البروفيسور لطفي منصور - في مِقْثاةِ الْبِطِّيخِ.. قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ

(جَهْلُ الطُّفُولَةِ)
كانَ فّتْحِي مُولَعًا بِجَدِّهِ، وَكانَ الْجَدُّ يَحِنُّ عَلَيْهِ جِدًّا يَصْحَبُهُ مَعَهُ أَنَّى تَوَجَّهَ، كَأَنَّهُ رَأَى فِيه أَماراتِ الذَّكاءِ وَالْفَصاحَةِ.
كانَ مِنْ عادَةِ الْجَدِّ أَنْ يَأْتِيَ صَباحًا وَيَدْفَعَ لِحَفِيدِهِ قِطْعَةَ نُقُودٍ لِيَشْتَرِيَ تَمْرًا أَوْ حَلاوَةً لِيَأْخُذَها مَعَهُ إلى الْمَدْرَسَةِ وَيَأْكُلَها في "التَّنَفُّسِ" هَكَذا كانَتْ تُدْعَى الِاسْتِراحَةُ بَيْنَ الدُّروسِ.
كانَ فَتْحِي يَعْلَمُ أَنَّهُ الْوَحِيدُ مِنْ بَيْنِ الْأَحْفادِ الْكُثُرِ يَحْظَى بِهَذُِهِ الْمُعامَلَةِ مِنْ جَدِّهِ.
في مَوْسِمِ الْبَيادِرِ كانَ يَنامُ مَعَ جَدِّهِ عَلَى الْبَيْدَرِ لِحِراسَةِ "الطَّرْحَةِ" وَأَكْوامِ الْقَمْحِ والشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ بّعْدَ دَرْسِها بالنَّوْرَجِ وَتَذْرِيَتِها وّتَصْفِيَتِها، وَفَصْلِها عَنْ سَنابِلِها وَقَشِّها.
وَفي مَوْسِمِ الْبِطِّيخِ والشِّمّامِ كانَ يَنامُ مَعَ جَدِّهِ في "الْمَنام" في مِقْثاةٍ قَرِيبَةٍ مُنَ الْقَرْيَةِ. وَالْمَنامُ عِبارّةٌ عَنْ فَرْشٍ مِنَ الرَّمْلِ مُرْتَفِعٌٍ مِقْدارَ شِبْرَيْنِ عَنِ الْأَرْضِ، وَيَكْسُونَهُ بِالْحُصُر
وَيُبْقُونَهُ مَكْشُوفًا لِلسَّماء، وَأَحْيانًا يَنامونَ عَلَى الرَّمْلِ دُونَ فَرْشٍ،كَما قالَ الْأَدِيبُ الْمَنْفَلُوطِي: يَفْتّرِشُونَ الْأَرْضَ وَيَلْتَحِفُونَ السَّماءَ.
في صَباحِ أَحَدِ الْأَيَّامِ كانَ فَتْحِي قّدْ خَرَجَ إلى المَدْرَسَةِ، جاءَ الْجَدُّ لِيُخْبِرَ الْوالِدَةَ أَنَّهُ لَنْ يَنامَ في الْمِقْثاةِ الْقَريبَةِ بَلْ في مِقْثاةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْقَرْيَة، وَطَلَبَ أَنْ يَنامَ فَتٍحِي في الْبَيتِ لا في الْمِقْثاةِ.
أُخْبِرَ فَتْحِي - الَّذي لَمْ يَتَجاوَزِ الثّامِنَةَ مِنْ عُمْرِه - بِطَلَبِ الْجَدّ، إلّا أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى النَّوْمِ في الْمِقْثاةِ في الْبَرِّيَّةِ.
لَمْ تُحاوِلِ الْأُمُّ مَنْعَ ابْنِها النَّوْمَ وَحِيدًا خارِجَ الْبَيْتِ، وَقُبَيْلَ الْغُرُوبِ تَوَجَّهَ فَتْحِي إلى الْمِقْثاةِ الَّتي تَبْعُدُ أَلْفَيْ مِتْرٍ عَنْ بَيْتِهِ. وَاصْطَحَبَ مَعَهُ أَخوَيْهِ الْأَصْغَرَ مِنْهْ يَحْمِلانِ بَعْضَ الزّادِ والْماءِ.
وَصَلَ فَتْحِي الْمَنامَ، وَطَلَبَ مِنْ أَخَوَيْهِ أَنْ يَعُودا إلى الْبَيْتِ
وَأَكَلَ شْيئًا مِنَ الطَّعامِ، وَما أَنْ نَزَلَتِ الظُّلْمَةُ حَتّى تَلَفَّعَ بِعَباءَةِ جَدِّهِ الْمَنْسُوجَةِ مِنَ الصُّوفِ الْخَشِنِ ، وَكانُوا يُسَمُّونَها "الْبِشْت". وَاسْتَغْرَقَ في نَوْمٍ عَمِيقٍ . وَيا وَيْلَهُ مِمّا حَدَثَ.
لَقَدْ أَفاقَ فَزِعًا عَلَى وَلْوَلَةِ بَناتِ آوَى قَرِيبَةً مِنْهُ. في الْبِدايَةِ ظَنَّها كِلابًا، فَزَجَرَها كَما يُزْجَرُ الْكَلْبُ، إلَّا أَنَّها لَمْ تَنْزَجِرْ.
أَصابَهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا يُدافِعُ بِها عَنْ نَفْسِهِ
وَوَقَفَ حائِرًا ماذا يَفْعَلُ، وَهُنا وَقَعَتْ الْمَشِيئَةُ الْإلَهِيَّةُ. إنَّهُ التُّرابُ النّاعِمُ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يُعَفِّرُ وُجُوهَها وَعُيُونَها فَوَلَّتْ مُنْصَرِفَةً، وَلَمْ يَبْقَ لَها أَثَرٌ.
بَقِيَ فَتْحِي يَقِظًا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ غَلَبَهُ النُّعاسُ، فَتَلَفَّعَ وَغَطَّى رَأْسَهُ بِالْغِطاءِ، وَلَمْ يَصْحُ إلّا عَلَى صَوْتِ جَدِّهِ يُوقِظُهُ بِقَلَقٍ شَدِيدٍ.
وَكانَ الْجَدُّ قَدْ أَبَكَرَ إلى بَيْتِ حَفيدِهِ، فَقَدْ ساوَرَتْهُ الْخَشْيَةُ أَنْ يَنامَ الْوَلَدُ في الْمِقْثاةِ وَحِيدًا، فَلَمّا لَمْ يَجِدْهُ أَصابَهُ الْفَزَعُ وَضَرَبَ كَفًّا بِكَفٍّ وَقالَ: لقَدِ افْتَرَسَتْهُ السِّباعُ. وَتَبَدَّدَ خَوْفُهُ عِنْدَما رَأى حَفيدَهُ سالِمًا، فاحْتَضَنَهُ وَطَمْأَنَهُ وَكَنّاهُ أَبا جاسِرٍ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى