شهادات خاصة رضا أحمد - صورة للشاعر كما يجب أن يكون.. شهادة عن الشاعر الكبير محمود قرني

على الرغم من أنني تعرفت شخصيا إلى الشاعر الراحل محمود قرني متأخر بعض الشيء، إلا أنني أشكر الشعر المختلف الذي جعلني أتعرف إليه إبداعيا من قبل في قراءة بعض قصائده بشكل متفرق في الدوريات الأدبية، أثناء محاولاتي تتبع قصيدة النثر وأجيالها، والانفتاح على عالمها المدهش المختلف عن ما تعلمته وخبرته أثناء دراستي، حتى أنني طلبت صداقته على موقع الفيس بوك إعجابا به لأكون قريبة من شخصية هذا الشاعر المغاير على كل المستويات الإنساني منها والإبداعي، إلى أن طلبت منه بعض دواوينه لأطلع على مشروعه الإبداعي الكبير، بكل محبة وتواضع ارسل إلى وقتها ديوانين "حمامات الإنشاد، الشيطان في حقل التوت" في رسالة على الفيس بوك، فرحت بهذه الهدية الثمينة، وباتت القراءة له من أسباب سعادتي وإيماني بالشاعر الإنسان والمثقف صاحب الموقف القوى والشخصية النبيلة.
بالنسبة لي كقارئة، كانت قصيدته متفردة، من الصعب تقليد صوتها أو المرور بها دون أن تجد فيها شيئا من نفسك، ومن طينة هذه الأرض وروحها الطليقة وتراثها الغنى بكل ما هو نادر وثمين، وموقف الشعر من الحقيقة والعالم، ومحاولة تفكيك مفردات وأنماط ثابتة برؤى جمالية، قادرة على التفلسف وتجريد التاريخي منها من ثقل النمطية التي تطغى على القصائد التقليدية حيث تسيطر ذكورة الخطاب الشعرى على انسياب المعنى الإنساني ولحظات الضعف العابرة، قصيدة قرني يتعانق فيها الجمالي مع المعرفي كأنهما مترادفان لنبتة الشعر الأصيلة التي لا تذوى مهما قرأتها، هذا الإخلاص وتلك البساطة بجانبها الحسى والمعنوي طالما أخذتني إلى عوالم مدهشة من الإدراك والتخييل ورمزية المعنى بمفارقات بديعة، كان قرني صورة للشاعر كما يجب أن يكون إنسانا عطوفا مرهف الحس، قويا، ومثقفا موسوعيا، صاحب رأى وإرادة حرة نادرا ما تجدها في آخرين يتساقطون علينا بلا هوية ولا كتابة حقيقية تنسينا استعلائهم وخبث أروحهم، قرني كان مثالا للمثقف المهموم بوطنه وقضايا الأدب وإشكالات الواقع المأزوم بمحن وأوضاع غير عادلة، ومؤسس متفان لمبادرات ثقافية تثرى المشهد المصري وتصقله، أحبيت قدرة هذا الرجل على العطاء وتقديم المساعدة والدعم للموهبين في كل مكان.
كان قرني شخصية فريدة في الثقافة العربية محبا للشعر ذاته متعلقا به، يبحث عنه حتى في المواهب الشابة، ويحتفل بميلاد الشعراء ويحتفى بقصائدهم، يكفى أن أول رسالة بيننا، طلب مني بعض القصائد لملف يقوم بإعداده عن الشعراء الشباب لمجلة "شعر"، يومها شعرت بالرهبة وأيضا الامتنان لهذا الرجل المتواضع الذي يطلب قصائد من شاعرة في أول الطريق تنشر على الفيس بوك وليس لها إصدار ورقى واحد، فرحت بهذا الطلب رغم ارتباكي ودهشتي، وأدركت أن هذه شهادة غالية واعتراف ثمين من أحد شعرائي المفضلين، الكبير محمود قرني بنفسه يقرأ لي ويقدمني إلى المشهد الثقافي وينشر شعري في مجلة عريقة، ماذا يريد الشاعر في بداياته أكثر من هذا الدعم والتقدير؟ وتوالت الرسائل بيننا في مناسبات مختلفة، كلها تشجيع لي على مواصلة الكتابة وتهنئة على قصائد وإصدارات وجوائز، يتخللها سؤال عن أحواله الصحية التي تدهورت للأسف في الفترة الأخيرة، هذا الرجل كان قامة إنسانية وثقافية نادرة، لا أريد أن أقول أننا خسرناه أخشى هذه الكلمة، فالخسارة هنا تعنى ضياع إرثه الذاخر بإبداعات ومواقف وآراء غاية في النبل والشرف والتعفف والغيرة على الوطن والهوية المصرية ألمني مرضه ومعاناته فى آخر أيامه، وألمني أكثر شعوري بالخزي أننا تركناه للموت ينهش فيه ببطء؛ لقلة حيلتنا أمام مؤسسات لا تقدر مواطنين هذا البلد الذين دافعوا عن حريته وثقافته وإرادته وحقوق الفقراء والمطحونين، أتمنى أن تحتفى به وزارة الثقافة وينال اسمه جائزة الدولة التقديرية كاعتذار أخير له على الغفلة والإهمال في حقه أو على أضعف الإيمان تشرف على طباعة أعماله الكاملة في الهيئة العامة المصرية للكتاب لتكون متاحة بسعر رمزي لأجيال قادمة في قرى مصر ونجوعها، تحب أن ترى قوة مصر الثقافية فاعلة وبديعة بهذا العنفوان والجمال، هذا الرجل قدم الكثير للثقافة والمجتمع ويستحق أن نشكره، وأتمنى أن يكون سعيدا بمكانه الجديد في جنة الشعراء وفي قلوبنا المكلومة بغيابه المؤقت.

رضا أحمد


جريدة أخبار الأدب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى