أبووردة السعدني - شذرات من تاريخ دولة المغول الاسلامية في الهند (١)

(١)

... أشرقت شمس دولة المغول الإسلامية في شبه القارة الهندية في النصف الأول من القرن العاشر الهجري - الثالث عشر الميلادي - ، تبوأت الهند - في عصرها - أوج عظمتها وازدهارها ، وانتشر الإسلام في معظم ربوعها ، وازدهرت العلوم والآداب والفنون في أرجائها ، ونعم الهنود برخاء اقتصادي لا ضريب له ، فصارت الهند في عصر المغول دولة عالمية كبرى - طوال ثلاثة قرون - تخشاها الدول وتخطب ودها ....
... وضعت لبنات دولة المغول في شبه القارة الهندية عام 932/1526 ، على يد السلطان " ظهير الدين محمد بابر " ، الذي لقب بلقب " فاتح الهند " ، متخذا من مدينة " أكره " -جنوب نيودلهي - عاصمة له ، ويطلق المؤرخون الأوربيون على تلك الدولة ، التي أرسى دعائمها " محمد بابر " : إمبراطورية المغول في الهند ، ويلقبون ملوكها بلقب " الأباطرة العظام " ، ولما كان " بابر " من أحفاد السلطان المغولي الشهير " تيمورلنك " فقد سمى عدد من المؤرخين سلاطين دولة المغول في الهند باسم " أباطرة الهند التيموريين " ...
... يمكن إيجاز أهم معالم تاريخ دولة المغول الإسلامية في شبه القارة الهندية في عدة نقاط ، أهمها :
أولا : حمل سلاطين المغول الأوائل راية " الجهاد الديني والسياسي " ، فاستطاعوا - بإخلاصهم وشجاعتهم - تحقيق انتصارات قوية مكنتهم من نشر الإسلام في أرجاء شاسعة من الهند ، وتحقيق " وحدة سياسية " استعصت على كثير من الدول التي سبقتهم في حكم الهند ...
ثانيا : تمتع سلاطين دولة المغول ببصيرة نافذة ورؤية سياسية ثاقبة ، حين أيقنوا أن دولتهم لن تقوم لها قائمة ، ولن تنهض بالقوة العسكرية وحدها ، فبذلوا جهودهم لترسيخ دعائمها بإصلاح إداري ، وإنشاء مرافق عامة يعود نفعها على الرعايا دون تفرقة دينية أوعرقية ...
ثالثا : حرص هؤلاء السلاطين على رقي الهند علميا وحضاريا ، فأنشأوا المساجد الجامعة ، والمدارس ومعاهد العلم ، والربط ، والزوايا ، والتكايا ، والعمارات - المطاعم الخيرية - ، وأغدقوا على العلماء وطلبة العلم الرواتب والعطايا ، فشد العلماء والشعراء والفنانون والصناع - من كل حدب وصوب - رحالهم إلي الهند ، فكان منهم :العرب والعجم ، والترك ، والصينيون ، والفرنسيون ، والإيطاليون ، وغيرهم ، اتخذهم السلاطين مستشارين لهم ، وقربوهم منهم وحضروا دروسهم ومناظراتهم العلمية ، فشهدت الهند نهضة حضارية ليس لها نظير ، لا تقل شأنا ولاقدرا عن : عهد إليصابات في بريطانيا ، وعصر النهضة في إيطاليا ، ولويس الرابع عشر في فرنسا ، وسليمان القانوني في الدولة العثمانية ...
رابعا : ارتبطت دولة الهند - في عصر المغول - بروابط وثقى بالدولة العثمانية " دولة الخلافة الإسلامية " ، فتبادلت الدولتان العظميان السفراء والهدايا ، والملحوظ حرص الدولتين على اتخاذ " علماء الدين " سفراء لحمل الرسائل بينهما ، وقد ازدادت العلاقات المغولية العثمانية توثقا لمقاومة الخطر الأوربي الصليبي ، والخطر الصفوي الشيعي الذي هدد كلتا الدولتين ...
خامسا : لم تقتصر الروابط الدينية المغولية على عاصمة الدولة العثمانية ، وإنما امتدت لتشمل الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، فأغدقوا عليهما العطايا والصدقات ، وشدوا الرحال إليهما لأداء فريضة الحج - كما سنذكر في هذه الدراسة - ، وامتدت الروابط - أيضا - إلى مدينة القاهرة ، حيث الجامع الأزهر الشريف ، فتواصلت عطاياهم وهداياهم السنوية إلى علمائه وطلابه ، وتجاوزت الروابط المغولية الدولة العثمانية إلى مدن وسط آسيا ، حيث " خراسان " و " سمرقند " وغيرهما من مدائن العلم ، فتتابعت الصدقات والهدايا والعطايا إلى علماء تلك البلاد ...
خامسا : عاصرت دولة المغول - في شبه القارة الهندية - الهجمة الصليبية الشرسة على العالم الاسلامي ، التي أطلق عليها - زورا وبهتانا - مصطلح " الكشوف الجغرافية " - ، وكانت ترمي إلي حصار العالم الإسلامي و إفقاره اقتصاديا ، بالوصول إلى منابع ومصادر التجارة في الهند ، فقاومت دولة المغول وكابدت الاحتلال البرتغالي ، ثم الهولندي ، ثم الصراع البريطاني الفرنسي ، الى أن انفردت بريطانيا باحتلال الهند ، إثر هزيمة الفرنسيين سنة 1167- 1753 ...!!..
سادسا : من القضايا الجديرة بالذكر قضية السلطان أبي الفتح جلال الدين محمد أكبر ، المعروف - اختصارا - بجلال الدين أكبر ، وأكبر الكبير ، وأكبر الأعظم ، ثالث سلاطين دولة المغول في الهند ، والذي حكم شبه القارة الهندية أربعين سنة ، من 963 /1556 _ 1014/1605 ...
... تربع السلطان جلال الدين أكبر على عرش دولة المغول ولم يتجاوز عمره أربعة عشر عاما ، لكنه أظهر من الثبات والإقدام ، والحكمة والعقل ، ما جعل صفحات التاريخ تقف عند ذكر اسمه إجلالا وإكبارا ، فلقد استطاع بشجاعته أن يواصل فتح شمال الهند ، وساس بحكمته وحنكته رعاياه - على اختلاف دياناتهم وتباين أعراقهم - سياسة شهد له بها القاصي والداني ، وعلى الرغم من أنه كان " أميا " يجهل القراءة والكتابة ، إلا أنه أحاط نفسه بالعلماء والفلاسفة والشعراء والفنانين ، وبنى ما لا يحصى من المساجد ومدارس العلم ، وأوقف ما يجل حصره من الأوقاف على الحرمين الشريفين ، وقاوم ما كان فاشيا في بلاده من العادات البربرية ، كان يجلس الساعات الطوال مستوعبا ما يقرأ عليه من كتب العقيدة والفلسفة ، كان رجل دولة وسياسيا متميزا ، بنى قصرا كبيرا سماه " عبادت خانه " - أي دار العبادة - سنة 983 / 1575 ، لعقد المناظرات العقائدية لعلماء الأديان المختلفة ، الإسلامية والهندوسية وغيرهما ، فقد كان يحترم كل العقائد ، شديد الإعجاب بعبادة المجوس للشمس ، وقد خلص - من خلال المناظرات العقائدية في " دار عبادته " إلى ضرورة " اختلاق " دين جديد ، يتألف من كل ما هو حسن في سائر الأديان والمذاهب ، على وجه يفضي - فيما ظنه - للوصول إلى السلام والأمن بين رعاياه في شبه القارة الهندية ، وأطلق على الدين الجديد اسم " الدين الإلهي " ...!!..
... تلقفت بريطانيا تلك الديانة الجديدة فشجعت - في مطلع القرن العشرين - " ميرزا غلام أحمد القادياني -ت 1908 م في لاهور بباكستان - إلى ادعاء أنه المهدي المنتظر ، والمسيح الموعود ، ومجدد الإسلام في العصر الحديث ...!!....
... وقد تباينت آراء العلماء في عقيدة السلطان " جلال الدين أكبر " ، فقضى ب " كفره " جمع من العلماء ، بينما يرى " كبار" علماء العقيدة والفلسفة - على رأسهم الدكتور عبدالحليم محمود ، شيخ الأزهر ، ت1978م - ، أنه " ..مسلم حنفي ... لا يختلف - من الوجهة السياسية - عن باقي سلاطين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها " ....
... ويرى الدكتور عبدالرحمن بدوي - أستاذ الفلسفة الأسبق في جامعة القاهرة ، ت 2002م - ، أن : " أعمال السلطان جلال الدين أكبر لا تتنافى مع الإسلام في شيء ، وقصارى أمرها ، أنها أمور تنظيمية فرعية ، لا تمس عقيدة الإسلام في شيء ، ولايمكن - أبدا - أن يؤاخذ عليها مسلم ، فضلا عن أن يكفر بها " ، ثم يضيف قائلا : " إن أفق جلال الدين أكبر كان واسعا يتجاوز الحدود الضيقة ، التي يتوهم بعض المتزمتين ضرورة وضعها للإسلام " .....

****
يتبع

****




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى