رينا غبريال - قصة "شبح المرأة العجوز" من كتاب خمسة وعشرون قصة شبحية للكاتب بوب هولاند (ترجمة من الإنجليزية)

لا أعلم إن كنت قد قصصت علي أطفالك قصص أشباح من قبل أم لا ، فبعض الأمهات لا يفعلون ، و لكن والدتي المنحدرة من أصول ألمانية كانت ذا شخصية قوية فيما يتعلق بالأشباح ، و قد عَّلمت كل أطفالها قبلاً أن يكونوا شجعانًا سواء عمليًا أو عقليًا ، و علي الرغم من أننا مولعين بسماع قصص الأشباح ، خاصة إذا كانت حقيقية كنا للأسف متشككين في كونهم من النوع الذي يمكن أن يؤذي .
و قد تعلمنا إلي حد ما التقاليد الشبحية في بيئة شبحية ، عالمين كل شيء من خلال الأشباح و الوهج و الأضواء الزرقاء ...... الخ ، و لم يكن لدينا فيما يتعلق بهذا الأمر أفضل من والدتنا التي كانت ترسم علي خزانة حكاياتها الخارقة للطبيعة لإمتاعنا.
القصة التي أنا بصدد أن أرويها كانت قد حكتها لنا في ليلة عاصفة، حينها اجتمعنا حول كرسيها في ركنها الهادئ ، أمام نيران مدفئة لطيفة ، و نحن نتناول مكسرات و تفاح ، كنا نستمع إليها وهي تتلو قصة حقيقية ، قد أخبرتها إياها جدتها ، التي قد رأتها بأم عينيها .
كانت ليلة مرهبة ، حيث بكت و ناحت الرياح في أرجاء المنزل كأرواح تائهة راثية علي هلاكها.
كان المطر يلطم النافذة و الأشجار تتلوي مثكلة بالعصافة ، فقد تأوهت و تمايلت حتي هوت أطرافها لتكنس الأرض ، حتي اخترقت ومضات مضيئة من البرق الستائر الثقيلة المغلقة ، كما اخترق الرعد مهددا بصخب يجعل دمك يتسلل منك.
كانت الليلة التي تجعلك تسعي لتجاهل كل الأصوات ، و تغلق الستائر ، ثارت النيران حيث استلقت جدتي علي المقعد المواجه لها ، و وضعت قدميها علي حاجز الموقد ، و كان لديها حينها شيئًا مبهجًا لتفكر به و تتحدث عنه . لكنها كانت وحيدة تماماً ، فلم يكن معها أحد بالمنزل إلا الخدم ، و كان جناحهم ملحق بالمبني الرئيسي ، ولم تكن هي مكترثة بأن يكون أحد الخدم بالقرب منها ، و لم تحبذ أن يكون أحد بالقرب منها .
لقد كانت تلك الليلة، ليلة وفاة نانسي بلاك . قالت بصوت عالٍ ، متيقظة من تسلسل أفكارها : " إنها لليلة مرعبة لروح أن تترك وطنها الأرضي و تذهب للخلاء ، لمصدر مجهول ، ثم أطاحت بالوشاح الأقرب منها و حركت عجلات الكرسي لتقترب من النيران و تضم و تدفن قدميها في وسادة القدم لتدفئهما ، و لأنها كانت قد شعرت ببرد مفاجئ . كانت في المكتبة ، مكان جلوسها المعتاد ، فقلما جلست في الردهات .
كيف جرت العادة ؟ كانت الكتب أصدقائها ، أحبت جداً أن تكون معهم . فبعض من أبنائها كانوا قد ماتوا و بعضهم تزوج و البعض الآخر يعيش بعيدًا عنها . كانت الردهات دائماً ما تبدو قاتمة و محزنة و باردة ، حتي غادرتها أرواح المسرات و هجرتها ، و لم تهتم هي بأن تعيدهم ثانية .
كانت هناك غرفة طويلة واسعة مقابل الممر المتفرع من الردهة ، كانت مصدر الإنارة الرئيسي للمنزل و كانت مصفوفة بالأرفف من الأرضية إلى السقف ، فوالد زوجها كان شغوفاً باقتناء الكتب و زوجها نفسه كانت له الميول ذاتها ، وقد كانت الرفوف محملة بالعديد من الكتب القديمة النادرة التي تستحق أن تقدر بالذهب .
أما النيران علي الرغم من لهيبها إلا أنها لم تكن تضئ حتي منتصف الغرفة ، وبينما هي جالسة بجانب المدفأة و كانت الغرفة بأكملها تحت مرمى بصرها .
و نظرت الظلال و هي تتحرك علي الأثاث و الأرفف كطلقات نارية أطلقتها و بعد وميضها بثانية اختفت ، تاركة ظلام يهرب مع أول ظلال مذهلة علي أثر ضوء النار التي قد تتقد من جديد .
و هي تشاهد ومضات الضوء و الظلال القاتمة ، و فجأة استرعي صوت العاصفة بالخارج انتباهها ، و كأنها ضوضاء غريبة ناتجة من النقر علي النافذة و نحيب و تنهيدات ، و كأن شخصا ما يتوسل الدخول هربا من الضوضاء الشديدة ، ثم جلست هناك ثانية و فكرت في نانسي بلاك ، زميلة الدراسة التي أحبتها بشدة و في الليلة التي ذهبت لملاقاة الموت كان قد انتقاها . أراحت رأسها علي يدها ، و جلست محدقة في النيران و هي غارقة في التفكير في حياتها الغريبة و موتها الذي ما زال مبهمًا أيضا و تتساءل ماذا يمكن أن يكون قد حدث لأموالها و مجوهراتها التي كانت تعلم أنها تقتنيها .
و أثناء جلوسها هكذا تسلل داخلها شعور غريب ، لم يكن خوف ، و لكنه كان كما لو أنها إذا رفعت نظرها لأعلي سأري شيئا مرعباً ، ارتجاف ليس من برد ، تسلل من رأسها إلي قدميها ، و شعور بأن شخصا ما يتنفس هواءً مثلجًا أعلى جبهتها ، نفس الشعور الذي يسببه إمساكك لقطعة ثلج بخدك ، رفرف علي وجهها و استقر حول شفتاها و كأن هذا الشخص الغير مرئي يداعبها متحمسا لإفزاعها . لكنها لم تكن خائفة و لا متوترة و لا حتي واسعة الخيال و بكل حزم و لا إرادياً تخلصت من المخاوف التي سيطرت عليها و نظرت لأعلي ، و هناك علي مقربة من جانبها أكثر منه إلي يدها، مر خلالها علي ما يبدو شكل ما ، كانت نانسي بلاك واقفة هناك بمظهر شبه شفاف ، كما لو أمسكت يدك بيدك الأخرى في إضاءة عالية ، و ملابسها علي ما يبدو كانت شبه التي كانت ترتديها في حياتها .
كان لها مظهر متعرج مومض كلهيب النيران التي لم تشتعل بعد . تعجبت قائلةً :" يا إلهي نانسي بلاك ، ماذا جاء بك إلي هنا ، و من أين أتيت ؟" تبع ذلك همس أجوف : شكرا لك ،يا صديقتي القديمة ، أنك تحدثتي إليّ ، و آه كم أشكرك أنك فكرتي بي في هذه الليلة، يجب أن أرتاح " . سمعت صدي و ضحكة مستهزئة جلجت في الغرفة جعلتها ترتعش من صداها .
لطالما كانت بجوارها، و لكنها دائماً ما فشلت في أن تجدها في حالة ألفة كاليوم ، ثم أردفت نانسي: سأخبرك السبب في مجيئي و من أين أتيت ، على الرغم من أنه لا حاجة لك بمعرفة ذلك ، و لكن يكفي أن أقول لك إني كنت سعيدة و إلا لما أتيت إلي هنا في مثل هذه المأمورية و لا هذه الليلة ، إنها فقط العوامل الجوية من ضوضاء و عويل الريح و الأنين ، التي أتيت من خلالها .
فعندما تسمعين هذه الأصوات فإنها أرواح ناس تائهة ترثي موتها ثم يهيمون علي وجوههم صعوداً و هبوطاً ، ذهاباً و إياباً ، فهو متنفسهم الوحيد من وطنهم المرهب حيثما قد يكونون عرضة للعذاب الأبدي .
لقد أتيت لأخبرك أنه عليك أن تذهبي للبيت القديم ، و هناك في الغرفة الخلفية التي طالما أبقيتها مقفلة ، سترين السجادة مرفوعة من ناحية المدفأة . لتجدي لوح خشبي به ثقوب تحتها . حركيه و ستكتشفين السبب الذي أفقدني حياتي . أتل ليّ الصلوات ، فمن الجيد أن تصلي من أجل الموتى . تبرعي بالأموال و المجوهرات لجمعية خيرية و ادفني في أرضي الأشياء الأخرى التي تجديها و صلي من أجلها و من أجلي . آه يا چانيت ، قد تذكرتي صديقتك القديمة يا له من شيء عجيب ، غريب ، نقي ، و برئ.
هذا هو أكثر جزء مرير في عقابي أني لابد أن أغير أفكارك عني . و الكلمات الوداعية : لا تنسيني و أنا لن أوقعك في مشاكل مرة أخري .و لكن عندما تسمعين عواء الريح و صوت الجرف هذا حول المنزل كما حدث الليلة ، ستعرفين أن هناك روحاً تائهة حولك .إن طيرانهم السريع خلال الجو و هم يهربون قبل أن يسببوا الشقاء لأي ذاكرة أو أي ضمير حي – هو ما يسبب هذا الصوت .
و هذه علامة مميزة ، غداً لن تظني أنك كنت تحلمين. ثم لمست كفي بأطراف أصابعها ، و أكملت جدتي قائلة: كما ترين يا أبنتي ، حتي يومنا هذا ، هناك ثلاث علامات قرمزية علي كفي ، لا شيء يستطيع أن يمحيها .
قالت نانسي بلاك بنظرة حزينة و بتنهد و نشيج عميق : " لا تنسيني ، و صلي من أجلنا يا چانيت ، صلي " ثم اختفت عن نظري .
و بعدها تعجبت جدتي قائلة : " هل أنا أحلم ؟" ، وهي تقوم من علي مقعدها و تدق الجرس . و عندما أتي الخادم ، أمرته أن يطفئ النيران و يضئ المصابيح . ثم تجولت في الغرفة لترى إذا كان هنالك أي ترتيب غريب في الأثاث قد أفضي بهذا الظهور ، و لكن لم يتضح أي شيء من هذا القبيل ، ثم أمرته أن يرسل لها خادمة لترافقها أثناء وجودها في هذه الغرفة ، لأنها لم تستطع أن تمنع نفسي من الشعور بعدم الرغبة في البقاء في المكتبة لمدة أطول هذا المساء .
وعلي عجلة اختلست النظر لأسفل ، لترى ثلاث بقع قرمزية علي كفها الأيسر . كان لها منظر غريب ، محروقة و كأن مكواة لمستها و لكن الجلد كان مازال ناعماً غير محروق و لا متوجع . و لإيجاد عذراً لذلك لم تشير لهذا ثانية ، و سريعا ما تجاهلتها ، لأنها كان يجب عليها أن تظهر ثابتة الجأش في كل موقف . و فعلاً كانت هناك علامات علي يدها لا تستطيع إزالتها و لا هي اختفت من تلقاء نفسها . و في الحقيقة ، لونها الأحمر الداكن جعل باقي الكف يفقد لونه الوردي و يبدو شاحباً إثر هذا التناقض الرهيب .
و حدَّثت نفسها قائلةً: هل ممكن أن أكون قد غفلت و حلمت بكل هذا ، و بطريقة ما أحدثت هذا لنفسي ؟ ثم فكرت و استنتجت أنها في اليوم التالي لابد لها إلا أن تذهب إلي منزل نانسي بلاك القديم لتحسم هذه المسألة، و أراحت نفسها بهذا الاستنتاج حتي يأتي الغد .
كانت نانسي بلاك صديقة صباها ، و كانت تملك الكثير من الأملاك في المدينة ، و عاشت وحيدة في بيت حجري واسع مقابل منزل جدتي تماماً ، و عندما ماتت كانت هي الوريثة الوحيدة لكل أملاكها .
و عندما أقبل الصباح أخذت المفاتيح و ذهبت هي و خادمتها إلي منزل نانسي . لم يحرك أحد شيئاً من مكانه منذ وفاتها التي كانت مفاجئة و غريبة إلى حد ما ، و بقي الأثاث كما تركته تماماً لتذهب إلى مثواها الأخير . توجها إلى الغرفة التي أشارت لها نانسي . أمرت جدتي سارة أن تحرك السجادة و طبعاً بشكل كاف ، ليظهر أسفلها لوح خشبي ذو ثقوب ،ثم أرسلتها إلى خارج الغرفة ، و رفعت اللوح بنفسها ، و هناك بين مفصليه ، كان يوجد صندوق طويل غطاؤه غير موصد بإحكام . ثم فتحته ، و هنا صعقت لرؤيتها هيكلين عظميين ، أحدهما لطفلة و الآخر لامرأة قصيرة القامة و هشة البنية . و في تلك اللحظة خطر ببالها إنها رأت رفات أخت نانسي بلاك الصغيرة ، فتاة السبعة عشر عاماً ، التي تركت البيت بطريقة غامضة نوعاً ما منذ زمن بعيد و ماتت و هي مفقودة – علي الأحرى ، كانت هذه هي رواية نانسي التي كانت تبرهن بها غيابها .
لم يكن في مخيلة أحد حتي أن يشك في ذلك ، فقصتها كانت طبيعية جدا في السرد .
تُرِكوا أطفالاً يتامى عندما كانت لوسي في الثانية من عمرها ، و كانت نانسي في الثامنة عشر من العمر، و كانت نانسي قد كرست حياتها لتربية هذه الفتاة ، و لكن عندما وجدت أنها قد أُغرَمت باعتزازها باسمها و وضعها الاجتماعي، قتلت هذه الطفلة ووالدتها ، ظانه أن عارها قد يكون غير معروفاً ، فقد عاشت طوال هذه السنوات الكئيبة في هذا المنزل مع سرها المهيب .
كان هناك حول هذا الصندوق أموالاً و مجوهرات متكدسة في كل مكان ، و ورق في الدرج بينه ورقة مكتوب فيها : " حصة لوسي في ميراث أبيها " لقد حققت أمنيات نانسي بالضبط ، لأنها كانت متيقنة وقتها أنها أتت إليها بنفسها تلك الليلة . لتمنع فضيحة من ان تستقر علي سمعة متوفي ، فأخذت قسيسنا ليحفظ سرها هذا و بحضوره دفن جثمانها بهدوء في هذه الأرض المقدسة . أما الأموال و المجوهرات فقد ذهبت للفقراء و للمبني القديم الذي حولته جدتي إلي ملجأ للفتيات المعدمات ؛ ليلاً و نهاراً كانت تجثو علي ركبتيّ لتصلي من اجل أن تنال نانسي بلاك المغفرة و أن تنعم روحها القلقة بالسلام .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى