خيري حسن - أسفل شرفة غسان كنفاني: كلب ينبح دون توقف

(بيروت – 1972)
كانت الساعة اقتربت من الثانية عشرة من منتصف ليل الجمعة 7 يوليو من ذلك العام. الظلام يقتحم سكون العاصمة في حذر. خاصة في منطقة تسمى الجازمية.
الإضاءة خافتة، وحركة السير توقفت تمامًا، إلا من صوت سيارة إسعاف تمر مسرعة في طريقها لإنقاذ مريض في مكان ما.
على صوتها يخرج رجل اسمه (مضر الدادا) إلى شرفة منزله، وفي إحدى يديه سيجارة وفي الأخرى فنجان قهوة. وبجواره طفلة صغيرة تلهو.
يجلس على المقعد القريب، وينفث في الفضاء دخان سيجارته. أسفل العمارة كلب ينبح ويعوي بصورة مستمرة.
الرجل ينظر للكلب من مكانه، ثم يطفئ السيجارة ويضع فنجان قهوته أمامه، ويوجه بصره للناحية التي يركز عليها الكلب نباحه.
الظلام من بعيد يخبئ وراءه من يريد الاختباء، والرجل من مكانه يحاول هزيمة الظلام، وأخيرًا ينجح بصعوبة في أن يرى شبحين يتحركان بالقرب من العمارة المجاورة التي يسكن فيها صديقه الكاتب والمبدع والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني (1936ـ 1972) الرجل يركز بصره قدر الإمكان حتى يعرف من هما؟ ولماذا يتحركان وراء الظلام؟ وعندما فشل أطفأ نور شرفته، ودخل إلى حجرته، ومدد جسده، محاولًا استدعاء النوم. الكلب الذي ما زال ينبح أسفل العمارة. فى النهاية نام الرجل، ولم يتوقف (نباح) الكلب!
°°°
(الشارع - العاشرة صباحاً)
مع طلوع شمس يوم السبت الموافق 8 يوليو( اليوم ذكراه ) كانت شوارع بيروت هادئة، والحركة في الشوارع عادية، وعندما وصلت الساعة العاشرة و40 دقيقة، نزلت فتاة لا يتعدى عمرها 18 عامًا اسمها (لميس حسين نجم) من باب العمارة، والكلب ما زال في مكانه، يكاد يفك قيده ويقفز إليها، محذرًا ومنبهًا. ترجلت الفتاة عدة خطوات حتى وقفت بجوار سيارة ماركة أوستن 1100. وضعت يدها على مقدمتها، ووجهت نظرات عينيها إلى مدخل العمارة في انتظار خروج خالها (غسان كنفاني) قدوتها ومعلمها، بعدما زرع بداخلها منذ الصغر.. كلمة وطن!
°°°
(الشارع - بعد 5 دقائق)
الآن يدها على السيارة، وعيناها على خالها الذي لم يظهر بعد. لميس التي عادت بالذاكرة قليلًا، كانت تعيش مع أسرتها في الكويت قبل أن تصل إلى بيروت هذا الأسبوع لزيارة خالها. أمها -أخت غسان الكبرى - تعمل بالتدريس في الكويت. وهي المهنة نفسها التي عمل بها غسان في الكويت، قبل أن يستقر به الحال في لبنان، ومن قبلهما قضى فترة في سوريا. ومن قبل هذا عاش في مخيمات اللاجئين، وكانت حياته شديدة القسوة.
ولد في عكا والتحق بمدرسة الفرير في يافا، حيث كانت تعيش أسرته في حي يسمى المنشية. في ذلك الوقت بدأت أولى الحوادث بين العرب واليهود بعد قرار التقسيم.
ترك الأب وأولاده يافا وتوجهوا إلى عكا، ثم عاد إلى يافا، ثم عادت الاشتباكات، فغادرت الأسرة في سيارة شحن إلى لبنان، ثم بعد فترة انتقلوا إلى حلب في سوريا. تفوق في دراسته، وانضم في مطلع شبابه إلى حركة القوميين العرب، وفى عام 1955 انتقل للكويت، ومن بعدها استقر في لبنان، بعدما ترك التدريس واحترف الصحافة؛ ليحول الحرف إلى رصاصة، والكلمة إلى بندقية. والفكرة إلى قضية.
مرت الدقائق ولميس ما زالت تتذكر، وتنتظر خروجه من العمارة حتى تذهب معه إلى مقر عمله في صحيفة (الهدف) التي يرأس تحريرها كما وعدها ليلة أمس.
سيارة سوداء تمر بهدوء بجوارها، وتنظر بعين فاحصة للمكان، ويقف من فيها على ناصية قريبة، يراقب المشهد من بعيد. يظهر غسان على باب عمارته بوجه يحمل ابتسامة، وفى يده أوراق وعدة صحف وعلبة سجائره. ابتسمت لميس، ولوّحت له بيدها مُرحِبة، وتحركت لتركب بجواره. فتح الباب، وجلست بالفعل، ووضعت شنطة يدها في المقعد الخلفي، واستعدت لتمد يدها لتدير مؤشر الراديو.
°°°
(السيارة - بعد 10 دقائق)
اتخذ غسان وضعه في مقعده هو الآخر، ووضع ما معه من أشياء، ثم نظر لابنة أخته نظرة كلها تفاؤل وأمل، ثم وضع مفتاح السيارة (الكونتاكت) في مكانه ليدير المحرك، وفى لحظة انفجرت السيارة انفجارًا عنيفًا مدويًا، ليهتز الشارع بكل ما فيه، حتى إن التحقيقات أثبتت أن السيارة لو كانت في مكانها بجراج العمارة، فإن كمية الديناميت التي وضعت كفيلة بنسف المبنى تمامًا. وقد كشفت التحقيقات عن أنه تم زرع قنبلة من البلاستيك فوق ماسورة عادم السيارة، حتى إذا ما أدار محركها، فإنها تنفجر في اللحظة نفسها. استشهدت في الحادث لميس، التي لم تستطع حتى إدارة مؤشر راديو السيارة، وبدلًا من أن يأتيها صوت فيروز لتغني للقدس، جاءها صوت الانفجار القاتل، ليغتال معها الهدف الذي سعى إليه القتلة.
والهدف كان غسان بالطبع، لينفذوا الجريمة حتى يسكت صوته الحر المقاوم الذي كان يصرخ دائمًا: "كن رجلًا تصل إلى عكا، أما إذا كنت لاجئًا فقط، فلن تراها ولن يراها حتى أحفادك".
°°°
(الشارع - بعد 15 دقيقة)
لقد استشهد في الحادث المناضل الصادق والباحث والكاتب الصحفي (غسان كنفاني). وهو يؤمن بأن الشعب الفلسطيني لديه قضية يقاتل من أجلها. وأن هذا الشعب يفضل الموت واقفًا على أن يخسر قضيته. وربما هذا الذي جعله يقاوم مرض السكر الذي أصابه منذ الصغر، ولم يستسلم لتوابعه الصحية والجسدية، فكان يضع في جيبه حقنة الأنسولين، مثلما يضع في الجيب الآخر قلمه ليقاوم به المحتل.
بعد لحظات نقلت وكالات الأنباء الخبر.. واهتزت بيروت والعواصم العربية حزنًا عليه.
في مكان الحادث وجد المحققون قصاصة ورق عليها شعار إسرائيل.
وفى المكان أيضًا الكلب ما زال ينبح!
°°°
(أسفل العمارة - بعد 20 دقيقة)
فرق البحث تفتش الأماكن والمساكن، وفوق أحد أسطح العمارات عثروا على إحدى يدي غسان بعدما طارت من شدة الانفجار، أما باقي جسده الطاهر، فقد تحول إلى أشلاء متفرقة في حديقة مجاورة للمنزل.
في شرفة المواجهة للحادث خرج صديقه وجاره (مضر الدادا) -بعدما هزّ الانفجار سريره الذي كان ينام عليه منذ ليلة أمس- مسرعاَ، وخلفه طفلته التي كانت تلهو بجواره.
الآن تلملم ألعابها التي سقطت عليها أجزاء من حطام السيارة من شدة الانفجار.
صفارات سيارات الإسعاف تُسمع. وكاميرات الصحفيين تدور. ورجال الأمن والعشرات من الناس هرعوا لمكان الحادث..الطفلة وقتها، لم تكن تعرف لميس ولا خالها (غسان كنفاني)..لكنها - بدواعي النشأة والتكوين - ربما تكون قد شعرت - مثل كل طفل فلسطيني أو عربي- بأن غسان مات حتى يعيش الوطن. وقبل أن تعود إلى حجرتها لمحت من بعيد الكلب - أسفل العمارة - وقد غادر مكانه إلى وسط الشارع، ما زال ينبح دون توقف!

خيري حسن



----------------
°° الأحداث حقيقية والسيناريو من خيال الكاتب.

°° الصورة:
غسان كنفاني


غسان.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى