الدكتور مصطفى حركات - قصتي مع العروض لمن لا بعرفها

ابتدأت قصتي مع العروض سنة 1975، وذلك بعد أن كلمني أحد الأصدقاء، وكان مولعا بهذا الفن، عن أوجه التشابه بين العروض والرياضيات.
ثم سمعت أحد الأساتذة يتكلم عن الخليل وعن "الزمر الدورية" الموجودة في نظريات الفراهيدي، (Les groupes cycliques).
وعثرت ذات يوم على كتاب في العروض، وكانت مرسومة في إحدى صفحاته الدوائر العروضية، ولم يكن لي أي علم بهذه الدوائر، لأن دراستنا لأوزان الشعر العربي في الثانوي، كانت مقتصرة على وصف سطحي للبحور الأساسية.
وأعجبت إعجابا كبيرا بهذا التنظيم لأوزان شعرنا، وبالطريقة التي رتبت بها البحور وبإمكانية اندماج بعضها في أجزاء البعض الآخر.
وحاولت أن أفهم.. وبحثت عن هيكل للزمر الدورية فلم أجده، وذلك لسبب بسيط وهو أن مجموعة البحور غير مزوَّدة بقانون داخلي والزمرة يشترط أن يعرف فيها قانون مثل الجمع، والضرب، والطرح، والقسمة. وتشترط في هذا القانون خواص، واتضح لي أن الأستاذ الذي تكلم عن الزمر الدورية لا يعرف مفهوم الزمرة، وإنما خيل إليه أن الدورية التي تتصف بها بعض الزمر تتطابق مع الدوائر العروضية...
وكان عليَّ أن أبحث على المفهوم الرياضي الذي يتطابق مع مفهوم الدائرة...
فعرَّفت العلاقة الدورانية بين سلسلتين من الرموز، وبرهنت على أن هذه العلاقة علاقة تكافؤ، وجاء بعد هذا تعريف الدائرة سهلا، بسيطًا: الدوائر العروضية هي أصناف التكافؤ وفق هذه العلاقة.
وقد ساعدني في عملي هذا، اهتمامي الكبير باللسانيات الرياضية التي كنت أدرسها من أجل المتعة، وذلك لأنها تمثل التقاء ميولي العميقة نحو الأدب بميولي نحو الرياضيات، فلم أجد أي صعوبة في إدماج مجموعات الأوزان ضمن دراسة اللغات الصورية.
وبعد تعريف الدائرة بحثت عن بعض خواصها، واتّجه اهتمامي إلى إحصاء عناصرها، وكان الإحصاء مرتبطا بدورية السلسلة التي تربط بين عدد عناصر الدائرة وبين دورية هذه العناصر.
وهذه النظرية لم أستطع أن أبرهن عليها بصفة عامة وشاملة إلا بعد سنة أو سنتين.
وفكرت في الأول أن تأخذ دراستي هذه شكل مقال في مجلة علمية، ولكن سرعان ما اتسع البحث: درست مفهوم الوزن بصفة صورية، وجعلت من البحور أنحاءا تحويلية، وأعطيت للزحافات أشكال أشجار إحصائية، وأدخلت نظرية البيانات لتمثيل الأوزان..وتطرقت لدراسة الشعر الحر أبحث عن نحو له.
وسرعان ما تحول المقال إلى كتاب... وودت أن يكون هذا الكتاب عددا خاصا من أعداد هذه المجلة، ولكن الظروف لم تكن مساعدة، بالرغم من أن المسؤول على هذه المجلة هو الصديق الذي رماني بين أحضان العروض..
ونصحني أحد الأصدقاء، أن أحوّل عملي إلى أطروحة، فذهبت إلى باريس في معهد اللسانيات، وقابلت هناك الأستاذ كوليولي (Culioli) متأبطاً كتابي... ووجهني الأستاذ كوليولي إلى جاك روبو(Jaques Roubaud) وكان روبو أستاذ الرياضيات بالجامعة، وكان شاعرا مشهورا ومنظرا للعروض والإيقاع...
والتقيت بجاك روبو وكلمته عن نظرية الخليل، وكان يعرفها لأنه ترجم مقالا لهال وكيزر (M.Halle et S.Keyser) عرض فيه نموذج الفراهيدي.
وأعجب جاك بتقنين لغتنا بواسطة السواكن والمتحركات لأنه كان يشك هو وزملاؤه في مفهوم المقطع اللغوي...
وكان روبو يدير مع أحد أصدقاءه ليون روبيل (Léon Robel) مركز بحث اسمه: مركز فن الشعر المقارن (Centre de Poétique Comparée) وكان مقره شارع ليل... وإمكانياتهم كانت محدودة جدا وأظن أن الميزانية كانت لا تتعدى خمسة مليون سنتيم للسنة، كانوا من هذه الميزانية يدفعون أجرة سكرتيرة، ويصدرون مجلتين..
وكان الباحثون في هذا المركز يجتمعون كل يوم جمعة مدة ساعتين لدراسة موضوع ما، وساعتين بعدها لسماع محاضرة، ثم يذهبون إلى المقهى يتبادلون أطراف الحديث حول الشعر والإيقاع والترجمة...
وكان من بين الباحثين بييرلوسن (Pierre Lusson) الذي كان رياضيا، مهتما بالموسيقى وعلم الإيقاع ويعد من مخترعي نظرية الإيقاع.
ونظرية الإيقاع هذه شبيهة جدا بنظرية الخليل بن أحمد، وأذكر أنني لما ألقيت محاضرة في مركز فن الشعر المقارن، دهش الجميع و شـعروا بـأن الفراهيدي قد سبقهم في هذا الميدان.
وكان يدهشني كثيرا جاك روبو، لأنه كان يفضل اختيارات الخليل على كل الاختيارات، ويفضل التقنين الذي استعمله صاحب العروض ومصطلحاته، ورغم جهله للعربية كان روبو يفهم، من أدنى تلميح، كل نوايا الخليل.
وقدمت أطروحة الدرجة الثالثة سنة 1979، بعد أن ترجمت بحثي وطورته وتركت منه بعض الجوانب الرياضية البحتة التي لم تكن لها استعمالات فعلية..
وتطورت أبحاثي وذلك بعد أن اكتشفت أعمال هال وكايزر حول العروض المولد (La métrique générative). وكان الشيء الهام في هذه الأعمال هو التوضيحات الخاصة بالنموذج وبتحقيق النموذج (أي بمستوى البنية العميقة ومستوى البنية السطحية) وأنشأ هذان الباحثان نموذجا للشعر العربي انطلاقا من النموذج الخليلي، وهذا النموذج اعترف بكل مكونات عروضنا: بالأسباب والأوتاد التي تجاهلها المستشرقون، بالتفاعيل، بالدوائر. وبسطت قواعد الزحافات والعلل في هذه النظرية حتى أصبحت تؤول كلها إلى قاعدتين أو ثلاث... ولكن من جهة أخرى أغلق هذان الباحثان بعض النوافذ، وعاملا الإيقاع معاملة اللغويين، وحرصا على إعطاء العروض العربي شكل نحو توليدي ينطلق من بديهية واحدة، فأصبحت قواعده مصطنعة...
واتجهت جهودي بعد 1979 نحو تحظير دكتوراه الدولة التي نوقشت سنة 1984.
درست وحللت في أطروحتي كل النظريات العروضية الخاصة بالشعر العربي، القديمة منها والحديثة، وأذكر من بينها:
نظرية الخليل، ونظرية الجوهري، نظرية القرطاجني، أعمال المستشرقين مثل الألماني فايل والفرنسي ستانسلاس قويار، أعمال الكاتب وأبو ديب، وغيرهم...
وكان العمل شاقًّا لأن النماذج مجرَّدة، ولأن أصحابها يفترضون، في كثير من الحالات، أشياء خرافية...
بنينا من جديد نظرية الجوهري وذلك انطلاقا من الوثائق القليلة التي تكلمت عنها، وحققنا كل مقولات حازم القرطاجني، فوجدنا البعض منها صالحا والآخر خاطئا، وبرهنا على أن النبر في العربية، وفي ميدان العروض، خرافة، وهو آت من المزج بين مستويين مختلفين تماما: مستوى الأداء.
وتابعنا ستانسلاس قويار في دروبه العسيرة، والمُلْتَوِيَة، والغامضة، باحثين عن الحقيقة الغائبة، ومبرهنين على أنه يمكن الوصول إلى الصدق انطلاقا من الخطإ، وأثبتنا أن نموذج "أبو ديب" ليس نموذجا أو أنه لا يتعدى أن يكون تعبيرا لمقولات مؤكدة مثل: س = س، وللوصول إلى هذا الهدف بنينا مكانه النظرية التي كان يود إنشاءها، ولم يستطع... أما الكاتب فإننا برهنا على أنه لا توجد أي علاقة بين هيكل الأرقام الثنائية وبين العروض، وأثبتنا أن الخواص الغريبة التي اكتشفها، لا تتعدى أن تكون مظهرا من مظاهر الشعر العربي وهي ثبات عدد المقاطع في بعض البحور...
ليسامحني كل هؤلاء! لم أقصد نقدهم من أجل النقد ولم أنو تحطيم أعمالهم من أجل التحطيم، ولكن العلم يقتضي أن تقال الحقائق... وبما أن بعض الباحثين نهجوا منهج التخلف فنقدوا الخليل عن جهل، في المجالات التي لا يجوز فيها النقد، وبنوا النماذج الفاسدة، وتظاهروا بمعرفة علم الفونولجيا لأنهم اكتشفوا المقطع المفتوح والمقطع المغلق، وبعلم الرياضيات، لأنهم استطاعوا العد في النظام الثنائي، بما أن هؤلاء تصرفوا هذا التصرف، وحاولوا إتمام عملية التحطيم التي بدأها المستشرقون... لماذا أسكت؟ فضلت أن أقول الحقيقة، أن أقول: "هؤلاء ليسوا علماءنا الجدد وشتَّان ما بين الخليل وبينهم"..
كل أعمالنا في العروض لخّصت في أطروحة دكتوراه الدولة، وكان عنوان هذه الأطروحة: "النموذج الخليلي وسط النظريات"، وتعرضنا فيه لدراسة النظريات التي تكلمنا عنها.
أما الجزء الثاني فكان عنوانه: "امتداد" وأعني به: امتدادا لنظرية الخليل، وضمنا هذا الجزء كل أعمالنا الشخصية.
فتكلمنا فيه عن الدائرة العروضية وأعطينا التعاريف والنظريات التي أشرنا إليها ولكن موَسَّعة، شاملة، واتجهنا اتجاها آخر في دراسة الدائرة، فبعد تعريفها النظري واستنتاج ما يمكن استنتاجه من مقولات، بحثنا عن علاقة الدائرة بالواقع الشعري، ودققنا في القضية التي وضعها البعض كبديهية لهم، وهي أن الدائرة شيء اصطناعي لا علاقة له بالواقع... وبما أن الدائرة اتُّهِمَت بإنجاب أوزان غير شرعية، مثل المديد، والهزج، والمضارع، والمقتضب، والمجتث، التي لا تستعمل على شكلها الناتج عن التدوير، فإننا بحثنا عن العلاقات الموجودة في أشكال الأوزان المستعملة، وكانت النتيجة فوق كل ما كنا نتوقع. نعم إن هذه الأوزان خاضعة للتبديل الدوراني وقادنا هذا إلى اختراع دوائر جديدة مثل دائرة المديد حسب شكله المستعمل أي حسب الوزن:
( فاعـلاتن فاعـلـن فاعـلاتن ) في كل شطر.

بقلم العالم الجليل الأستاذ الدكتور الجزائري مصطفى حركات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى