خرج لتوِّه من زقاقِ بيتهم الواقع خلف المركز الشبابي في مخيّم جنين،شابٌ عشرينيّ مُمتشق القوام،بهيُّ الطلعة،واثق الخطى،أنيق الهندام،يَلمَعُ في شعره الكستاني دهن التثبيت الشفاف،ويرسلُ بالنضارة والحيوية إخضرار فاه ٍ زاهٍ يلفُ المنطقة الحليقة الواقعة حول أذنية وخلف رأسه...شَعرُ ذقنه يميلُ للشقار، يتناغم مع بشرته الناصعة البياض،يتكامل مع سترته اللامَّعة السوداء،عيّناه خضراوتان،يّكْسِرُغُربتهما ابتسامة بريئة وضَّاءة،سرواله أيضا ذا لون أسود،حذاءه الرياضيّ الفاخر الجديد بنفس اللون ايضا،يسير مدققاً في الجوَّال الذي يسكن كفة الايسر،يبتسم وهو يُقَلَّب الصفحات...
رن الموبايل على وقع خطواته،حدق،ثم دقق...أنه صديقه وسام،فتح الاتصال وقال:-
أه أين أنت ؟؟
أنصت برهة وردّ :-
حسنٌ...سآتي اليك بالسيّارة إذا...
أقفل راجعاً الى باب بيتهم القريب،وأخرج من جيبه مفتاح السيّارة وصعد بها وحرَّك المفتاح،والتف برأسه للخلف وهو يقودها خوفا أن يصيب أحداً من الاطفال الذين يلعبون في زقاق الحيّ بأيِّ أذى.
*
قال له وسام:- أعَلِمتَ ماذا فعل جيش الاحتلال هذه الليّلة في بيت قصيّ ؟؟
رد جميل:- نعم...إلى متى هذه الغطرسة ؟؟
وسام :- حتى يجدوا ما يردعهم...
عرَّجَ جميل بالسيّارة جانبا،وأطفأ المحرك وقال لصديقه :-
اسمع يا صديقي...لقد أبلغت أمي اليوم أني سأبيع السيّارة...واشتري بثمنها بندقية
قال وسام مستغربا:- تبيع السيّارة التي اشتراها لك والدك لتأتي لك بدخل ثان ؟؟
رد جميل :- نعم...لا بد من صنع شيء أمام هذا الصلف
سأله وسام:- وماذا كان موقف الوالدة؟؟
جميل :- ناقشتها،ولكنها في النهاية لم تعترض
اقترب وسام من جميل وقال بصوتٍ خافت: وهل أنت جاد في ذلك ؟؟
جميل : انا لا أمزح...لا بد من التصدي لهم...من المعيب أن يبقى حمى المخيّم مستباحْ...
قال وسام :- معك حق...انا ايضاً لديَّ في البنك مبلغ ممكن أن يكون قريبا من ثمن قطعة سلاح ...
جميل :- اذا توكّلنا على الله...
حرَّك جميل مفتاح السيّارة وهو يبتسم...وقال :- اليوم جميـــــــــــــــل...
*
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل،الاجواء باردة،وما زال جميل يسهر برفقة عدد من اصدقاءه ومنهم وسام،سمع أحدهم رسالة صوتية على أحدى مجموعات التواصل تفيد أن قوة عسكرية من جيش الاحتلال داهمت منزل الشاب علاء النصري...
هذا الخبر غيَّر رتابة السهرة وفَضَّها،فقفزوا جميعا الى أسلحتهم،وخرجوا من البيت بعد أن ارتدوا اللثام،وتفقدوا المخازن...وعمَّروها لتكون جاهزة للضرب...كانت المسافة على خطواتهم المتسارعة ليست بعيدة،وعلى هِمَمَهِمْ العالية ادنى من أن ينالهم التوجُّس،قال لهم أحد المستيقظين على دخول الجيش وهو يمسك بنافذة بيته المؤدي الى ساحة المخيَّم :-
شباب انتبهوا...الجِيبّات العسكرية في ساحة المخيَّم...
كانوا الاقرب على منطقة الساحة،تقدموا بحذر وقد هيئوا الاصابع على الزِّناد...أطلَّ جميل برأسه فشاهدهم ... كبّر...وأطلق طلقة،تلاها بأخرى،ثم أخرى،ثم افرغ صيلةً وعاد،قبل أن يتمكنوا من تحديد مكان الاطلاق...
تقدم ثانٍ فأطلق،وثالث فأطلقْ... لم يأت الرد من تلك الجيباّت الصامتة...مما حدى بهم جميعا للخروج لوسط الشارع في تحدٍ يُلايِعُ الموت...فصبّوا جام رصاصهم على الجيبَّات المتوقفة التي لم يستطع الجنود المختبئين فيها الخروج منها بفعل كثافة النيران...
أحدى الجيبَّات عدَّلَ من وقفته حتى أصبحت مقابل جميل وإخوانه...اطلقت الرصاصة الاولى،والثانية والثالثة بتركيز...أصيب أحمد في قدمه،فانكفأ الباقون،فأسرع جميل رغم اطلاق النار لِجرِّ صديقه المصاب الى جانب الزقاق،ومن ثمَّة رفعوه على أكتفاهم ولاذوا به إلى الازقة البعيدة الآمنة،حتى تأتي سيّارة الاسعاف،تركوا عنده اثنان منهم،وعاد الباقون لمشاغلة العدو حتى يرْحـــــــــــــــل.
*
قال وسام لجميل ...الحمد لله...لقد أصبحنا عشرة...ولم يَعد دخول المخيّم والخروج منه سهلاً ... لقد صنعنا معادلة...وأحيينا في المخيّم بعضا من روحه الاصيلة...وأصبح لِحِمَاهُ شوك يَجْرَحْ،ولصمت ليله صهيل يخيف...
رد جميل :- يا صديقي...كلامك صحيح ... ولكني أكرهُ الروتين...
قال وسام :- ماذا تقصد ؟؟
قال جميل :- لا بد من أن نخرج إليهم ...نستهدف نقاطهم خارج المخيم أيضا...لا بد من أن نجعل حساباتهم كبيرة،ومتشعِّبه،ومرتبكة...وكما يغزونا سنغزوهم...
وسام :- ولكنّها مخاطرة !!
جميل :- لا عليك ...إن فكرنا ونفذنا بطريقة مدروسة وجيدة،سيكون الامر على ما يرام...ولنبادر أنا وأنت في الايام القادمة...وإن نجحنا سنبلغ الاخوة...ونشجِّعهم على مثل ذلك الفعل...
رتب وسام على كتف جميل... وقال له :- لنذهب معا لزيارة أحمد في البيت ونطمئن على جراحــــــــــــه.
*
بالرغم من اقتراب نهاية الشهر الفضيل،وقدوم عيد الفطر السعيد الذي لم يبقى عليه سوى ساعات قليلة،جميل ووسام وبعض الاخوة يتابعون بشغف وترقب القنوات الفضائية التي تنقل أخبار العدوان على قطاع غزَّة،وارتقاء الشهداء،وتَهْدِيم البيوت والمساكن والأبراج،وما تقوم به المقاومة هناك من إمطار المغتصبات والمدن والبلدات بصليات الصواريخ المتواصلة...الحالة يحكمها الغضب،رغم بعض الفرح أحيانا القادم عن خبر هنا،وخبر هناك...
قال جميل بعد أن أغلق التلفاز:- لا بد من أن نفعل شيئا...البقاء متفرجين هكذا لا يليق...الوطن كلّه يشتعل
قال أحدهم :- ماذا تريد أن نفعل فعلنا...فنحن مثلك نَشعرُ بالقهر...
قال جميل : إذا إستعدواْ... سنهاجمُ نقطتين عسكريتين هذه الليلة،ونتبعُ ذلك ببيان نذيعه امام وكالات الانباء والصحافة في ساحة النادي...
قال وسام :- وقت الافطار أم بعده ؟؟
رد جميل:- بل بعد الافطار ... الان اقتربوا مني لنرسم الخطــــــــــــــة...
*
في غمرة خروج معظم أهالي المخيَّم للشوارع والساحة وأسواق المدينة بعد تناول آخر وجبة افطار في رمضان لهذا العام،تمهيدا للعيد القادم غدا،تحركت سيّارتين يقود إحداها جميل،وأصبحتا إلى جانب بعضهما تماما ... تبسم جميل ورفع قبضته بإبهامه الطليق يرسل الثناء والمباركة،مؤذنا بالانطلاق كل سيّارة بالاتجاه المنوط بها...
عشر دقائق كانت كلا السيّارتين تصب جام غضبها رعبا على القلعتين العسكريتين اللتان تقعان تحت فوهات النار في كلا السيَّارتين...وقبل أن يتمكن المستهدفون من الالتفات وتحديد مصادر النار،كانت عجلات السيّارتين تفرمل بقوة وسرعة وتنكفئ عائدة الى مخيَّمهما بسرعة جنونية،وركابهما الجريئون المغامرون الذين أماطوا الُّلُثامَ عن وجوههم في حالة من النشوة والسرور،بعد أن أفرغوا جزءاً من غِلِّهِمْ في تلك القلعتين...
بقيت السيّارتين تسيران بسرعة فائقة،وسلكتا طريقا مخالفا للطريق الذي جاءتا منه حتى وصلتا المخيَّم ... فتوجهوا الى ساحة النادي حيث وجدوا عددا من الاعلاميين المحليين...فطلب جميل من رفاقه إرتداء اللثام مرة أخرى قبل الخروج من السيّارتين...
وقف أمام رفاقه التسعة كالطود الشامخ يتلوا البيان الاول لكتيبة ستكون قصـــة وتاريـــخ،بل ربما انطلاقة لثورة شبابية واعدة...قرأ وقرأ ثم أنهى وغادر مع رفاقه المكان،تاركا الحدث يتفاعل عبر وسائل التفاعل والجهات الاعلامية...لقد كان يوما مفصيلا في حياة جميل وإخوانه،والان لا بد من العودة للبيت حتى يتفقد حاجة أهله من لوازم العيد،خاصة وأن جميل أصبح لا يبيت في المنزل منذ عدة أشهر،وأنه ينوي قضاء ليلته في أحد الازقة مع صديقه وسام،فراشهما من الاسفنج الرقيق،وغطاؤهما بندقيتين...لم يغمض لهما جفن تلك الليلة،حتى رَفعَ المؤذن آذان الفجر،فذهبا سويا لصلاة الفجر والعيد،وتوجها بعدها لزيارة أضرحة الشهداء كما يفعل سكان وأهالي المخيم صباح كل عيــــــــــــد.
*
في مساء العاشر من شهر حزيران من العام الحادي والعشرين بعد الالفين،كانت سيّارة الوسام والجميل تتمشى في سوق المدينة... لقد مَلَّ الجميل من البقاء في نطاق هذه الطرقات،فخرجا نحو شارع الناصرة الموصول لأحد قلاع المحتل الذي صفعه الصديقان ورفاقهما أكثر من مرة...
كان لا بد من السير بوتيرة بطيئة،والحديث في آخر تطورات التواصل مع الجهة التي عقدت العزم على تقديم الدعم لهذا الفعل بعد مباركته...حديث عميق بين الصديقين أبعد عنهما الحذر،والتنبّه لاحتمالية وجود وحدات خاصة مستعربة يمكن أن تنقض عليها في أية لحظة...وصلت السيّارة قريبا من جسر خروبة الواقع شمال مدينة جنين،وبالتحديد أمام مقر الاستخبارات الفلسطينية...فجأة اعترضتهم سيّارة بيضاء من نوع " كاديت"،تلتها سيّارة شحن مدنية ...خرج من السيّارة الاولى قوة مستعربين،ومن الثانية قوة خاصة عسكرية من الجيش المحتل...توقفت سيّارة جميل ووسام،ولم يأبه جميل بالسلاح القوة المُشهر نحوه ونحو صديقه،ففتح الباب وفرَّ من المكان راكضا جهة الشمال على أرض الجزيرة التي تفصل الشارع إلى إتجاهين بأسرع ما يكون... فأُطلقت النار باتجاهه من أكثر من مكان ...فسقط في وسط الجزيرة،كانت الرصاصات في البطن والصدر والظهر...لحظات سبقت الشهادة،تراءت لجميل خلالها قوافل اللاحقين المسربلين بالدم... شاهد بذور الزرع التي بذرها وهي تنموا خضرة وزعفران...سمع النشيد الهادر القادم من خلف الجبال...كان يترنم على لحنه الموازي لخرير دمه المتدفق على ثرى مرج بن عامر... لقد أشعل الفتيل...فلم يحزنه الرحيل ...
تُرِكَ ينزف لبعض الوقت وهو يقلب تلك الصور،بينما أُصيب صديقه وسام وبقي ينزف هو ايضا داخل السيّارة ...عندها خرج مجندان فلسطينيان من مقر الاستخبارات وشرعا بالاشتباك مع القوة الخاصة،فارتقيا مع جميل الذي تقدم نحوه أربعة جنود يهود من قوات النخبة،فحملاه الى إحدى السيارات العسكرية بعد أن فاضت روحه الى باريها...لقد اعتقلوا جسده بعد ان فشلوا في اعتقال روحه التي تظهر لهم كلَّ يوم في شهيد...أو مقاوم جديد...أو أجيال باسلة من هذا الشعب العنيد،فكان جميل تلك السُّنْبُلَةِ التي ملأت فلسطين سنابــــــــــــــل.
بقلم عصري فياض
رن الموبايل على وقع خطواته،حدق،ثم دقق...أنه صديقه وسام،فتح الاتصال وقال:-
أه أين أنت ؟؟
أنصت برهة وردّ :-
حسنٌ...سآتي اليك بالسيّارة إذا...
أقفل راجعاً الى باب بيتهم القريب،وأخرج من جيبه مفتاح السيّارة وصعد بها وحرَّك المفتاح،والتف برأسه للخلف وهو يقودها خوفا أن يصيب أحداً من الاطفال الذين يلعبون في زقاق الحيّ بأيِّ أذى.
*
قال له وسام:- أعَلِمتَ ماذا فعل جيش الاحتلال هذه الليّلة في بيت قصيّ ؟؟
رد جميل:- نعم...إلى متى هذه الغطرسة ؟؟
وسام :- حتى يجدوا ما يردعهم...
عرَّجَ جميل بالسيّارة جانبا،وأطفأ المحرك وقال لصديقه :-
اسمع يا صديقي...لقد أبلغت أمي اليوم أني سأبيع السيّارة...واشتري بثمنها بندقية
قال وسام مستغربا:- تبيع السيّارة التي اشتراها لك والدك لتأتي لك بدخل ثان ؟؟
رد جميل :- نعم...لا بد من صنع شيء أمام هذا الصلف
سأله وسام:- وماذا كان موقف الوالدة؟؟
جميل :- ناقشتها،ولكنها في النهاية لم تعترض
اقترب وسام من جميل وقال بصوتٍ خافت: وهل أنت جاد في ذلك ؟؟
جميل : انا لا أمزح...لا بد من التصدي لهم...من المعيب أن يبقى حمى المخيّم مستباحْ...
قال وسام :- معك حق...انا ايضاً لديَّ في البنك مبلغ ممكن أن يكون قريبا من ثمن قطعة سلاح ...
جميل :- اذا توكّلنا على الله...
حرَّك جميل مفتاح السيّارة وهو يبتسم...وقال :- اليوم جميـــــــــــــــل...
*
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل،الاجواء باردة،وما زال جميل يسهر برفقة عدد من اصدقاءه ومنهم وسام،سمع أحدهم رسالة صوتية على أحدى مجموعات التواصل تفيد أن قوة عسكرية من جيش الاحتلال داهمت منزل الشاب علاء النصري...
هذا الخبر غيَّر رتابة السهرة وفَضَّها،فقفزوا جميعا الى أسلحتهم،وخرجوا من البيت بعد أن ارتدوا اللثام،وتفقدوا المخازن...وعمَّروها لتكون جاهزة للضرب...كانت المسافة على خطواتهم المتسارعة ليست بعيدة،وعلى هِمَمَهِمْ العالية ادنى من أن ينالهم التوجُّس،قال لهم أحد المستيقظين على دخول الجيش وهو يمسك بنافذة بيته المؤدي الى ساحة المخيَّم :-
شباب انتبهوا...الجِيبّات العسكرية في ساحة المخيَّم...
كانوا الاقرب على منطقة الساحة،تقدموا بحذر وقد هيئوا الاصابع على الزِّناد...أطلَّ جميل برأسه فشاهدهم ... كبّر...وأطلق طلقة،تلاها بأخرى،ثم أخرى،ثم افرغ صيلةً وعاد،قبل أن يتمكنوا من تحديد مكان الاطلاق...
تقدم ثانٍ فأطلق،وثالث فأطلقْ... لم يأت الرد من تلك الجيباّت الصامتة...مما حدى بهم جميعا للخروج لوسط الشارع في تحدٍ يُلايِعُ الموت...فصبّوا جام رصاصهم على الجيبَّات المتوقفة التي لم يستطع الجنود المختبئين فيها الخروج منها بفعل كثافة النيران...
أحدى الجيبَّات عدَّلَ من وقفته حتى أصبحت مقابل جميل وإخوانه...اطلقت الرصاصة الاولى،والثانية والثالثة بتركيز...أصيب أحمد في قدمه،فانكفأ الباقون،فأسرع جميل رغم اطلاق النار لِجرِّ صديقه المصاب الى جانب الزقاق،ومن ثمَّة رفعوه على أكتفاهم ولاذوا به إلى الازقة البعيدة الآمنة،حتى تأتي سيّارة الاسعاف،تركوا عنده اثنان منهم،وعاد الباقون لمشاغلة العدو حتى يرْحـــــــــــــــل.
*
قال وسام لجميل ...الحمد لله...لقد أصبحنا عشرة...ولم يَعد دخول المخيّم والخروج منه سهلاً ... لقد صنعنا معادلة...وأحيينا في المخيّم بعضا من روحه الاصيلة...وأصبح لِحِمَاهُ شوك يَجْرَحْ،ولصمت ليله صهيل يخيف...
رد جميل :- يا صديقي...كلامك صحيح ... ولكني أكرهُ الروتين...
قال وسام :- ماذا تقصد ؟؟
قال جميل :- لا بد من أن نخرج إليهم ...نستهدف نقاطهم خارج المخيم أيضا...لا بد من أن نجعل حساباتهم كبيرة،ومتشعِّبه،ومرتبكة...وكما يغزونا سنغزوهم...
وسام :- ولكنّها مخاطرة !!
جميل :- لا عليك ...إن فكرنا ونفذنا بطريقة مدروسة وجيدة،سيكون الامر على ما يرام...ولنبادر أنا وأنت في الايام القادمة...وإن نجحنا سنبلغ الاخوة...ونشجِّعهم على مثل ذلك الفعل...
رتب وسام على كتف جميل... وقال له :- لنذهب معا لزيارة أحمد في البيت ونطمئن على جراحــــــــــــه.
*
بالرغم من اقتراب نهاية الشهر الفضيل،وقدوم عيد الفطر السعيد الذي لم يبقى عليه سوى ساعات قليلة،جميل ووسام وبعض الاخوة يتابعون بشغف وترقب القنوات الفضائية التي تنقل أخبار العدوان على قطاع غزَّة،وارتقاء الشهداء،وتَهْدِيم البيوت والمساكن والأبراج،وما تقوم به المقاومة هناك من إمطار المغتصبات والمدن والبلدات بصليات الصواريخ المتواصلة...الحالة يحكمها الغضب،رغم بعض الفرح أحيانا القادم عن خبر هنا،وخبر هناك...
قال جميل بعد أن أغلق التلفاز:- لا بد من أن نفعل شيئا...البقاء متفرجين هكذا لا يليق...الوطن كلّه يشتعل
قال أحدهم :- ماذا تريد أن نفعل فعلنا...فنحن مثلك نَشعرُ بالقهر...
قال جميل : إذا إستعدواْ... سنهاجمُ نقطتين عسكريتين هذه الليلة،ونتبعُ ذلك ببيان نذيعه امام وكالات الانباء والصحافة في ساحة النادي...
قال وسام :- وقت الافطار أم بعده ؟؟
رد جميل:- بل بعد الافطار ... الان اقتربوا مني لنرسم الخطــــــــــــــة...
*
في غمرة خروج معظم أهالي المخيَّم للشوارع والساحة وأسواق المدينة بعد تناول آخر وجبة افطار في رمضان لهذا العام،تمهيدا للعيد القادم غدا،تحركت سيّارتين يقود إحداها جميل،وأصبحتا إلى جانب بعضهما تماما ... تبسم جميل ورفع قبضته بإبهامه الطليق يرسل الثناء والمباركة،مؤذنا بالانطلاق كل سيّارة بالاتجاه المنوط بها...
عشر دقائق كانت كلا السيّارتين تصب جام غضبها رعبا على القلعتين العسكريتين اللتان تقعان تحت فوهات النار في كلا السيَّارتين...وقبل أن يتمكن المستهدفون من الالتفات وتحديد مصادر النار،كانت عجلات السيّارتين تفرمل بقوة وسرعة وتنكفئ عائدة الى مخيَّمهما بسرعة جنونية،وركابهما الجريئون المغامرون الذين أماطوا الُّلُثامَ عن وجوههم في حالة من النشوة والسرور،بعد أن أفرغوا جزءاً من غِلِّهِمْ في تلك القلعتين...
بقيت السيّارتين تسيران بسرعة فائقة،وسلكتا طريقا مخالفا للطريق الذي جاءتا منه حتى وصلتا المخيَّم ... فتوجهوا الى ساحة النادي حيث وجدوا عددا من الاعلاميين المحليين...فطلب جميل من رفاقه إرتداء اللثام مرة أخرى قبل الخروج من السيّارتين...
وقف أمام رفاقه التسعة كالطود الشامخ يتلوا البيان الاول لكتيبة ستكون قصـــة وتاريـــخ،بل ربما انطلاقة لثورة شبابية واعدة...قرأ وقرأ ثم أنهى وغادر مع رفاقه المكان،تاركا الحدث يتفاعل عبر وسائل التفاعل والجهات الاعلامية...لقد كان يوما مفصيلا في حياة جميل وإخوانه،والان لا بد من العودة للبيت حتى يتفقد حاجة أهله من لوازم العيد،خاصة وأن جميل أصبح لا يبيت في المنزل منذ عدة أشهر،وأنه ينوي قضاء ليلته في أحد الازقة مع صديقه وسام،فراشهما من الاسفنج الرقيق،وغطاؤهما بندقيتين...لم يغمض لهما جفن تلك الليلة،حتى رَفعَ المؤذن آذان الفجر،فذهبا سويا لصلاة الفجر والعيد،وتوجها بعدها لزيارة أضرحة الشهداء كما يفعل سكان وأهالي المخيم صباح كل عيــــــــــــد.
*
في مساء العاشر من شهر حزيران من العام الحادي والعشرين بعد الالفين،كانت سيّارة الوسام والجميل تتمشى في سوق المدينة... لقد مَلَّ الجميل من البقاء في نطاق هذه الطرقات،فخرجا نحو شارع الناصرة الموصول لأحد قلاع المحتل الذي صفعه الصديقان ورفاقهما أكثر من مرة...
كان لا بد من السير بوتيرة بطيئة،والحديث في آخر تطورات التواصل مع الجهة التي عقدت العزم على تقديم الدعم لهذا الفعل بعد مباركته...حديث عميق بين الصديقين أبعد عنهما الحذر،والتنبّه لاحتمالية وجود وحدات خاصة مستعربة يمكن أن تنقض عليها في أية لحظة...وصلت السيّارة قريبا من جسر خروبة الواقع شمال مدينة جنين،وبالتحديد أمام مقر الاستخبارات الفلسطينية...فجأة اعترضتهم سيّارة بيضاء من نوع " كاديت"،تلتها سيّارة شحن مدنية ...خرج من السيّارة الاولى قوة مستعربين،ومن الثانية قوة خاصة عسكرية من الجيش المحتل...توقفت سيّارة جميل ووسام،ولم يأبه جميل بالسلاح القوة المُشهر نحوه ونحو صديقه،ففتح الباب وفرَّ من المكان راكضا جهة الشمال على أرض الجزيرة التي تفصل الشارع إلى إتجاهين بأسرع ما يكون... فأُطلقت النار باتجاهه من أكثر من مكان ...فسقط في وسط الجزيرة،كانت الرصاصات في البطن والصدر والظهر...لحظات سبقت الشهادة،تراءت لجميل خلالها قوافل اللاحقين المسربلين بالدم... شاهد بذور الزرع التي بذرها وهي تنموا خضرة وزعفران...سمع النشيد الهادر القادم من خلف الجبال...كان يترنم على لحنه الموازي لخرير دمه المتدفق على ثرى مرج بن عامر... لقد أشعل الفتيل...فلم يحزنه الرحيل ...
تُرِكَ ينزف لبعض الوقت وهو يقلب تلك الصور،بينما أُصيب صديقه وسام وبقي ينزف هو ايضا داخل السيّارة ...عندها خرج مجندان فلسطينيان من مقر الاستخبارات وشرعا بالاشتباك مع القوة الخاصة،فارتقيا مع جميل الذي تقدم نحوه أربعة جنود يهود من قوات النخبة،فحملاه الى إحدى السيارات العسكرية بعد أن فاضت روحه الى باريها...لقد اعتقلوا جسده بعد ان فشلوا في اعتقال روحه التي تظهر لهم كلَّ يوم في شهيد...أو مقاوم جديد...أو أجيال باسلة من هذا الشعب العنيد،فكان جميل تلك السُّنْبُلَةِ التي ملأت فلسطين سنابــــــــــــــل.
بقلم عصري فياض