردة ذهبوا لكنّ حبّنا لم يذهب. فهو في كلّ يوم يشتعل أكثر، هوانا بركان لا يعرف الخمود أبدًا، وحِممه (انصهار حبّ متراكم)، فأنت لا غيرك (مَن تربطني به علاقة العقل الباطن)، وحبّك وحده من (يخرج من الجلد المتشقّق في أجسادنا)، وأنا وحدي من (يخرج من أعماقك، من مسامات جلدك، يحمل معه حقائق الجروح الّتي شقّقت الرّوح)، فمن غيري كان ولم يزل يستطيع أن (ينثر في فضائك لثمًا من قُبل)، ويسكب دمعاتك في (أباريق بلوريّة)، يعود إليك من سنوات الغياب (يعاود دقّ نواقيسه على صدى حارس النّوم)، بعد أن كان خيالك قد ظنّ بأنه (لم يترك هناك إلاّ بقايا من الصّنوبر في وسط الحرش اليابس).

يشدّني حبّك والذّاكرة بقوّة هذه الليلة، فأواصل الطّريق وأتوقّف تحت القنطرة الّتي شهدت جنوننا؛ فأراك تعودين (على ناصية الرّيح) تسكبين (زجاجة العنبر) فتصرخ روحي (هي زجاجة عطرها الياسمينيّ)، وأهمس لنفسي (قد تستطيع أنت من مكانك أن تقوم بعدِّ النّقاط الموجودة داخل قارورة العطر النّاعم هذا). وأعاود الهمس لروحي (لكن حين يفوح منها العطر ليقتحم مسامات جلدك الأسمر فإنّك لن تكون قادرًا على إحصاء النّقاط الفوّاحة الّتي دخلت مساماتك)، فأشعر بطيفك يعانقني فهو (أوّل المطاف لحكايا تجسيد الأحلام)، فيثور جسدي وتأتي روحك من الضّياع (تمتصّ هي عطره، تتركه يصير ضبابًا يحوم في شبحيّة خيالات)، حتّى (تقرّر هي أنّها ناهية فيه طريقها). وتهمسين لروحك: كفى فأنا أسطورة الأنثى الّتي (تتسكّع عند الحافّة)، آن الأوان لأذوق (الخميرة المطبوخة فيه هو الرّجل)، وأذوب في (حفريّات جسده/ روحه) فأنا الوحيدة الّتي يمكنها أن (تشِمَه بوشوم ظبية لا تروم تتغشّاه بكتابة نقاط ذئبيّة/ مستئذِبة، تحجم عنه عمر الزّمان، ليتجلّى من كوّة لا فناء فيها) وآن الأوان كيْ (يستشرس ذاك الذّئب من نظرة مستفحلة مخاتلة تطلّ من شرق القمر)، فرغم البعد والمسافات فإنّ (انفلات اشتياقنا يشعل الأبديّة.. وتغدو الخرائط لصيقة متناهية).

أتنقّل في الأماكن الّتي شهدتنا وغنّت معنا، فأقف (على صخرة مرقّطة في البحر هناك) أرقب (حين تنقشع فورة المياه عن أرخبيل الجسد العاجيّ)، عن حبيبتي (تلك السّاكنة في بكرات الرّوح)، والّتي أحلم بأن تكون (آتية من هناك، من حيث الأزرق الكونيّ)، فأنت بأسطورة روحك وجسدك (المرأة الطّبيعيّة الّتي تسبغ على الماء سيله)، أنتظر عودتك وانصهارنا من جديد (لتتصاغر مساحة الوهدة الجرداء) في روحي وجسدي، فحبّك في حياتي مَن (يتوسّط قبة السّماء القمر البدر). وفي قطرات عرقك أرى (حبات المُزن الّتي انتثرت على الزّهر الصّبّار)، أيّتها المرأة (الّتي سرقت زعانف الحوت) عودي لنلتقي (فوق البنفسج، على أزهاره حين إزهاره)، عودي ففي غيابك (تهبّ الرّيح على حرارة الرّمل لمسًا، ليفيض اشتعالاً في ثنيّات الموج جَمَامًا)، وفي عودتك فقط (ينطفئ الرّجل النّار في دغدغات الماء)، تعالي واخرجي روحك من (خميل كسلها الصّباحيّ) لنلتقي من جديد، ولا تدعي القدر يرفسنا من جديد (رفسة غزال) بدون (خزفيّة نصّيّة).


* كلّ ما هو بين أقواس التّنصيص للشّاعرة والكاتبة منى ظاهر، من كتابها الأخير "خميل كسلها الصّباحيّ" الصّادر عن دار أزمنة في الأردن 2008م بطبعته الأولى، وطبعته الثّانية عن المؤسّسة الصّحفيّة بالمسيلة في الجزائر 2009م.


(عمّان 23/5/2009)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى