مزهر جبر الساعدي - إرادتان تصارعان صوت الرأس.. قصة قصيرة

أقلقني هذا الرجل الذي وقف على بعد أمتار مني وعلى بعد متر من باب بيته. لم يفتح الباب. خفت عليه، خشيت أن يقوم بعمل شىء ما لنفسه أو يرجع الى المقهى للأقتصاص من النادل لأنه الآن أخذ يكيل الشتائم والوعيد للنادل، مبعث قلقي عليه كونه لوحده وفي وضع جسدي مفكك، هذا التوجس منه وعليه تملكني وجعلني أنتظر. الرجل لا أعرفه، لم ألتق به في حياتي رغم أنه من مدينتي. المدينة صغيرة، فيها طريق على ساحل الخليج، فيه كورنيش لمسافة قليلة، داخل المدينة شارع يشطرها الى نصفين. عليه لايمكن لأثنين من أبناءها أن لا يلتقيا، رغم ذلك أكرر لم ألتق به. على الرغم من عدم معرفتي به، سلب مني راحة نفسي. لم يدخل، ظل واقفاً على بعد متر من الباب. أنه ينتظر، ينتظرمن؟ أذ لا أحد في الطريق. الناس يهجعون الى بيوتهم في هذا الوقت، وقت ما بعد الغروب. ظللت أحدق في الليل الذي أبلغني الظلام عن وجوده، ظهرت فيه مدينتي الصغيرة مثل مقبرة أمامي. هناك على طريق الساحل وفي المكان المواجه للكورنيش على بعد أقل من نصف كيلو متر من هنا، يظل المقهى الوحيد والمثير للشبهات مفتوح حتى ساعة متأخرة من الليل، يختلف كلياً عن بقية بيوت المدينة، فيه الأنارة مستمرة من غير أن تدل عليه، لايظهر للناظرحتى على بعد أمتار قليله منه، زجاج واجهته من النوع المعتم، يمنع عبور نور المصابيح منه الى الطريق . يدل على كونه مفتوح في أي ساعة من الليل، أشتغال المولدة الكهربائية الأمريكية الموضوعه في الركن الأيمن من المدخل. أهداها قبل سنة الجنود الأمريكيين، كانت السبب في محاولة ناس المدينة لأكثر من ست مرات طرد صاحبها وهو في ذات الوقت نادلها. أصر على البقاء ولم يغادر أو يغلق المقهى، الأغلاق هذا، طلبه الناس في الأخير منه، أحتمى من نتائج غضبهم عليه بالأمركيين. الناس هنا رغم حماية الأمركيين له، لأن معسركهم على مقربة من مكان المقهى، أستمروا في متابعته للقضاء عليه أو دفعه للهروب الى خارج المدينة. الأمريكيون لهم في البحر زوارق حربية راسية على مقربة من الساحل. أما السفن الحربية وحاملات الطائرات، لا يدري بأعدادها أحد فهي هنالك في البعيد، في عرض مياه الخليج العربي. الرجل لم يتحرك، مما أقلقني أكثر من السابق عليه. وأنا أنظر إليه والى الليل والظلام، الظلام الذي على مابدى لي في تلك اللحظة خرج منتصراً من صراعه الأبدي مع النور، منتصراً الى حين إنتهاء مقاطعة مصابيح الأنارة المعلقة على اعناق أعمدة الطريق للتيار الكهربائي. وأنا أتفكر فيه تابعت أقدامي حركتها الموضعيه من غير إرادة مني على ذات القطعة من أرض الطريق التى وضعتها عليها قبل ثواني. أوقفتني, كبلت مستلمات الأصوات في رأسي خطواتي الوئيدة على ساحل الخليج على مسافة بضعة كليو مترات من منطقة إلتقاء شط العرب بالخليج العربي. صوت واضح على مسافة مني، أقل من متر. فاجئني، قطع عني تأملي للحظة، لحظة فقط. رجعت بعدهاعلى الرغم مني الى تأملي للغروب ومياه الخليج وما فيها من دون أن أعرف ما يقول. لأني في هذا الوقت من كل يوم ربما بسبب تقدمي في السن أتجول في هذا المكان لهذا الغرض من أجل تفريغ ألمي من داخل نفسي. ما في الخليج يجول في دماغي ويؤلمني. ألوان الغروب تسقط على المياه فيه. الآن على الرغم مني أخذت تأملاتي منحى آخر يختلف كلياً، صَوّر لي دماغي ما هو كائن في البعيد على لوح خيالي، جعله لقطة من فلم حربي: دخان يضبب مرأى السفن، بعضها راسية وأخرى تمخر فوق المياه بأتجاهات متعاكسة. سفن تجارية ضخمة، ناقلات نفط عملاقة، سفن حربية وحاملات الطائرات وزوارق كبيرة مختلفة الأنواع والأشكال والأغراض. خيالي أستحضرها أمامي من صورالحرب أثناء الغزو الأمريكي. أعادني الرجل صاحب الصوت من متخيلاتي عندما أصبح صوته أكثر حدة وقرباً مني، يتكلم كأنه يحادثني، أسمعه بوضوح أكثر من السابق، من مكاني، لكني في البدء لم أهتم بما يقول. هو أسفل مني، قاعد على صخرة، أمام فيه دوائر من دخان، تستمر وهي تدوم ثم تختفي دون أن تنقطع. شارد عن ما هو فيه، عيناه زاغتان، أنه يتفكر.أعلمني لسانه أنه يتفكر، لسانه المتحرك بقوة في حلقه الى الدرجة التي يصل ما تنتجه تلك الحركة لمن كان يقف على بعد أمتار مني. في الحقيقة لا يوجد في المكان إلا أنا وهو. الآن أخذت أركز حتى أفهم، فقد أختلط الأمر عليّ، رغم قوة ما أستلم منه. ترسل أذاني الى دماغي ما يقول:-” أسماك القرش والحيتان والتماسيح، من تكوينات هذه الحيوانات أمتلاكها حواس غير موجودة عند البشر، منها حاسة الشم. تشم الغذاء على مسافة، ربما أكثر من كيلو متر. مثل صاروخ داخل الأعماق، تندفع إليه، تتلقفه بأشداقها قبل وصوله الى قاع البحر. هذه الحيوانات، الحيتان أو من هي مثلها تقطع آلاف الكيلو مترات من أجل الطعام. تبحث أثناء إبحارها عن مساحة بحرية ملائمة لحياتها، يتوفر فيها طعام كافي لها، يعاونها على البقاء بكامل قوتها. لذلك هي هنالك، في الأعماق، من أجل الطعام. بقايا طعام البحارة، النازل من سطح السفن التجارية والحربية وناقلات النفط.” تيقنت أن الرجل غارق في متخيلاته كأنه يلقي محاظرة على جمع من الطلاب في قاعة للدرس، لأن ما ينطق به، هو كلام محبوك ومتوازن، لايمكن أن يتفوه به من فقّد توازنه كما ظهر في أول وهلة، يتحادث مع ألّا أحد، إستغربت الحالة التي هوفيها. مثلي قبل أقل من دقيقة، الفرق بيني وبينه أنا لثانية وأعايش صور متخيلي دون أن أفتح فمي. بينما هو مستمر في متخيلاته الحاكي بها لسانه بصوت عالٍ. الحقيقة هو واقع بالفعل، واقع غير مرئي من الناحية الجغرافية. الرجل مع تدفق الكلام من فيه، لا ينفك يواصل مج دخان سيكارته. يشدّ عليها بقوة، مخافة سقوطها من بين السبابة والوسطى. هي السيكارة الثانية، لفها قبل دقائق. لم يبق منها إلا القليل.توقف لسانه عن الحركة في حلقه، الحقيقة توقف قبل برهة. أقتربت حتى أصبحت على بعد أقل من نصف متر منه. عاد يتكلم، مع من يتكلم؟ لا أحد في الساحل! ذلك لا يهم لأستمع له:-“اللعنة لم أتذكرإسم نادل المقهى أومكان المقهى ، أعرف إسم النادل ومكان المقهى، تعاملت معهما، النادل والمقهى، الآن نسيّتهما”. دوي شديد الوطأة علينا أنا وهو. تسائل:- “من أين؟.. “. الدوي يختفي بسرعة مثلما إبتدأ بسرعة. بعد دقائق، الدوي يدوي بقوة أكبر، أكبر بكثير، لأقل من نصف دقيقة.إضطرب الرجل. أخذ يتمايل وهو جالس على الصخرة. في الثواني التالية تحول الدوي الى رعد. أيقظته جمرة السيكارة، لسعت أصبعيه.أيقنت أن الرجل في صراع داخلي عندما قال بهستيريا، هستيريا واضحة من النبرة القوية في صوته:- ” التدخين كارثة،.إتركه، إصلح خراب جسدك قبل فوات الآوان. تدخيني هذا خطأ”. بغتة عصفت به الريح، كادت أن تطيح به من على الصخرة.أنا الآخركدت أن أسقط على بلاط الكورنيش لكني سيطرت على جسدي، بقيت واقفاً، لم أسقط.عقب السيكارة تحت قدميه. وسط هذه الرياح التى أشتدت فجأة، أعتقد أنه عاد منه إليه، الى ذات نفسه، توافق مع صوت رأسه. قال:- ” عليّ المغادرة. الليل حط على المكان. سيكارتان لا تكفياني. الآن تذكرتهما النادل والمقهى، نادل المقهى وهو يعطيني آخر كمية لديه قال:- من الممكن أن ترجع بعد ساعة أو أقل، أكون خلال ذلك قد وفرت ما تحتاجه. في كل مرة بعد أن أصحو، ليس الصحو التام، قليل من الصحو. ألوم نفسي على ما أفعله من خراب لجسدي بتدخيني لهذه السكاير اللعينة، لم أستطع الفكاك منها. في البداية بإرادتي سلكت طريق الهاوية. الآن أصبح التدخين جزء من مكوناتي البايلوجية وحاجات جسدي الفسلجية”. غادر وهو في حيرة وضياع.أعلمني بوضعه هذا، توجله في المشي بالاضافة الى تمايله وهو يجر خطواته جراً. تبعته بسبب الفضول أو رغبة مني في معرفة ماهية هذا الرجل. الرجل أثار أستغرابي، حافظ على تماسك جسده وسيطرة عقله عليه، مع أنه دخن سيكارتين من الحشيشة. أنها حقاً حشيشة: بيع التبغ بهذه الصورة للحشيشة فقط. أمام باب المقهى، ظل واقف، لم يدخل. ملتحون يتكلمون مع النادل الباكستاني، جاء بعد الغزو الأمريكى وفتح هذه المقهى، الناس هنا في البدء لم يعترضوا بعد ذلك أنقلبوا الى الضد منه، ما فيهم جعلهم يستقبلون أي قادم الى مدينتهم يريد العمل والعيش. لم يطل به الأنتظار،الملتحون الذين كانوا يتحاورن معه، سرعان ما خرجوا. دخل المقهى. النادل وحده. أخذ ما يحتاج وخرج هو الآخر. ثم مشى وأنا وراءه أعتقدت وهذا رأيي الشخصي فيه، أن إرادتين تتنازعانه، الكف عن تدخين هذه السكائر اللعينة أو الأستمرار والذي يقود الى الخراب النهائي لجسده. على بعد خطوتين من باب بيته، لم يصبر لف ورق اللف بالحشيشة الى آخر ما فيه من مجال. مع مج الدخان من فيه، أرسل السباب الى النادل. لم يخرج المفتاح من جيبه. لم يشأ الدخول. “أراد التدخين في الفضاء المفتوح حتى يهىء نفسه لما يريد أن يعمل” قلت لنفسي. في هذه الأثناء عبرت من فوقنا سرب من طائرات الأمريكان وهي تطلق أصواتها، أصوات مثل الرعد. قال بصوت عالٍ، سمعته وأنا على بعد ثلاث أمتار منه :- ” الأثنان، الأمريكان برعد طائراتهم والحشيشة وما فيها يسببان دوخان رأسي ومن ثم تيّهي..” أستمر في التدخين لأكثر من خمسة دقائق، وهو يدفع آخر مجة من الدخان، تحرك خطوة بأتجاه باب بيته. تراجع خوفي عليه. جازماً قلت لنفسي:- “ثمة صوت في داخله، صوت رأسه، يأمره بالأقلاع عن ما هو فيه للمحافظة على جسده..” تركت الرجل والقلق والتفكير به يعتصرني على مآل هذا الرجل المضطرب، عرفت هذا فيه، من خلال صراعه مع ذات نفسه بصوت مسموع وبطريقة واضحة ومفهومة، هذا يعني أنه متمكن ويعرف ما يقول رغم تدخينه للحشيشة ، القلق والارتباك بالتاكيد هو بسبب أدمانه. صراع من هذا النوع دليل على أن الرجل يبحث عن البوصلة، بوصلة الطريق، طريق الخلاص. بعد خطوات من مغادرتي له، ألتفت، رأيته يفتح الباب، باب بيته ويدخل. تأكدت أن الرجل في النهاية حتماً سوف يعثر على بوصلة الطريق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى