شهادات خاصة الطايع ميلود* - اليوسفي كما عرفته

سأقتصر في كلمتي المقتضبة، في حق سي حاميد اليوسفي، على جملة من المحطات التي تمتد على مدى خمسين عامًا ونيف، والتي كان لها الأثر الكبير على شخصه، فأعطتنا تلك الشخصية الصموت، الخجولة بتعبيره. فهو الذي وصف نفسه بهذه الأوصاف، أثناء تقديمه لمجموعته القصصية "الكأس المسورة".

سأبدأ من ثانوية "محمد الخامس" بمراكش، التي درس فيها الثانوي التأهيلي. ففي الفترة التي تواجد فيها اليوسفي بهذه المؤسسة كانت فرائص السلطة ترتعد حتى من ذكر اسم هذه الثانوية، خاصة وأن الفترة هي فترة سبعينات القرن الماضي، وهي فترة غليان، وفترة قمع ومتابعات، في حق كل من يحمل فكرًا تقدميا (وبالمناسبة ما طبع الفترة هو هذا الصراع بين الفكر التقدمي وبين الفكر الرجعي). من هنا بدأت المسيرة عند سي حاميد، ليلتحق بمدينة فاس، وتحديدا بقلعة النضال "ظهر المهراز". انخرط كمناضل في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنظمة الطلابية العتيدة، ذات التوجه التقدمي اليساري. بعدها يُعيَن في ثانوية بومالن دادس في إطار الخدمة المدنية. هذه القرية التي حصل لي الشرف بالتعرف عليه، بل ومشاركته إياي "الملح والجنون" على حد تعبيره في إحدى التدوينات، وكان يقصدني بالاسم. واصل مسيرته النضالية إذ انخرط في العمل النقابي كمناضل بموازاة مع عمله كأستاذ. وهنا سأفتح قوسين لأتحدث عن مزيتين يتميز بهما اليوسفي، ولا يعرفهما عنه إلا القليل :

1 ـ الميزة الأولى وهي سعة الاطلاع. لقد كان يخصص مزانية من راتبه الشهري، لصاحب مكتبة ـ وقد تحدث عنه في إحدى قصصه في كتابه " وشوم في الذاكرة " ـ فأَحدثُ الروايات التي كانت تظهر في المكتبات تجدها لديه، وأحدث النظريات في النقد أو ما اتصل بالأدب تكون عنده أولاً بأول.

2 ـ الميزة الثانية ـ أظن ان لا أحد سمع بها قبل اليوم ـ وهي شغفه بأعمال الرسامين العالميين، وقد تصادف في تلك الفترة أن كانت تصدر مجلة فرنسية تحمل عنوان "الرسامون الكبار "، وتوزع في بعض الاكشاك المغربية. كانت تخصص عددا شهريا لكل شخصية. ومن حسن حظنا "لأنني ابتليت أنا أيضا بذلك الهوس"، ان هذه المجلة كانت تقدم كهدية منها أربع لوحات من أعمال الرسام. هذه اللوحات كان اليوسفي يصنع لها إطارات من الخشب والزجاج، ويزين بها جدران المنزل الذي كان يسكنه. وبالمناسبة فحياة اليوسفي ليس فيها مكان للفوضى أو العبث كل شيء عنده منظم، حتى وقت فراغه من تحضير الدروس أو القراءة يستغله في شيء يعجبه جماليا.

ارتباط سي حاميد بنضال هذا الشعب، وسعة اطلاعه الفكري هي التي دفعته بعد أن أنهى مساره المهني إلى الاتجاه إلى الكتابة لنفسه أولاً " حتى لا يَنسى أو يُنسى "، والكتابة للفلاحين وللعمال، للطبقة المسحوقة التي ظل حاملاً لهمومها.

تنتهى فترة بومالن، التي دامت قرابة ثمانِ سنوات، بمحاسنها ومساوئها وتشاء الأقدار أن نفترق، وينتقل الأستاذ إلى "زاوية سيدي اسماعيل "، وبقي على نفس النهج، بل زاد انخراطه في العمل النقابي حد تحمله للمسؤولية في مكاتب النقابة.

بعدها انتقل إلى مراكش، وبقي على هذه الحال، إلى حين إحالته على التقاعد، لكنه قبل ذلك كان يخطط لما يمكن ان يقوم به بعد التقاعد، بدل الاستكانة والخمول الذَين عادة ما يطبعان حياة عدد كبير من المتقاعدين. ففكر في الكتابة، واختار فن القصة القصيرة أداة للتعبير عن هموم كل شخوصه، وما شملته من انتقادات لأوضاع لا تعجبه. لقد تابعت عن كثب الكتابات منذ أول قصة، وكنت فعلا معجبا بما يكتب، اعتبارا لكون اللغة مطواعة لسي حاميد اليوسفي، وهذا راجع لسعة اطلاعه كما ذكرت سابقا، وكذلك اشتمالها على مفردات من الدارجة كمعين لإيصال الأفكار للقارئ البسيط، وكذا وضع معجم شارح لتلك الكلمات لغير المغاربة.

ما قد ذكرته سابقا، ليس سِوى خدش في سطح ـ كما يُقال في اللغة الانجليزية ـ تاريخ عريق محفور بعمق، يحكي قصة مناضل لا يفتر عطاؤه.

الهامش:

*الطايع ميلود عمل كأستاذ درس مادة الفلسفة، وختم حياته المهنية بالاشتغال كمدير ثانوية تأهيلية.

مراكش 07 يونيو 2023






mail.google.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى