ربما تكون أسعد ثلاثين ثانية حظيت بها منذ وقت طويل حين غادرت المقهى، تاركا أصابعي تحت الطاولة وسط كيس نايلون معتم، أسرعت أحث الخطى مبتعدا عن المكان، إلى أن شعرت بوقع أقدام خلفي، وصوت أجش يناديني، ما أن التفت حتى قذفني أحدهم بكومة أصابعي وهو يحدجني بارتياب:
- هييه.. هل تركت مخلفاتك سهوا !
نزعت كفي المدسوستين في جيبي والتقطتهما مع كومة أكبر من الخيبة والغيظ. أخرجت للرجل إبهامي من الكيس متغصبا ابتسامة بلهاء: أوكي.
عدت أواصل سيري وأنا ألعن الرجل، وألعن هذه الأصابع التي أحالت حياتي جحيما؛ بدءا من البنصر يوم أضاع خاتم الخطوبة لتفسخ حبيبتي علاقتنا بتهمة الإهمال، مرورا بالإبهام الذي طالما أعرته للكثيرين في أوراقهم الرسمية، وليس انتهاء بتهور ووقاحة الوسطى ومشاحناتها التي تختم كل موقف بالشجار مقحمة معها وجهي وبقية الأصابع، وينتهي الأمر برضوض وكدمات، أو بالقيود في معصمي.
وكل ذلك هين ولا (السبابة) ..آه من هذه السبابة
مصدر ازعاجي ورأس مشاكلي ليس لأنها لم تعد تتوقف مؤخرا عن الحركة حتى وأنا نائم، بل لأنها سبب ملاحقة ذلك المسؤول لها، الذي ظهر في اتصاله عبر الفيديو بنفس نظارته وبدلته السوداء، وسيجارته الرفيعة مع ابتسامة بدت كالشرخ في ملامحه الجامدة المتوحشة، وبدون مقدمات ابتدرني :
- عندي لك وظيفة.. سهلة ومجزية.
- أنا طوع أمرك سيدي اسعفني بها..
- تضغط على الزناد.
كدت أغلق الهاتف لكني آثرت التريث، ربما قليل من الاستعطاف قد يثير ذكرى العيش والملح الذي كان بيننا:
- أنا في وضع كارثي ..خسرت كل مالي .. وبصراحة أبحث عن عمل شريف .ثم أنني لم أعد أتقن الرماية فقد مضى زمن طويل على ذلك ..أقسم لك ب..
هز الرجل رأسه بسخرية وانفرجت شفتاه الغليظتان عن أسنان صفراء وقال بصوت ممطوط :
- هااااه...شرف.. ولم تعد تحسن الرماية ..
وفتح فاه ليبدو بشكل مغارة معتمة أطلق عبرها حلقات دائرية متتالية من دخان سيجارته أخفت وجهه ليحل بدلا عنها مقطعا قصيرا - أرسله الخبيث - لصور عشرات الضحايا الغارقة في الدماء والصراخ، ظلت تترى رغم أني أشحت بوجهي وأغمضت عيني، فصرخت متوسلا أن يتركني في حالي، وبدلا من أن يتعاطف معي أخذ يقهقه...رميت الهاتف أرضا، وقذفت بالسبابة الغبية بكل قوتي من النافذة ليعيدها بعد قليل جاري صاحب الجثة الضخمة الذي دأب التجسس علي، يراقبني ويلاحقني أينما ذهبت، طرق الباب بقوة وألقى علي سبابتي وقد لفها وسط قصاصة جريدة داخل كيس أسود راحت تدب داخله كأنها عقرب:
- هذه ..القذارة تخصك وحدك.
ثم مسح أصابعه باشمئزاز في قميصه مردفا وهو يتطلع في وجهي بعينين حمراوين غاضبتين :
- هل تخطط لشيء ما ؟ جريمة ما
التزمت الصمت خشية أن تندفع الوسطى كعادتها فتقحمني معه في مشكلة، لا حول لي في تحمل لكمات قبضته الجلفة، وما إن انصرف حتى خرحت من البيت وأنا أشد توترا وغضبا منه، ولأول كلب جائع رميت أصابعي لكنه ولى هاربا؛ ظن المسكين أنها تريد ربط انشوطة حول رقبته لتجرجره وتسحله في الشوارع .
شعرت بإحباط مرير، وإحساس مخز بالعجز لفشلي في التخلص منها، وانتابني خوف أخذ يتفاقم بمرور الوقت من أن تسبقني هي فتتخلص مني. بت أراقبها بحذر وقلق وهي تتحرك كأنها رؤوس ثعابين متصلة بجسد واحد،
وفي غمرة قلقي وحيرتي سمعت صوتا قادما من السماء، هرعت إلى النافذة لأرى غرابا ينعق محلقا فوق الأبنية، شعرت بالفرح والسعادة وفتحت النافذة ألوح له:
- شكرا شكرا لك أيها الملاك الأسود
وفي منتصف تلك الليلة تسللت بحذر إلى حديقتي الخلفية، رحت أشق طريقي ببطء بين الحشائش والأشواك الجافة التي حلت محل الأزهار، وفي فسحة حفرت بقوة وسرعة، مع شعور بالحماسة والمتعة أيضا، ثم جمعت أصابعي في شكل حزمة لففتها بخيط سميك عقدته بلساني وشددته جيدا بأسناني، ودفنتها. عدت متسللا لأستلقي على سريري بارتياح لا أكاد أصدق أني وأدتها، وتخلصت منها إلى الأبد، وأنني أول إنسان على وجه الأرض يقاسم قابيل امتنانه للغراب حين دلنا على دفن السوءة.
لا أدر كم مر علي من وقت حتى سمعت جلبة خلف باب غرفتي وصوت نواح ذلك الجار:
- اين أنت يا جاري المسكين..كم كان كتوما، وديعا، وعطوفا حتى على الكلاب و ..
وبضربة قوية خلع أحدهم مفصل الباب لأرى جمهرة من الشرطة تدخل غرفتي، في مقدمتهم الجار الذي شهق لرؤيتي، وانحنى على شيء ما رفعه من الأرض وقال متحسرا
- انظروا إلى عزة نفسه لم يتناول حتى السندويش الذي أعطيته له ف..
نهره الضابط:
- لا تلمس شيئا .. أخرج وانتظر حتى نأخذ أقوالك.
خرج الجار وهو يدمدم بأسى، ويضرب بأسف كفا بكف بينما تحلق الجنود حول سريري يلفهم الوجوم يتابعون حركات الضابط الذي أخذ يفتش في الدولاب، وتحت السرير. ويلتقط لي صورا بكامرته من جميع الزوايا، وقد بدت عليه الحيرة الشديدة، ثم قطع الصمت مشيرا إلى أحدهم فتقدم المعني بيده قلما ودفترا كتب عليه محضر معاينة اخذ يملي عليه ببطء كأنه يجد صعوبة في اختيار الكلمات المناسبة :
- تم العثور على عشرة أصابع في شكل حزمة تتوسط السرير..
وبتر كلامه ريثما التقط الحزمة، وأخذ يتفحصها بدهشة، وهو يمرر سن قلم رصاص بحركة دائرية على تضاريس الأنامل مردفا :
- البصمات واضحة، والأصابع في حالة جيدة، أما البدن وبقية الأطراف فلا زال البحث عنها جار .
عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن/ ذمار.
- هييه.. هل تركت مخلفاتك سهوا !
نزعت كفي المدسوستين في جيبي والتقطتهما مع كومة أكبر من الخيبة والغيظ. أخرجت للرجل إبهامي من الكيس متغصبا ابتسامة بلهاء: أوكي.
عدت أواصل سيري وأنا ألعن الرجل، وألعن هذه الأصابع التي أحالت حياتي جحيما؛ بدءا من البنصر يوم أضاع خاتم الخطوبة لتفسخ حبيبتي علاقتنا بتهمة الإهمال، مرورا بالإبهام الذي طالما أعرته للكثيرين في أوراقهم الرسمية، وليس انتهاء بتهور ووقاحة الوسطى ومشاحناتها التي تختم كل موقف بالشجار مقحمة معها وجهي وبقية الأصابع، وينتهي الأمر برضوض وكدمات، أو بالقيود في معصمي.
وكل ذلك هين ولا (السبابة) ..آه من هذه السبابة
مصدر ازعاجي ورأس مشاكلي ليس لأنها لم تعد تتوقف مؤخرا عن الحركة حتى وأنا نائم، بل لأنها سبب ملاحقة ذلك المسؤول لها، الذي ظهر في اتصاله عبر الفيديو بنفس نظارته وبدلته السوداء، وسيجارته الرفيعة مع ابتسامة بدت كالشرخ في ملامحه الجامدة المتوحشة، وبدون مقدمات ابتدرني :
- عندي لك وظيفة.. سهلة ومجزية.
- أنا طوع أمرك سيدي اسعفني بها..
- تضغط على الزناد.
كدت أغلق الهاتف لكني آثرت التريث، ربما قليل من الاستعطاف قد يثير ذكرى العيش والملح الذي كان بيننا:
- أنا في وضع كارثي ..خسرت كل مالي .. وبصراحة أبحث عن عمل شريف .ثم أنني لم أعد أتقن الرماية فقد مضى زمن طويل على ذلك ..أقسم لك ب..
هز الرجل رأسه بسخرية وانفرجت شفتاه الغليظتان عن أسنان صفراء وقال بصوت ممطوط :
- هااااه...شرف.. ولم تعد تحسن الرماية ..
وفتح فاه ليبدو بشكل مغارة معتمة أطلق عبرها حلقات دائرية متتالية من دخان سيجارته أخفت وجهه ليحل بدلا عنها مقطعا قصيرا - أرسله الخبيث - لصور عشرات الضحايا الغارقة في الدماء والصراخ، ظلت تترى رغم أني أشحت بوجهي وأغمضت عيني، فصرخت متوسلا أن يتركني في حالي، وبدلا من أن يتعاطف معي أخذ يقهقه...رميت الهاتف أرضا، وقذفت بالسبابة الغبية بكل قوتي من النافذة ليعيدها بعد قليل جاري صاحب الجثة الضخمة الذي دأب التجسس علي، يراقبني ويلاحقني أينما ذهبت، طرق الباب بقوة وألقى علي سبابتي وقد لفها وسط قصاصة جريدة داخل كيس أسود راحت تدب داخله كأنها عقرب:
- هذه ..القذارة تخصك وحدك.
ثم مسح أصابعه باشمئزاز في قميصه مردفا وهو يتطلع في وجهي بعينين حمراوين غاضبتين :
- هل تخطط لشيء ما ؟ جريمة ما
التزمت الصمت خشية أن تندفع الوسطى كعادتها فتقحمني معه في مشكلة، لا حول لي في تحمل لكمات قبضته الجلفة، وما إن انصرف حتى خرحت من البيت وأنا أشد توترا وغضبا منه، ولأول كلب جائع رميت أصابعي لكنه ولى هاربا؛ ظن المسكين أنها تريد ربط انشوطة حول رقبته لتجرجره وتسحله في الشوارع .
شعرت بإحباط مرير، وإحساس مخز بالعجز لفشلي في التخلص منها، وانتابني خوف أخذ يتفاقم بمرور الوقت من أن تسبقني هي فتتخلص مني. بت أراقبها بحذر وقلق وهي تتحرك كأنها رؤوس ثعابين متصلة بجسد واحد،
وفي غمرة قلقي وحيرتي سمعت صوتا قادما من السماء، هرعت إلى النافذة لأرى غرابا ينعق محلقا فوق الأبنية، شعرت بالفرح والسعادة وفتحت النافذة ألوح له:
- شكرا شكرا لك أيها الملاك الأسود
وفي منتصف تلك الليلة تسللت بحذر إلى حديقتي الخلفية، رحت أشق طريقي ببطء بين الحشائش والأشواك الجافة التي حلت محل الأزهار، وفي فسحة حفرت بقوة وسرعة، مع شعور بالحماسة والمتعة أيضا، ثم جمعت أصابعي في شكل حزمة لففتها بخيط سميك عقدته بلساني وشددته جيدا بأسناني، ودفنتها. عدت متسللا لأستلقي على سريري بارتياح لا أكاد أصدق أني وأدتها، وتخلصت منها إلى الأبد، وأنني أول إنسان على وجه الأرض يقاسم قابيل امتنانه للغراب حين دلنا على دفن السوءة.
لا أدر كم مر علي من وقت حتى سمعت جلبة خلف باب غرفتي وصوت نواح ذلك الجار:
- اين أنت يا جاري المسكين..كم كان كتوما، وديعا، وعطوفا حتى على الكلاب و ..
وبضربة قوية خلع أحدهم مفصل الباب لأرى جمهرة من الشرطة تدخل غرفتي، في مقدمتهم الجار الذي شهق لرؤيتي، وانحنى على شيء ما رفعه من الأرض وقال متحسرا
- انظروا إلى عزة نفسه لم يتناول حتى السندويش الذي أعطيته له ف..
نهره الضابط:
- لا تلمس شيئا .. أخرج وانتظر حتى نأخذ أقوالك.
خرج الجار وهو يدمدم بأسى، ويضرب بأسف كفا بكف بينما تحلق الجنود حول سريري يلفهم الوجوم يتابعون حركات الضابط الذي أخذ يفتش في الدولاب، وتحت السرير. ويلتقط لي صورا بكامرته من جميع الزوايا، وقد بدت عليه الحيرة الشديدة، ثم قطع الصمت مشيرا إلى أحدهم فتقدم المعني بيده قلما ودفترا كتب عليه محضر معاينة اخذ يملي عليه ببطء كأنه يجد صعوبة في اختيار الكلمات المناسبة :
- تم العثور على عشرة أصابع في شكل حزمة تتوسط السرير..
وبتر كلامه ريثما التقط الحزمة، وأخذ يتفحصها بدهشة، وهو يمرر سن قلم رصاص بحركة دائرية على تضاريس الأنامل مردفا :
- البصمات واضحة، والأصابع في حالة جيدة، أما البدن وبقية الأطراف فلا زال البحث عنها جار .
عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن/ ذمار.