خالد جهاد - كوثر النشاشيبي.. بصمة في الوجدان

المحبون لا يعرفون الموت فكيف بمن عاش حياة الناس وكان جزءًا منها وجزءاً من تاريخ شعب وأمة، فوحد صوتها الشجي ضفتين وصنع وطناً لأبنائه الذين حرموا من الإلتحام بترابه وتنسم عطره، وحملت بنبرتها التي تفيض أمومةً وصدقاً وحناناً قضيةً تنوء بحملها الجبال وارتبط اسمها بها حتى بعد رحيلها الذي لم يكن كافياً لتغييبها، فالشمس عند غروبها تتحضر للبزوغ الحتمي من جديد.. وهي مثلها.. رائدةٌ وأيقونةٌ من أيقونات الزمن الجميل.. هي صوت الأرض وجسر المحبة بين المشتاقين.. هي ابنة الأردن وفلسطين الكبيرة كوثر النشاشيبي..

أبصرت عيناها النور في مدينة السلام مدينة القدس عام ١٩٣٠ في منزل والدها السيد يعقوب الجاعوني الذي كان يعمل في الشرطة، وقد تعلقت كثيراً به وهو الذي أولاها رعايةً واهتماماً من نوعٍ خاص، نشأت كوثر في حارات البلدة القديمة ثم التحقت ب(المدرسة العلوية) في القدس، وبعد أن أنهت المرحلة الابتدائية انتقلت إلى مدرسة (المأمونية) لدراسة المرحلة الثانوية التي أنهتها بنجاح مما مكنها من الإلتحاق بدار المعلمات في القدس والتي تخرجت منها بتفوق عام ١٩٤٦، وبرغم أن شهادتها تؤهلها للحصول على وظيفة معلمة في المدارس الثانوية إلا أن سحر العمل الإذاعي والذي سيمتد ليشمل التمثيل والدبلجة كان أقوى بكثير، فبدأت العمل في (إذاعة رام الله) من خلال تقديم برامج للأطفال لكن عملها هناك لم يكن معلناً حيث لا يظهر اسمها الحقيقي كي لا يمنعها والدها أو تتعرض لرفض العائلة، واستمرت تعمل في الإذاعة بهذه الطريقة حتى تم تأسيس (إذاعة عمان)، فانتقلت للعمل هناك حيث كان لرئيس الوزراء الأسبق (وصفي التل) آنذاك دور في إقناعها بالإنتقال إلى عمّان والعمل في الإذاعة، وقد لقيت خطوتها للعمل بشكلٍ واضح في الإذاعة بعيداً عن التخفي معارضة الأهل، لكنها قاومت هذا الرفض وواصلت مسيرتها المتميزة التي شهدت نقطة تحول في العام ١٩٦٥..

والذي كان بدايتها الفعلية في الوصول إلى المستمعين وحصد جماهيريةٍ كبرى جعلتها أحد أبرز الأسماء إن لم تكن هي فعلاً أبرزهم عبر أثير الإذاعة الأردنية التي وصلت معها إلى مختلف البيوت الأردنية والفلسطينية، ولتكون شاهدة عيان على لحظاتٍ مفصلية في التاريخ العربي المعاصر، فوظفت مواهبها المتعددة ولغتها العربية الممتازة وخامة صوتها الأنيقة في خدمة الوطن والناس من خلال تقديم سلسلةٍ من البرامج الناجحة والمتنوعة مثل (لمسة حنان) و(الأسرة) و(ما يطلبه المستمعون) حيث شكلت هذه البرامج عنوان نجاحها وتميزها ونقلةً نوعية في مسيرتها، تلك المسيرة التي شملت العديد من التجارب الهامة مثل كتابة المقالات وتأليف المسرحيات التي نذكر منها على سبيل المثال (الأشقياء) عام ١٩٧٩، (العز بهدلة) عام ١٩٨٠، (علي بابا والأربعون حرامي) عام ١٩٨١، والتي تعدى دورها فيها الكتابة إلى التمثيل في عددٍ منها إلى جانب عددٍ من الكلاسيكيات الأردنية المعروفة على صعيد الدراما مثل مسلسلي (ابراهيم طوقان) و (حارة أبو عواد)، بالإضافة إلى تجربتها في دبلجة المسلسلات الكارتونية للأطفال والتي يعد (سالي) و (نساء صغيرات) أشهرها على الإطلاق..

ولا ننسى أنها قامت بتدريب الكثير من الكوادر الأردنية والفلسطينية الناجحة ولم تبخل بالمعرفة والخبرة على كل من عرفتهم مما دعا البعض إلى تسميتها ب( أم المذيعين الأردنيين )، كما عرف عنها تفانيها في عملها ليس فقط في الإذاعة بل في مختلف ميادين العمل الإجتماعي والتطوعي فوثقت تجربتها عبر كتابها (منار) في التوفيق بين دورها المهني ودورها في الحياة كزوجة وأم خاصةً بعد ارتباطها بالإعلامي الكبير (عصمت النشاشيبي) الذين كان داعماً لها ومعجباً بنجاحاتها ومحبة الناس لها، كما عملت على تحسين ظروف الكثير من السيدات والأسر من خلال عملها في الجمعيات الخيرية وعضويتها في الإتحاد النسائي الأردني وتوفير فرص تساعد الكثيرات منهن على العمل والإعتماد على أنفسهن لكسب الرزق وحمايتهن من الفقر والعوز..

ويأتي برنامجها الشهير (رسائل شوق) الذي اخترنا الحديث عنه بشكلٍ منفرد في مكانةٍ خاصة ومرموقة في وجدان الشعبين الأردني والفلسطيني نظراً لفكرته الإنسانية في المقام الأول، والتي كانت تقوم ببلسمة الجراح ومحاولة التقريب بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل المحتل مع أقاربهم في الأردن وبقية بلاد العالم عبر قراءة رسائلهم لمعرفة أخبارهم في زمنٍ لم يكن فيه التواصل بالسهولة التي نراها اليوم، فكانت العائلات تلتف حول الراديو لتعرف خبراً من هنا أو تستمع إلى رسالةٍ من هناك تختصر في سطورها القليلة بعضاً من تفاصيل الحياة التي باتت حلماً بعيد المنال خلف سياجٍ شائك يحجب عنهم أحبتهم وأرضهم التي أخرجوا منها، فكانت صوت الغائبين والمبعدين وأملاً يتعلق به كل مشتاقٍ ومحروم ومنتظر في تلك الحقبة الهامة من تاريخ الوطن والقضية الفلسطينية، والتي استمرت حتى عام ١٩٩٤ لتترك أثراً لا يمحى وبصمةً لا تموت من خلال هذا البرنامج الذي كان يفتتح حلقاته بأغنية (السيدة فيروز) الشهيرة (جايبلي سلام)، بالإضافة إلى برنامج (سلامي لكم) الذي نقلت من خلاله تحيات النازحين واللاجئين والفارين من الإحتلال الصهيوني للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان..

(نحن بخير طمئنونا).. جملتها التي كانت تختتم بها رسائلها المحلّقة في القلوب بعباراتٍ دافئة من وإلى الأهل في فلسطين كأن تقول: (نبلغكم أن هاجر أنجبت مولودا ذكراً أسمته حلمي وهي في صحة جيدة.. نحن بخير طمئنونا).. (إلى العمة سريّة والخالات المازة وعفيفة وحفيظة نبلغكم أن أم نظمي أجرت عملية “مي زرقا” لعينها اليسرى وتكللت بالنجاح ..نحن بخير طمئنونا)..

كرم الملك عبدالله الثاني بن الحسين عام ٢٠٠٤ الإعلامية كوثر النشاشيبي بمنحها (وسام الإستقلال الأردني) في حفل تكريمي بمناسبة ذكرى يوم الإستقلال، والذي تسلمته ابنتها السيدة (ليالي النشاشيبي) كونها عانت في سنواتها الأخيرة من مرضٍ عضال واجهته بكل شجاعة، وبعد معاناة مريرة مع المرض توفيت الإعلامية البارزة في الثالث عشر من شهر أيلول/ سبتمبر عام ٢٠٠٤ بعد أشهرٍ قليلة من تكريمها، ليترك فقدها حزناً عميقاً عند أهلها ومحبيها ومعجبيها، ويلحق بها زوجها ورفيق حياتها (عصمت النشاشيبي) بعد مدةٍ قصيرة، تاركةً خلفها مسيرة حافلة وتجربةً ريادية مشرفة على أكثر من صعيد جعلت منها أيقونةً إنسانية ووطنية وإعلامية عصيةً على التكرار والنسيان، لا زال صوتها يسكن في وجدان وقلوب كل من عرفوها وأصبحت جزءًا من حياتهم وذكرياتهم وتاريخهم الشخصي عبر صوتها الذي حمل إليهم أرضهم وبث في غربتهم أكثر من حياة..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى