الحمد لله الواحد الأحد، الذي خلق الإنسان في كبد، ونسق الأكوان من بدد، ورزق من شاء بلا عدد، على النعم والآلاء ذوات المدد، وعلى الحكم وطغراء الجدد، التي تسربل الجنان والخلد إيمانا وبيانا من الأزل وإلى الأبد، والصلاة والسلام على رسول الله الهاشمي العدناني صلاة تتوالى أزمانا وتتلالى قرآنا وآذانا ما امتد أكوانا هذا الأمد.
أما بعـد، فلقد أهاب بي من لا أملك رد أمره ومن لا أدرك برد بحره، وكان قد شمل، بسابغ نظره وبالغ خطره، كتاب النزهـة لما وضعته دليلا وأودعته جميلا من القول عليلا حينما اخترقت الآفـاق واسترقت المشتـاق من ذات اللبات والأطواق إلى ذات الجهات والأطباق، وأنا أطرق، من المسافات، الجنبات والأذواق، وأنا أشرق، ألفات، من الجذبات والإبراق، وأطبق، على المساقات، بالكاتبات الرقراق سيَرا مائيات الأعلاق خارطة لجغرافية الأوراق، أن أوفي الكلام بيانـًا، وأن أقفي، على التسيار من النزهة، بالبرهة من التذكار زمانا وأزمانا، وأن أصفي وأشتار، من قفيرالأخبار والأفكار جؤنـة تكون على تعاقب الأعصار، للطيب عنوانا، وتكون، من تناسب الأوتار، للمرقص للمطرب وجدانا، وللشاخص المُغرب إنسانا.
ولما كان التحديق أحدق بي في النزهة وأنا بين الأقاليم والتراسيم أشرق بالخرائط والوسائط، ولما كان التدقيق والتحقيـق والتوثيق والترقيق والتعريق والتـفريق معالم للمفاهيم في التصنيف والتوصيف والترصيف والتـأليف، فقد انصرفت إغماضا وعطفت إحماضا إلى ماء الشموس وحاء الحدوس وطاء الطروس أقـبس الحروف إيماضا، وألبس الطيوف إعراضا عن فهاهة الكتابة إلى حيث نباهة الربابة ومتاهة الغرابة، وإلى حيث القصيدة تلتبس كلا وأبعاضا.
قلت أما والقصيدة نأت بي أنا حتى صرت لا أنـا لأصرفن وجهتي إلى أرباضها، ثم لأقطفن جبهتي من أفـياضها، ولأكـشفن جهتي في أطـوالها وأعراضها، ولأندفن شبهتي ما بين بسطها وأقباضها، حتى أكون أنـا القافـية من عروضها وأغراضها.
أما والقصيدة نأيتُ بها إليّ لأطرفن شميم انتظام ونديم احتدام، ولأهتفن بالقصيدة.
القصيدة، يا أيها السائل القائل، سؤال التاريخ عن الذات، باذخة الجمال، يكتبها سؤال عن التاريخ في جغرافية المقال، وفي خارطة المنقال. يسلب الشاعر الزمان انسبال الشماريخ، من مواله، على أريج الكمان، ويسحب المكان إلى ما ليس هناك من المجال.
القصيدة انهمار اللحظات لكي لا تكون لحظات، وانشذار العتمات لتكون عتبات للكلام. هل كان كلاما ذلك الرسم الذي قال كلاما؟ وهل وقف الأصيحاب فاتحة أم ختاما ؟ وهل كان الحمام مروحة للرماد أم كان للجذى احتداما ؟ ومن غصّ حين قصّ، على الواقفين، مناما ؟ ومن تقصى وتقصص، بين العارفين، أواما ومداما ؟ من خصّ الذارفين حكيـًا، باللغة، انبهاما ؟
القصيـدة أنهار من الرحيل في الرحيل. تأتي كما حكايـات المستحيل. تأتي كنايـات عن العذل البليل وعن الجذل الجليل وعن المذل الخليل، وعن كنايات المدل العليل من الحكايات. تأتي الحكايات. جلنار الصدى شفق الهديل. تشتارالحديقة أرق الأصيل لترقى المساء. بياض يغارمن شهرزاد إذا تحكي عن وشاحات المساء. رياض تختارانزياحات الرماد لتـذكي لغة المساء. الصور منثورة أو منذورة للهباء من البهاء. للمعاني اللاقصيدة. تلك أنهار طلل محيل.
القصيدة طلل للمشردين رمالا، وبدل للمعمدين انعقالا. يا صاحبيّ من هام سؤالا ؟ من قام، بهامته، يتقرى وصالا؟ ومن نام، بلأمته، يتحرى نصالا ؟ خلل، يا صاحبيّ، في الرقيم الأول الذي كان اشتعالا. هل المعلقات كانت سجالا أم كانت انسدالا ؟ وهل المطوقات كانت للورد اختيالا أم كانت خيالا ؟ وهل المرقرقات، من دمنا، رقت اعتلالا أم راقت انسبالا ؟ قفا يا صاحبيّ على طلل واقف على أطلالنا، وعلى قسطل نازف من أقوالنا. ألا كونا احتمالا.
القصيدة احتمال الأزرق المديد. مديد كلام الليل يا شهرزاد وعنيد. لا لون للسواد إلا البديد البديد. لا لون للسواد من الكلمات إلا العميد البعيد. لا لون إلا العديد المديد. يا القصيدة، يا الجون الوليد الفقيد، ويا البون الرشيد الشريد، ويا أنا الوحيد الفريد : ما الأزرق الشريد الشهيد ؟
أما والقصيدة نأت بي إليّ ما عرفت للقصيدة لا قصيدتها حتى اساقط هذا الكلام عجبا عجابا وأربا مذابا، وأنا ما كنت طالبا ولا راغبا في رطب، ما بين حجب و طرب، أعذاقها، ولا كنت ناهبا ولا ذاهبا إلى أسواقها وأوساقها.
بيان ولا بيان، وترجمان ما له ترجمان
كأني بالعربيّ غريب الوجه واليد واللسان
كأني بالمغربيّ وجيب الكنه والقصد والجنان
وكأني بي أتلفت، والحروف انحرافات، وأبهت، والقطوف اختلافات، وألهث، والطيوف انصرافات. أنا الطيوف اللغوية من جبتي كانت تنفر، وكنت أعقلها كيما لا تنشذر. وأنا القطوف البلاغية لي كانت تسبر المعاني وتعبر، المرايا، وتنظر. وأنا الحروف النابغية تسبكر إلى جبهتي، يا السائل عن كرمتها السابغية، وتنقر زجاجة الروح وتخطر.
تخطر وتقطر بالقصيدة. كان الشعر منهاجا ومعراجا إليّ قبل النزهة. كنت برهة نظام لا انتظامَ لها. لا زمان لاندفاق القريض. هو كالوميض. هو ما ليس للغريض. لا زمان للرائيّ المرئيّ في بلهنية بسط خفيض. كان الشعر أبراجا وأمواجا، وأنا أرتبُ البحرَ لكي لا تتسلل التفاعيل من محارته، ولكي لا تبتل التآويل بانقداحته، من النقيض إلى النقيض.
النقيض الأبيضُ قصيدة السالكين.
السالكون السائلون التاركون على حواشي الطريق أنقاضا من النمنمات الخضر لكي تستوي لملمات وأقباضا في غواشي الطريق. تركوها وقد كانوا ملكوها، وكنت أدركت ظني أن السلوك إلى القصيدة بيني وبيني حتى رأيت اليوسيّ رائية حمراء من أثـر السلوك، وحتى رآني السوسيّ أتوجس وأتلبس تائية، وما مني تائية خنساء، ولا كان مني مهوى السلوك.
السالكون القائلون المالكون بسط الحكاية إلى اللاحكاية خارطة الكتابة إلى اللاكتابة. أنا وهم الغرابة الذاهب إلى الكتابة، وأنا الناهب الطرس والنقس والشمس من رتابة الوهم لأشدو، بالربابة المنسية في لحون المساء الأخير، ما تكنفته البسط الراسية في عيون المساء الأخير. وأنـا الذي تنادفته النقط العارية الكاسية لتكون القصيدة جدولا من الحرير الأخير.
قصائـد لي .
جداول الكلام تهز جناحيها لينهمرالحمام ديوانـا.
لي من القصائد ما أغرى الغمامَ بي.
دخلت بحرا وما هو بحر، وكنت وحدي.
كان الغمام غلاما والفضاء يروح ويغدو، بالغافيات حساما، إلى حيث تبوح الخزامى بالأخير من الكلام كلاما. سلامـًا يا مفرق البرق، وقد أطرقت القافيات كأنها أيامى، وكأني ما دخلت بحرا وهو بحر لأرى شط العرب يتامى، وكأني أطرقت وجلا، من التاريخ، لغة وهاما. وأنـا الذي نخلت فانخذلت وما صرخت احتداما. أنـا الطلل الرائي، وراء الغيم، قتاما. كنت وحدي، إذا انهمر المرام إيوانا. من تقرى ؟ ولمن ألهوبُ التصادي كان غلاما ؟
قلت شعرا والشطوط خيوط .
هل أقول الآن شعرا والشطوط خطوط ؟
كانت القصيدة بيتا لنا ومسكنا. كنا حينما نأوي إلى دارتها يغوينا السفار إلى دارتها. وكنا إذا ثوينا يطوينا البدار إلى محارتها صوتـًا ومَلحنا. كنا نلهو بالتفاعيل خذروفـًا ونسهو. كنا نصغي، شفوفا، إلى التراتيل ونلغي. لنا البهوُ والمحوُ. لنا المصطبيـات العشـر معلقات وما ثمة ستر. لنا عصاة ترسو ولا
بحر، تكسو ولا حبر، وتأسو إذا لغا الصدر. الرواة اعصوصبوا واحدودبوا وما قالوا عن المصاطب التي أخذوا، والرواة اعسوسبوا واخضوضبوا بالنسيان والنكران، فما تعوذوا، بالعرفان، ولا نفذوا.
المصطـبيات، أيها السائل النائل، أضاميم من الشميم النظيم وترانيم الرقيم المقيم. كان السامر يقطفها ورقات من يرقات، والليلُ والموقد النشوان والكلام شذرات مستبقات إلى السمر الوسنان، وإلى قمر، بالخطرات المطرقات، سهران .. وما هو سكران.
المصطـبيات، أيها القائل المتشائل، ألـواح مجروحة كالراح، وأدواح مسفوحة الأقداح، وأشباح مقدوحة الجناح، وأرواح مفتوحة على الأرواح.
المصطـبيات، يا من روى وما رواها نشـر فهل كان غيرك ارتوى عشرا إذ رواها ؟
أنا تقصصتها، أيها السائل المائل، وقد كانت نثرا نثيرا، وتقمصتها وأنا الذي كنت نبرا أثيرا من الخطى، وأنا اقـتنصتها إذا أرهصت نهرا وثيرا وخط الرقراق فوديه مهرا سفيرا. أنا تخلصتها من واحة المهوى. كانت مراوح مأسورة التصادي لغوا. مرّ الرواة غفوا. للتنادي ما للتهادي من سوابح عفـوا. مرت الخيل سوانح سهوا. لماذا تركت الحصان وحيدا ؟
تمرُّ قوافل اللغة الأخيرة بوارح رهوا. أمرلأقبض ما المصطبيات تنفض ومضا وغمضا. أمر إلى الليل أسأله نبضا وفيضا. يمر الليل إلى الرقـراق عرضا وقبضا. تمر المصطبية بعضا فبعضا.
تلك بلاغـة وهذه قصيـدة.
يغالبني الشعر تقدمة للمصطبيات. أكلما ملت هينمة إلى وصفها استهللت بعرفها ؟ أكاد إذا سألت مُحكمة البيان أرف بطرفها. أكاد أرتجل عناقيد خوفها. أكاد أنهل مبهمة من صرفها.
طفت والتحفت الأمكنة. عطفت على بحر وما هو بحر. عرفت المسالك والممالك. هل عرفت المشابك والمهالك ؟ عزفت للأزمنة ما ترجمانها أسبله على الأزمنة ترجمانا. قطفت مـاء الورد من مشكاة المرايا. عطفت على هباء النرد. مشكاة المرايا نادفة للوقت حكايـا.
المصطبيات هدهد الحكايات.
تلك عصاي وهذه كلمات. و .. كـل الكـلمات لي.
اختلفت إلى بلاد العرب. تسللت من الأقطار قطرا مسافرا في عيون تاريخ البلاد. كان السواد مهادا للرحلة الأبجدية من طلل دارس إلى طلل فارس.
أغربة تتجول جغرافية صقيعا من الشذرات الشاردة في المنافي قطيعا.
أتربة تشرب بؤبؤ المنظار نقعا ونجيعا.
ماذا رأيت يا هدهدا كان يتأول الأشعار روضا مريعا ؟ ماذا قرأت لي من القافيات ومضا بديعا ؟ ولماذا أنت لا تروي لترتوي القليل .. القليل من المصطبيات. هن عشـر، وهن ما بين بشر ونشر، وهن ما بينك وبين السر والسكر، وهن المابين في الرحلة الأبجدية من السبر إلى الستر.
هذه مصطـبيات البلاغـة وتلك بلاغـة .
هـذا اللـفُّ والنَّشـرُ في المصطبيـات العـشر.
هذا ديوان قصائد قالها شعراء العرب منذ الكتابة الأولى، وما ضمها سفر ولا ذكر. كان عسس القريض معرضين عن تناول القصيدة المصطبية وعن تداولها، وكانوا إذا سئلوا سألوا أعلقت على الأستار أم حلقت كالأوتار أم خرقت كنه المدارأم أطرقت مثل الجدار؟ لكن ما كانوا عرفوا جدارا إلا أن يكون حذارا من السعة الهدهدية إذا شحط المزار وأقوت ديار ؟
ولقد تخيرت منها عيونا لشعراء الصقع الغربي من بلاد الإسلام، وكانت النية معقودة على استدراك ينتظم شعراء عدوة الأندلس، بيد أنني أحجمت بعدما عزمت، وبعدما علمت أنّ المخطوط الأندلسي ما عاد مخطوطا وأن الملقوط منه صار منقوطا، وبعدما نادمت رؤيا كنت فيها أذرع الزمان وأقرع المكان، وكنت أدخل بحرا وماهو بحر، وأشرع الدخان باب قصيدة ما كان يبابا، وما كان سرابا بقيعة ولا خرابا. كنت أسمع.
شابكت النوابغ السوابغ من الصيد الجحاجحة الأقيال الأسياد.
اشتبك الكاتب بالمكتوب
واشترك الصاحب والمصحوب
في الناسب والمنسوب.
أدرك القادم صدى الكلمات تقتحم الصدى فأصاخ للمدى يلتقم المدى.
ترك الميمم رمادا كان هنا وأصغى للجذى يكاد ينادمه من هناك.
شابكت العمائم غمائمها مواسمَ من لغة الذات والمرايا.
كانـوا شاعـرًا .
واقفا كنت بالباب أحدق في القبة الخضراء. حمام أبيض يبسط جبهة التاريخ، ويلتقط الكلمات من الكلمات، وينفرط في لازورد الحكايات.
حمامٌ أزرقُ والممرُّ إلى الممرِّ قوسٌ من الأكوان .. ولا أكوان.
كنتُ وحدي.
خارطة الوقتِ تبعثرُ أوراقها
لأقرأ رقراقها مصطبياتٍ عشرًا.
كانَ وحْدي شاعرًا .. و كانَ باردًا ذلك المساءُ ..
¥ عن كتابي: لك الأوراقُ .. وكلّ الكلمات لي " 2007 ". ص 385 - 394
أما بعـد، فلقد أهاب بي من لا أملك رد أمره ومن لا أدرك برد بحره، وكان قد شمل، بسابغ نظره وبالغ خطره، كتاب النزهـة لما وضعته دليلا وأودعته جميلا من القول عليلا حينما اخترقت الآفـاق واسترقت المشتـاق من ذات اللبات والأطواق إلى ذات الجهات والأطباق، وأنا أطرق، من المسافات، الجنبات والأذواق، وأنا أشرق، ألفات، من الجذبات والإبراق، وأطبق، على المساقات، بالكاتبات الرقراق سيَرا مائيات الأعلاق خارطة لجغرافية الأوراق، أن أوفي الكلام بيانـًا، وأن أقفي، على التسيار من النزهة، بالبرهة من التذكار زمانا وأزمانا، وأن أصفي وأشتار، من قفيرالأخبار والأفكار جؤنـة تكون على تعاقب الأعصار، للطيب عنوانا، وتكون، من تناسب الأوتار، للمرقص للمطرب وجدانا، وللشاخص المُغرب إنسانا.
ولما كان التحديق أحدق بي في النزهة وأنا بين الأقاليم والتراسيم أشرق بالخرائط والوسائط، ولما كان التدقيق والتحقيـق والتوثيق والترقيق والتعريق والتـفريق معالم للمفاهيم في التصنيف والتوصيف والترصيف والتـأليف، فقد انصرفت إغماضا وعطفت إحماضا إلى ماء الشموس وحاء الحدوس وطاء الطروس أقـبس الحروف إيماضا، وألبس الطيوف إعراضا عن فهاهة الكتابة إلى حيث نباهة الربابة ومتاهة الغرابة، وإلى حيث القصيدة تلتبس كلا وأبعاضا.
قلت أما والقصيدة نأت بي أنا حتى صرت لا أنـا لأصرفن وجهتي إلى أرباضها، ثم لأقطفن جبهتي من أفـياضها، ولأكـشفن جهتي في أطـوالها وأعراضها، ولأندفن شبهتي ما بين بسطها وأقباضها، حتى أكون أنـا القافـية من عروضها وأغراضها.
أما والقصيدة نأيتُ بها إليّ لأطرفن شميم انتظام ونديم احتدام، ولأهتفن بالقصيدة.
القصيدة، يا أيها السائل القائل، سؤال التاريخ عن الذات، باذخة الجمال، يكتبها سؤال عن التاريخ في جغرافية المقال، وفي خارطة المنقال. يسلب الشاعر الزمان انسبال الشماريخ، من مواله، على أريج الكمان، ويسحب المكان إلى ما ليس هناك من المجال.
القصيدة انهمار اللحظات لكي لا تكون لحظات، وانشذار العتمات لتكون عتبات للكلام. هل كان كلاما ذلك الرسم الذي قال كلاما؟ وهل وقف الأصيحاب فاتحة أم ختاما ؟ وهل كان الحمام مروحة للرماد أم كان للجذى احتداما ؟ ومن غصّ حين قصّ، على الواقفين، مناما ؟ ومن تقصى وتقصص، بين العارفين، أواما ومداما ؟ من خصّ الذارفين حكيـًا، باللغة، انبهاما ؟
القصيـدة أنهار من الرحيل في الرحيل. تأتي كما حكايـات المستحيل. تأتي كنايـات عن العذل البليل وعن الجذل الجليل وعن المذل الخليل، وعن كنايات المدل العليل من الحكايات. تأتي الحكايات. جلنار الصدى شفق الهديل. تشتارالحديقة أرق الأصيل لترقى المساء. بياض يغارمن شهرزاد إذا تحكي عن وشاحات المساء. رياض تختارانزياحات الرماد لتـذكي لغة المساء. الصور منثورة أو منذورة للهباء من البهاء. للمعاني اللاقصيدة. تلك أنهار طلل محيل.
القصيدة طلل للمشردين رمالا، وبدل للمعمدين انعقالا. يا صاحبيّ من هام سؤالا ؟ من قام، بهامته، يتقرى وصالا؟ ومن نام، بلأمته، يتحرى نصالا ؟ خلل، يا صاحبيّ، في الرقيم الأول الذي كان اشتعالا. هل المعلقات كانت سجالا أم كانت انسدالا ؟ وهل المطوقات كانت للورد اختيالا أم كانت خيالا ؟ وهل المرقرقات، من دمنا، رقت اعتلالا أم راقت انسبالا ؟ قفا يا صاحبيّ على طلل واقف على أطلالنا، وعلى قسطل نازف من أقوالنا. ألا كونا احتمالا.
القصيدة احتمال الأزرق المديد. مديد كلام الليل يا شهرزاد وعنيد. لا لون للسواد إلا البديد البديد. لا لون للسواد من الكلمات إلا العميد البعيد. لا لون إلا العديد المديد. يا القصيدة، يا الجون الوليد الفقيد، ويا البون الرشيد الشريد، ويا أنا الوحيد الفريد : ما الأزرق الشريد الشهيد ؟
أما والقصيدة نأت بي إليّ ما عرفت للقصيدة لا قصيدتها حتى اساقط هذا الكلام عجبا عجابا وأربا مذابا، وأنا ما كنت طالبا ولا راغبا في رطب، ما بين حجب و طرب، أعذاقها، ولا كنت ناهبا ولا ذاهبا إلى أسواقها وأوساقها.
بيان ولا بيان، وترجمان ما له ترجمان
كأني بالعربيّ غريب الوجه واليد واللسان
كأني بالمغربيّ وجيب الكنه والقصد والجنان
وكأني بي أتلفت، والحروف انحرافات، وأبهت، والقطوف اختلافات، وألهث، والطيوف انصرافات. أنا الطيوف اللغوية من جبتي كانت تنفر، وكنت أعقلها كيما لا تنشذر. وأنا القطوف البلاغية لي كانت تسبر المعاني وتعبر، المرايا، وتنظر. وأنا الحروف النابغية تسبكر إلى جبهتي، يا السائل عن كرمتها السابغية، وتنقر زجاجة الروح وتخطر.
تخطر وتقطر بالقصيدة. كان الشعر منهاجا ومعراجا إليّ قبل النزهة. كنت برهة نظام لا انتظامَ لها. لا زمان لاندفاق القريض. هو كالوميض. هو ما ليس للغريض. لا زمان للرائيّ المرئيّ في بلهنية بسط خفيض. كان الشعر أبراجا وأمواجا، وأنا أرتبُ البحرَ لكي لا تتسلل التفاعيل من محارته، ولكي لا تبتل التآويل بانقداحته، من النقيض إلى النقيض.
النقيض الأبيضُ قصيدة السالكين.
السالكون السائلون التاركون على حواشي الطريق أنقاضا من النمنمات الخضر لكي تستوي لملمات وأقباضا في غواشي الطريق. تركوها وقد كانوا ملكوها، وكنت أدركت ظني أن السلوك إلى القصيدة بيني وبيني حتى رأيت اليوسيّ رائية حمراء من أثـر السلوك، وحتى رآني السوسيّ أتوجس وأتلبس تائية، وما مني تائية خنساء، ولا كان مني مهوى السلوك.
السالكون القائلون المالكون بسط الحكاية إلى اللاحكاية خارطة الكتابة إلى اللاكتابة. أنا وهم الغرابة الذاهب إلى الكتابة، وأنا الناهب الطرس والنقس والشمس من رتابة الوهم لأشدو، بالربابة المنسية في لحون المساء الأخير، ما تكنفته البسط الراسية في عيون المساء الأخير. وأنـا الذي تنادفته النقط العارية الكاسية لتكون القصيدة جدولا من الحرير الأخير.
قصائـد لي .
جداول الكلام تهز جناحيها لينهمرالحمام ديوانـا.
لي من القصائد ما أغرى الغمامَ بي.
دخلت بحرا وما هو بحر، وكنت وحدي.
كان الغمام غلاما والفضاء يروح ويغدو، بالغافيات حساما، إلى حيث تبوح الخزامى بالأخير من الكلام كلاما. سلامـًا يا مفرق البرق، وقد أطرقت القافيات كأنها أيامى، وكأني ما دخلت بحرا وهو بحر لأرى شط العرب يتامى، وكأني أطرقت وجلا، من التاريخ، لغة وهاما. وأنـا الذي نخلت فانخذلت وما صرخت احتداما. أنـا الطلل الرائي، وراء الغيم، قتاما. كنت وحدي، إذا انهمر المرام إيوانا. من تقرى ؟ ولمن ألهوبُ التصادي كان غلاما ؟
قلت شعرا والشطوط خيوط .
هل أقول الآن شعرا والشطوط خطوط ؟
كانت القصيدة بيتا لنا ومسكنا. كنا حينما نأوي إلى دارتها يغوينا السفار إلى دارتها. وكنا إذا ثوينا يطوينا البدار إلى محارتها صوتـًا ومَلحنا. كنا نلهو بالتفاعيل خذروفـًا ونسهو. كنا نصغي، شفوفا، إلى التراتيل ونلغي. لنا البهوُ والمحوُ. لنا المصطبيـات العشـر معلقات وما ثمة ستر. لنا عصاة ترسو ولا
بحر، تكسو ولا حبر، وتأسو إذا لغا الصدر. الرواة اعصوصبوا واحدودبوا وما قالوا عن المصاطب التي أخذوا، والرواة اعسوسبوا واخضوضبوا بالنسيان والنكران، فما تعوذوا، بالعرفان، ولا نفذوا.
المصطـبيات، أيها السائل النائل، أضاميم من الشميم النظيم وترانيم الرقيم المقيم. كان السامر يقطفها ورقات من يرقات، والليلُ والموقد النشوان والكلام شذرات مستبقات إلى السمر الوسنان، وإلى قمر، بالخطرات المطرقات، سهران .. وما هو سكران.
المصطـبيات، أيها القائل المتشائل، ألـواح مجروحة كالراح، وأدواح مسفوحة الأقداح، وأشباح مقدوحة الجناح، وأرواح مفتوحة على الأرواح.
المصطـبيات، يا من روى وما رواها نشـر فهل كان غيرك ارتوى عشرا إذ رواها ؟
أنا تقصصتها، أيها السائل المائل، وقد كانت نثرا نثيرا، وتقمصتها وأنا الذي كنت نبرا أثيرا من الخطى، وأنا اقـتنصتها إذا أرهصت نهرا وثيرا وخط الرقراق فوديه مهرا سفيرا. أنا تخلصتها من واحة المهوى. كانت مراوح مأسورة التصادي لغوا. مرّ الرواة غفوا. للتنادي ما للتهادي من سوابح عفـوا. مرت الخيل سوانح سهوا. لماذا تركت الحصان وحيدا ؟
تمرُّ قوافل اللغة الأخيرة بوارح رهوا. أمرلأقبض ما المصطبيات تنفض ومضا وغمضا. أمر إلى الليل أسأله نبضا وفيضا. يمر الليل إلى الرقـراق عرضا وقبضا. تمر المصطبية بعضا فبعضا.
تلك بلاغـة وهذه قصيـدة.
يغالبني الشعر تقدمة للمصطبيات. أكلما ملت هينمة إلى وصفها استهللت بعرفها ؟ أكاد إذا سألت مُحكمة البيان أرف بطرفها. أكاد أرتجل عناقيد خوفها. أكاد أنهل مبهمة من صرفها.
طفت والتحفت الأمكنة. عطفت على بحر وما هو بحر. عرفت المسالك والممالك. هل عرفت المشابك والمهالك ؟ عزفت للأزمنة ما ترجمانها أسبله على الأزمنة ترجمانا. قطفت مـاء الورد من مشكاة المرايا. عطفت على هباء النرد. مشكاة المرايا نادفة للوقت حكايـا.
المصطبيات هدهد الحكايات.
تلك عصاي وهذه كلمات. و .. كـل الكـلمات لي.
اختلفت إلى بلاد العرب. تسللت من الأقطار قطرا مسافرا في عيون تاريخ البلاد. كان السواد مهادا للرحلة الأبجدية من طلل دارس إلى طلل فارس.
أغربة تتجول جغرافية صقيعا من الشذرات الشاردة في المنافي قطيعا.
أتربة تشرب بؤبؤ المنظار نقعا ونجيعا.
ماذا رأيت يا هدهدا كان يتأول الأشعار روضا مريعا ؟ ماذا قرأت لي من القافيات ومضا بديعا ؟ ولماذا أنت لا تروي لترتوي القليل .. القليل من المصطبيات. هن عشـر، وهن ما بين بشر ونشر، وهن ما بينك وبين السر والسكر، وهن المابين في الرحلة الأبجدية من السبر إلى الستر.
هذه مصطـبيات البلاغـة وتلك بلاغـة .
هـذا اللـفُّ والنَّشـرُ في المصطبيـات العـشر.
هذا ديوان قصائد قالها شعراء العرب منذ الكتابة الأولى، وما ضمها سفر ولا ذكر. كان عسس القريض معرضين عن تناول القصيدة المصطبية وعن تداولها، وكانوا إذا سئلوا سألوا أعلقت على الأستار أم حلقت كالأوتار أم خرقت كنه المدارأم أطرقت مثل الجدار؟ لكن ما كانوا عرفوا جدارا إلا أن يكون حذارا من السعة الهدهدية إذا شحط المزار وأقوت ديار ؟
ولقد تخيرت منها عيونا لشعراء الصقع الغربي من بلاد الإسلام، وكانت النية معقودة على استدراك ينتظم شعراء عدوة الأندلس، بيد أنني أحجمت بعدما عزمت، وبعدما علمت أنّ المخطوط الأندلسي ما عاد مخطوطا وأن الملقوط منه صار منقوطا، وبعدما نادمت رؤيا كنت فيها أذرع الزمان وأقرع المكان، وكنت أدخل بحرا وماهو بحر، وأشرع الدخان باب قصيدة ما كان يبابا، وما كان سرابا بقيعة ولا خرابا. كنت أسمع.
شابكت النوابغ السوابغ من الصيد الجحاجحة الأقيال الأسياد.
اشتبك الكاتب بالمكتوب
واشترك الصاحب والمصحوب
في الناسب والمنسوب.
أدرك القادم صدى الكلمات تقتحم الصدى فأصاخ للمدى يلتقم المدى.
ترك الميمم رمادا كان هنا وأصغى للجذى يكاد ينادمه من هناك.
شابكت العمائم غمائمها مواسمَ من لغة الذات والمرايا.
كانـوا شاعـرًا .
واقفا كنت بالباب أحدق في القبة الخضراء. حمام أبيض يبسط جبهة التاريخ، ويلتقط الكلمات من الكلمات، وينفرط في لازورد الحكايات.
حمامٌ أزرقُ والممرُّ إلى الممرِّ قوسٌ من الأكوان .. ولا أكوان.
كنتُ وحدي.
خارطة الوقتِ تبعثرُ أوراقها
لأقرأ رقراقها مصطبياتٍ عشرًا.
كانَ وحْدي شاعرًا .. و كانَ باردًا ذلك المساءُ ..
¥ عن كتابي: لك الأوراقُ .. وكلّ الكلمات لي " 2007 ". ص 385 - 394