تروي الحكايات القديمة ان طائرا يخرج من رأس القتيل الذي
لم يؤخذ بثأره ويستمر بالصراخ حتى يأخذ اهل القتيل بثأره
منذ الصباح وأنا اشعر بالجفاف في حلقي ، وعيني اليمنى تغطيها غمامة صفراء فيما تقف منذ اكثر من ساعة ذبابة سمينة على عيني اليسرى تمنعني من الرؤية، المساء مترب له لون عصفور مصاب بالسل ، وخلفي يمتد حائط عال استطيع ان اراه بطرف عيني اذا ما حركتها يمينا، عليه اثار دماء تسيل على الأرضية المغطاة بسوائل مختلفة ، وفي مكان اقصى اليمين كان هناك احتفال من نوع ما ، رجال متصلبو الوجوه يأكلون لحما مشويا ويلقون بعلب ميراندا وراء ظهورهم ويتابعون شاشة تلفاز تبرق في عتمة الليل شريط اخبارها العاجلة يدور بسرعة مريبة، كان هناك ايضا مذيع يسلك حنجرته مرتين قبل قراءة كل خبر ، كأنه لا يفهم ما يقول او كأنه يوشك على التقيؤ. فيما يقف غراب على الحائط ويأخذ وضعية واحدة منذ الصباح كأنه خارج من غرفة التجميد، وفي عينيه دهشة كل غربان الكون ، وجنود ، جنود ، جنود ، الكثير من الجنود، كان بعضهم حليق الرأس. وبعضهم بندب صغيرة على شفاههم . و أوشام بعضهم تظهر كطلاسم تقاوم المحو
كنت قريبا من الارض لدرجة لم أكن عليها سابقا ، ولا أشعر بجسدي، لكن انفي يعمل بصورة جيدة كأنه يحمل ذاكرة مستقلة عن ذاكرتي فقد استطعت ان اشم رائحة تراب تشّرب دمي ودماء اخرى اختلطت على الارض حتى صعب عليّ تمييزها، كما شممت رائحة عفونة بدت كخليط من روث دابة قديم ورذاذ بول مراهق تخيلت انه يحمل بندقية، وهناك ايضا رائحة بارود محترق، وبقايا خراء عجوز خمنت انها رحلت منذ أسابيع، وزيت سيارة ورائحة شواء وأعشاب نهرية، اضافة الى عطن جوارب الجنود الذي يرافقني منذ أشهر. وحدها رائحة "بسعاد" التي يمتزج فيها هيل وقرنفل واشياء سحرية اخرى هي القادرة على محو رائحة جوارب الجنود التي تداهمني باستمرار، حتى اذا كنت وحدي.
كنت اشعر ايضا بحرقة هائلة في حنجرتي وبتصلب عضلات رقبتي، واحدى عينيّ تغطيها ذبابة تمد خرطومها عميقا لتمص سائلا ما. لم أكن استطيع ان احرك اي جزء من جسدي الذي لم اره منذ يومين.
في اليوم الاول كان جسدي يبعد عني خمسة امتار او ستة، تغطيه اجساد اخرى من غير رؤوس. لم أر جسدي سابقا بهذه الوضعية. كان ظهري أعرض مما كنت أتصور، وكانت لي شامة على كتفي الايسر لم اعرف بها سابقا، ولم يكن غيري يجرؤ على ارتداء ساعته بيده اليمنى والا قال الجنود عنه كلاما سيئا . لو لم تكن ساعتي التي أضعها في يدي اليمنى موجودة لما تعرفت على جسدي وسط كومة الاجساد المشوهة. بعدها بساعات رأيت الساعة في يد شخص يمكنني ان اسميه "حرملة" .كان يحمل سكينا طويلة ويدور بها بفخر ويلف حول ظهره زنّارا اشبه بأحزمة القصابين.
حاولت ان اتحرك قليلا لكني وجدت نفسي ملتصقا بالأرض بخليط من الدم المتخثر والطين، وجدت بجانبي بعض الرؤوس التي لم يكن الكثير منها مبتسما، كانوا مغمضي العيون كمجاذيب اسكرهم وجد درويش مر صدفة ومضى لشأنه، ملامحهم كانت حيادية كوجه صديق قديم تسنم منصبا حكوميا كبيرا تلتقي به صدفة، فيدير وجهه كي لا تطلب منه ان يساعدك في العثور على وظيفة، وجامدة لا تنم عن طيش اعتاده الجنود، ولا عن تبرم تأخر الإجازة، ولا ملامح تُنبئ عن رغبات مكبوتة.
طوال اليومين الماضيين حاولت ان استوعب فكرة ابتعاد رأسي عن جسدي كل هذه المسافة محاولا ان احظى بنظرة لجيب قميصي الأيمن لأتأكد من وجود هاتفي النقال وراتبي الذي استلمته قبل ايام. اما اليوم فقد اختفى الجسد تماما بعد ان قامت جرافة بدفع الاجساد الآدمية الى حفرة قريبة وكان لسقوط الجثث فوق بعضها البعض صوت يشبه ضرب الأكف على الصدور في لطمية يقرأها رادود مبتدئ ، كيف ستدبر "بسعاد" أمورها هذا الشهر؟ وهل سيقتنع صاحب البيت بأن راتبي سرقه أحدهم؟ او ان جسدي هو الذي سرق الراتب وفر به الى الحفرة الكبيرة؟ .
بهاتف نقال كان أحدهم يصور مشهدا آخر يجري بسرعة قبل حلول الظلام. اصحاب السكاكين الطويلة يطلقون النار على رؤوس اخرى ويدفعون حامليها الى ماتبين انه النهر، كانوا مستعجلين لدرجة لا يمكنهم معها التراجع او التفكير فيما يفعلون.
ابتعدت الجرافة لتردم حفرة اخرى فبقي مشهد واحد امام عيني، هو رصيف الشارع المؤدي الى ............مصبوغ بألوان اشد انضباطا من خطوات نائب عريف في الجيش ابيض وأصفر، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر ، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر......... صفرته تشع في الجو كبريق منائر إمام طعين. او ولي مغدور. ولازالت الذبابة اللعينة تصر على دخول عيني للنفاذ الى رأسي بحثا عن حل لتساؤل ربما داهمها فجأة. في اليومين الماضيين كانت كومة الاجساد المقطوعة الرؤوس تحمل بعض التسلية ، فقد تعرفت فيها الى اجساد اصدقاء كانوا زملاء لي في المعسكر، عباس من الديوانية، ومنتظر من سوق الشيوخ، وسجاد من خان النص وصفاء من.........صفاء اسم حيادي لا اعرف مدينته. كيف اصبح اقرب اصدقائي؟ الاسماء الحيادية مقلقة، مثل بعض الاجساد التي لم اتمكن من معرفتها بدون رؤية رؤوسها والتفرس في الوجوه الملتصقة بها، خصوصا ان الجميع استبدلوا بزاتهم العسكرية المألوفة بالثياب المدنية التي جاءوا بها من قراهم ومدنهم البعيدة. تعرفت ايضا الى طباخ السرية من كرشه الضخم والى ضابط صغير كان يصر على ان ننسحب ونستبدل ثيابنا العسكرية بثياب المدنيين لننجو. لكن الجرافة اللعينة غيّرت المنظر تماما وأنهت هذه التسلية.
لم يكسر حدة منظر الرصيف الذاهب الى .............. سوى خنفساء جاء بها المساء لتسلي وحدتي، كانت الخنفساء تنقلب على ظهرها ثم تأخذ بضرب ارجلها الكثيرة في الفراغ محاولة استعادة توازنها. وكلما نجحت في الوقوف على ارجلها كانت ترتكب خطأ ما لتعود مرة اخرى لتضرب الفراغ بأرجلها الكثيرة.
في الليل كان هناك ثلاثة كلاب تحاول نبش الأجساد، سمعت طقطقة عظام احدهم في فم كلب أعور وسمعت صوت تمزق قميص، وجنرال بلثغة مميزة يدافع عن نفسه بحماس في التلفاز القريب، يقول ان الجنود هم الذين عصوا الاوامر. اصوات توسل، الله يخلي اولادك، إنجب، أيش تبي الحين، انا يتيم، كفره، استغاثات، ياعلي، بص أُودامك، نذبحوه ولا ما نذبوحوش، يُبَه كص راسه ولا يهمِك، لا باس باش نقتلوه، حرملة كان يطلق النار من بندقية روسية دون ان يتمعن كثيرا في وجوه أهدافه فيما كان حرملة آخر يردد الله أكبر، الله اكبر ، وبين "الله اكبر" و"الله اكبر" كان يهوي رأس تتبعه "تبارك الله" و"لله الحمد والمنه", وأصوات لاغطة أخرى تغطي آخر "الله اكبر" خافتة تلتصق بشفتي الرأس المقطوع. أحد حاملي السكاكين الطويلة كان يلتقط صورا لكل "الله اكبر" ولوجوهنا وللجرافة المنهمكة بدفن الاجساد في الحفرة.
عندما قطع اصحاب السكاكين الطويلة رأسي كان المصور نفسه موجودا ايضا وكان حرملة يقف بشماتة وكنت مبتسما ابتسامة بليدة حينما توغلت السكين في رقبتي. وتذكرت شعور البلل الذي اصاب اعلى صدري وقميصي بعد دفقة غزيرة من الدم الساخن. والمصور وصاحب السكين ينشدان نشيدا بدويا نحاسي النبرات. ينافس في العلو صوت الجنرال وهو يدافع عن نفسه. تخيلت مذيعا سليط اللسان يحملني مثل سندانة دامية ويضعني فوق طاولة حوار تلفزيوني طويل لأضع عيني في عين الجنرال لنلعب لعبة تحدي النظرات لأرى من يجبر خصمه على ان يغض بصره في النهاية.
شعرت الذبابة بنظرة التحدي فغادرت عيني اليسرى ، وكنت سعيدا للحظات لأنها طارت بعيدا لتدخل في انف كامل مطشر، عدد الرشاشة الـ"بي كي سي"، لتطير بعدها محاولة ان تجد لها طريقا في شوارب طاهر عبد الزهرة الذي خاض سبعين حربا ولم يمت. عوت كلاب وبنات آوى ودبت خنافس وثعابين ونمل و عظاءات عابثة الرغبات امام عيني بعد ان اجتذبتها رائحة الدم. وفي الجو تلاوة لسورة الرحمن يتلوها قارئ بلكنة مخيفة. خشيت على صديقتي الخنفساء المقلوبة على ظهرها من زحف الهوام الليلي هذا. حاولت ان أنفخ عليها لأساعدها ، نفخت كل ما تمكنت الحصول عليه من هواء فأخذت الخنفساء تتدحرج حتى انتصبت واقفة. فشعرت بانتصار صغير، وحرملة، او شقيقه، او آخر يشبهه، يجري اختبارات صعبة للجنود الاحياء لمعرفة مدنهم وعشائرهم وطوائفهم.
دبت الخنفساء على شفتي واستمرت تدور حولي بغرابة رغم عيون مخلوقات الليل التي تترصدها. كانت تستلقي على ظهرها ثم تتدحرج لتدور حولي مرة اخرى. شعرت ان الحشرة تحاول ان توصل لي رسالة مشفرة من نوع ما. لكن احد اصحاب السكاكين الطويلة سحقها بقدمه فماتت رسالتها معها. أردت بدوري ان احملها رسالة أفكر في عباراتها منذ ثلاثة ايام، أردت ان اوصيها بـ"بسعاد".
حرملة آخر يدفع برجله كتلا كانت تتدحرج امامه لتصطف بالقرب مني، اقربها كان رأسا له بروفايل حاد غامض لم استطع تبين هويته.
خيل إلي إني سمعت أنينا يشبه الضحك، او صوتا ثالثا يجمعهما مع بكاء دفين مع مسحة من الانكسار المر الذي يصطحب معه نواحا قديما مقيما في رئة عليلة. او شيئا قريبا من هذه الاوصاف المعقدة. لا استطيع ان اصف الصوت الان، لكني استطعت تبين مصدر الصوت، ذلك الصوت كان في داخلي، صوتا غريبا غامضا مشحونا باليأس والعزلة والشعور بالخذلان.ن ن ن يييييي آآآآآه نغمة تجمع كل هذه الحروف معا، صوتا يترك في الروح احساسا يشبه احساس ذئب كثرت خساراته وصار متيقنا من دنو الموت
ن ن ن يييييي آآآآآه ...في لحظة ما شعرت ان طائرا عملاقا بدأ يخرج من رأسي شيئا فشيئا ويقف على مقربة مني ويهمس بأذني بحرف نون طويل ومكتوم محمل بالخيبة ن ن ن يييييي آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
دار عقلي مثل خلاط عصير وتناثرت ألاف الحكايات عن طائر طويل الرقبة يتغذى على الفراريج ويخطف الصيصان ويشوه الماشية ويبقر بطون الماعز وينثر البثور والقوباء على اذرع الاطفال ويصنع دمامل تحت آباطهم لا علاج منها سوى خراء الارانب، او مسحوق نبتة ذكر الكلب المجفف المخلوط بالزرقيون.
كان الطائر يحاول ان يهمس في أذني بالمزيد من حرف النون الذي يستطيل ويتضخم ليغطي كل ما حولي من اشياء لم تتعد طريقا بعيدا إلتهم الليل الوان رصيفه، وبروفايل لرأس مقطوع ذي وجه حيادي تماما، وطائر بعينين كبيرتين ينقل بصره بيني وبين طائر آخر بدأ يخرج من رأس صاحب البروفايل الحيادي، كان هناك ايضا شفتان غليظتان مفخختان بالبوتكس تقرآن خبرا يعاد منذ الصباح عبر شاشة نزقة، رتبة عسكرية بلثغة لعينة تحاول ان تقول ان صاحبها غير مسؤول عما يجري، بدلة ايطالية زرقاء تختبئ عن فضول المصورين، دشداشة تسحب بضعة جنود لتطلق سراحهم وأخرى تسحب آخرين لتهبهم لسكين طويلة، كرش ينتفض مطالبا بالثأر على الشاشة، ورباط عنق يحاول ان يسخف الامر ويخفيه ويقول انه فيلم تلفزيوني وليست عملية ذبح جنود، عمامة تهتز معلنة حيرتها، حذاء نسائي يطرق المرمر اللامع ، وغطاء راس أمرأة جنوبية يحلق في فضاء مشهد سريالي محرج ينقله التلفزيون مباشرة امام شوارب راعشة وجباه معروقة من الحر وليس من شيء آخر. رتبة عسكرية اخرى تتحدث بحماس فيما كانت غترة تهمس في اذن لثام داكن لتتحرك لحية كثة للإجهاز على ماتبقى من رؤوس.
ن ن ن ننننه، قلتها بسرعة وبصوت خفيض محاولا تقليد الطائر، فراق لي سماع صوتي فكررت الامر محاولا ان يكون حرف النون اطول في المرة الرابعة لمحت إلتماعة في عين الرأس صاحب البروفايل المتخشب جعلته اكثر ألفة. ن ن ن نننننننن يييييي آآآآآه كررت الصوت ، في المرة السابعة سمعت حرف نون ينطلق من احد الرؤوس القريبة ثم تكاثرت الطيور واسعة العيون. اذهلتني المفاجئة فبحثت بعيني عن الخنفساء محاولا ان اشركها في اكتشافي. فتذكرت انها ماتت وهي تتدحرج، ففهمت على الفور رسالتها، وخطرت لي فكرة تقليدها وحاولت ان أ..تـ..د..حـ..ر..ج.
تدحرجت قليلا فتبعتني الرؤوس الاخرى. تدحرجت بصورة اسرع فلحقت بنا الطيور كبيرة العيون وصفقت بأجنحتها وطارت. بعد عدة محاولات في الدحرجة سرت بين الرؤوس المقطوعة فكرة البحث عن رماح نتخذها اجسادا بدل اجسادنا في مكان اخر. وبعد لحظات كان هناك سرب غريب من الطيور يحلق في السماء متبوعا بسرب آخر من الرؤوس المقطوعة المحلقة.
روايات نساء حي الشهداء
- زوجة صاحب المقهى روت ان العجوز بسعاد لم تكن تبكي بل كانت تسأل فقط، سألت صاحب المقهى عن اخبار جديدة فردد على مسامعها مرة اخرى ان الحكومة تقول ان مابثه التلفزيون ليس سوى فلم ولا يوجد جنود مذبوحون. عمي اعلام كله كذب.
- زوجة الخباز قالت ان بسعاد سألت زوجها ايضا عن اخبار جديدة فقال إنه لم يسمع شيئا ، لكن زوجة الخباز نقلت عن زوجها ملاحظة لم يصدقها أحد، فقد ذكر الخباز انه شاهد حميدة وهي تمشي على اطراف اصابعها وكانت توشك ان تطير
-ام مسلم نقلت رواية روتها لها حميدة شخصيا حيث قالت: في هذه المرة كنت مضطرة للخروج للبحث عن صوت اخر غير هذا الصوت الذي يخترق اذني منذ ثلاثة ايام، في البداية كان صوت انين باهت لا يكاد يتبينه سوى الاشخاص الذين اعتادوا الوحدة. ثم تحول الصوت الى نعيب خافت غريب محمل بالوحشة. ولم تكمل باقي الحكاية فقد اختفت.
- تداولت نساء الحي في اختفاء بسعاد ثم اتفقن على رواية رجحت لديهن تقول ان انها لم تعرف للبكاء طريقا وكانت تصبر نفسها بترديد جملة " ماذا اقول لفاطمة الزهراء اذا بكيت على ابني ولم ابك على إبنها" لكنها حين سمعت احد الرواديد العاشورائيين ذات يوم وهو يقرأ "يمه اذكريني من تمر زفة شباب" فشحطت روحها ونبتت لها اجنحة وتحولت الى بومة.
روايات رجال حي الشهداء
-اهالي الطليعة رووا قصة رجل مقطوع الرأس يتمشى على الطريق السريع من تقاطع سوق الشيوخ ويعبر الجسر وصولا الى حي الفداء، وأكد ذلك اثنان من الزعيلات وابو جراح الكويتي.
-اهالي الثورة شاهدوا جنديا دون رأس يدور في الاحياء ينام في بستان زاير حنون ويقطع ليليا المسافة بين الثورة والمنصورية بسرعة لافتة للانتباه.
- روى شرطي من حراس المصرف العقاري عن مشاهدته لرأس محمول على رمح قرب بيت مجيد طوبيّه تخيل انه من بقايا موكب الحدادين لكنه فوجئ بأن الرأس كان يئن ويطرف بعينيه، وروى احد العاملين في مركز الدفاع المدني في سومر شيئا مشابها.
- مخبولة اسمها "أم يدّي" ثرثرت كثيرا عن رؤوس طائرة ولم يصدقها احد. فيما بعد اصبحت هذه الرواية مؤكدة بعد ان رواها عدد من اهالي حي التنك واهالي الشوفه والعكر والعرجه. بل ان اولاد سيد طالب اصبحوا اكثر المقتنعين بهذه القصة لكثرة ما سمعوها من رواد مطعمهم.
-قرر المسرحي علي عبد النبي الزيدي وجماعة من مريديه الشكوى للفرات كل مساء في طقس مسرحي ينتهي بنثر بذور الشعير في النهر ، وهدته آخر نوبات جنونه الى اختراع امرأة تهدد الرب بالامتناع عن الصلاة والصيام ان لم يمنع موت الابناء في الحروب. فيما كان الشاعر علي الشيال يوشوش كل بئر يعثر عليه خوف ان يبوح بسر رؤيته لعيون الموتى كل ليلة.
-آل زويد الذين يسكنون حي أريدو تحدثوا عن قصة جندي مقطوع الرأس يظهر كل ليلة ووصل خبر القصة الى "البطحة". فتناقلها ابناء عشائر ال غزّي والبدور برمتهم. ثم تولى كل بدوي من آل رُفيع مهمة نقل القصة بطريقته في البادية، وتطورت القصة كثيرا في المسامرات الليلية لدرجة ان القصة التي تروى في "بصية" تختلف عن اختها التي تروى في "عبلة والحصان" و"الكطيعة" بل ان القصص التي تروى في "الرقعي" و"المطلاع " وراء الحدود لا تمت بصلة الى القصة الاصل.
-ام وجدان روت لكل اهالي الصالحية تقريبا عن رؤيتها لسبعة شبان يرتدون ثياب المشاية يسيرون في شارع العروبة جيئة وذهابا بلا رؤوس.
-اهالي "الاربعمية دار" في مدينة الصدر كلهم تقريبا يعلمون بقصة الفارس المقطوع الرأس، الذي شوهد ايضا بين نزلة العمارات الثانية ومستوصف الاسكان الصناعي.
- نقل مقربون من الشيخ جعفر الابراهيمي والسيد محمد الصافي بأنهما كانا يشعران بأنهما كلما طالبوا مستمعيهم بأن يئنوا في التعزيات الحسينية في قفلة بيت الأبوذيه كان صوت الانين اكبر من صوت الموجودين وإن هناك جمهورا اخر يواصل الانين حتى بعد انتهاء المجلس. ولم يكن يحدث ذلك في قفلة بيت النصّاري او الملائي او الزهيري. بل أكد ذلك الملّا باسم الكربلائي شخصيا.
- روى الكاتب حسن عبد الرزاق ان تقليدا جديدا بدأ يظهر هذا العام في محرم هو اقامة اطفال الناصرية لتشابيه من نوع جديد تقوم على شد وثاق الاطفال الذين يمثلون دور ابناء الحسين وجعلهم يقرفصون ثم يقوم الاطفال الذين يمثلون ادوار الشمر وحرملة بقطع رؤوسهم وإلقاء اجسادهم في حفرة.
-اما الناقد علي شبيب ورد فقد كتب في جريدة "عكد الهوى" مقالا قال فيه ان ذائقة المجتمع تعتمد مشغلا تتحرك أدواته ضمن انزياح بصري ذهني ، لكتابة نص التأويل النقدي وإعادة صياغة التأويل الجديد عبر عملية مخاض عسير تشكل من خلالها نصوص تأويلية وفق كولاج (حسي / ذهني ) لنصوص مقترحة، ويعطي الناقد مثالا على ذلك إن اهالي الناصرية اخذوا يعيدون تمثيل قصة مقتل إولاد مسلم بن عقيل مع تغيير طفيف فقد اخذوا يمثلون عملية اطلاق النار على رؤوسهم بالمسدس قبل رميهم في الفرات، بدلا عن قطع رؤوسهم بالسيف.
-اهالي الموحية، حيث تغرب الشمس، يعرفون السر اكثر من غيرهم ، فالغروب عندهم يعني خروج عشرات الرؤوس المقطوعة والطيور الكبيرة العيون من بين تدرجات اللون الأحمر والبرتقالي لتطير بإتجاه المباني الحكومية وهي تطلق ذلك الانين اليائس ن ن ن يييييي آآآآآه لكنها تضيع احيانا في ازقة المدينة، وقد روت فتاة ان الرؤوس تعد لتظاهرة امام مبنى المحافظة في محرم القادم.
انتهى
* لا تبحثوا عن اسماء الاشخاص الواردة في هذه القصة فربما يكون بعضهم ميتا. فلا تزعجوا الموتى بفضولكم.
* لاتسألوا عن الاماكن الواردة في هذه القصة .فبعد حروب الخرائط الجديدة التي استلم مقاولة تنفيذها اصحاب السواطير. لم اعد واثقا من عائدية اي مكان
لم يؤخذ بثأره ويستمر بالصراخ حتى يأخذ اهل القتيل بثأره
منذ الصباح وأنا اشعر بالجفاف في حلقي ، وعيني اليمنى تغطيها غمامة صفراء فيما تقف منذ اكثر من ساعة ذبابة سمينة على عيني اليسرى تمنعني من الرؤية، المساء مترب له لون عصفور مصاب بالسل ، وخلفي يمتد حائط عال استطيع ان اراه بطرف عيني اذا ما حركتها يمينا، عليه اثار دماء تسيل على الأرضية المغطاة بسوائل مختلفة ، وفي مكان اقصى اليمين كان هناك احتفال من نوع ما ، رجال متصلبو الوجوه يأكلون لحما مشويا ويلقون بعلب ميراندا وراء ظهورهم ويتابعون شاشة تلفاز تبرق في عتمة الليل شريط اخبارها العاجلة يدور بسرعة مريبة، كان هناك ايضا مذيع يسلك حنجرته مرتين قبل قراءة كل خبر ، كأنه لا يفهم ما يقول او كأنه يوشك على التقيؤ. فيما يقف غراب على الحائط ويأخذ وضعية واحدة منذ الصباح كأنه خارج من غرفة التجميد، وفي عينيه دهشة كل غربان الكون ، وجنود ، جنود ، جنود ، الكثير من الجنود، كان بعضهم حليق الرأس. وبعضهم بندب صغيرة على شفاههم . و أوشام بعضهم تظهر كطلاسم تقاوم المحو
كنت قريبا من الارض لدرجة لم أكن عليها سابقا ، ولا أشعر بجسدي، لكن انفي يعمل بصورة جيدة كأنه يحمل ذاكرة مستقلة عن ذاكرتي فقد استطعت ان اشم رائحة تراب تشّرب دمي ودماء اخرى اختلطت على الارض حتى صعب عليّ تمييزها، كما شممت رائحة عفونة بدت كخليط من روث دابة قديم ورذاذ بول مراهق تخيلت انه يحمل بندقية، وهناك ايضا رائحة بارود محترق، وبقايا خراء عجوز خمنت انها رحلت منذ أسابيع، وزيت سيارة ورائحة شواء وأعشاب نهرية، اضافة الى عطن جوارب الجنود الذي يرافقني منذ أشهر. وحدها رائحة "بسعاد" التي يمتزج فيها هيل وقرنفل واشياء سحرية اخرى هي القادرة على محو رائحة جوارب الجنود التي تداهمني باستمرار، حتى اذا كنت وحدي.
كنت اشعر ايضا بحرقة هائلة في حنجرتي وبتصلب عضلات رقبتي، واحدى عينيّ تغطيها ذبابة تمد خرطومها عميقا لتمص سائلا ما. لم أكن استطيع ان احرك اي جزء من جسدي الذي لم اره منذ يومين.
في اليوم الاول كان جسدي يبعد عني خمسة امتار او ستة، تغطيه اجساد اخرى من غير رؤوس. لم أر جسدي سابقا بهذه الوضعية. كان ظهري أعرض مما كنت أتصور، وكانت لي شامة على كتفي الايسر لم اعرف بها سابقا، ولم يكن غيري يجرؤ على ارتداء ساعته بيده اليمنى والا قال الجنود عنه كلاما سيئا . لو لم تكن ساعتي التي أضعها في يدي اليمنى موجودة لما تعرفت على جسدي وسط كومة الاجساد المشوهة. بعدها بساعات رأيت الساعة في يد شخص يمكنني ان اسميه "حرملة" .كان يحمل سكينا طويلة ويدور بها بفخر ويلف حول ظهره زنّارا اشبه بأحزمة القصابين.
حاولت ان اتحرك قليلا لكني وجدت نفسي ملتصقا بالأرض بخليط من الدم المتخثر والطين، وجدت بجانبي بعض الرؤوس التي لم يكن الكثير منها مبتسما، كانوا مغمضي العيون كمجاذيب اسكرهم وجد درويش مر صدفة ومضى لشأنه، ملامحهم كانت حيادية كوجه صديق قديم تسنم منصبا حكوميا كبيرا تلتقي به صدفة، فيدير وجهه كي لا تطلب منه ان يساعدك في العثور على وظيفة، وجامدة لا تنم عن طيش اعتاده الجنود، ولا عن تبرم تأخر الإجازة، ولا ملامح تُنبئ عن رغبات مكبوتة.
طوال اليومين الماضيين حاولت ان استوعب فكرة ابتعاد رأسي عن جسدي كل هذه المسافة محاولا ان احظى بنظرة لجيب قميصي الأيمن لأتأكد من وجود هاتفي النقال وراتبي الذي استلمته قبل ايام. اما اليوم فقد اختفى الجسد تماما بعد ان قامت جرافة بدفع الاجساد الآدمية الى حفرة قريبة وكان لسقوط الجثث فوق بعضها البعض صوت يشبه ضرب الأكف على الصدور في لطمية يقرأها رادود مبتدئ ، كيف ستدبر "بسعاد" أمورها هذا الشهر؟ وهل سيقتنع صاحب البيت بأن راتبي سرقه أحدهم؟ او ان جسدي هو الذي سرق الراتب وفر به الى الحفرة الكبيرة؟ .
بهاتف نقال كان أحدهم يصور مشهدا آخر يجري بسرعة قبل حلول الظلام. اصحاب السكاكين الطويلة يطلقون النار على رؤوس اخرى ويدفعون حامليها الى ماتبين انه النهر، كانوا مستعجلين لدرجة لا يمكنهم معها التراجع او التفكير فيما يفعلون.
ابتعدت الجرافة لتردم حفرة اخرى فبقي مشهد واحد امام عيني، هو رصيف الشارع المؤدي الى ............مصبوغ بألوان اشد انضباطا من خطوات نائب عريف في الجيش ابيض وأصفر، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر ، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر، ابيض وأصفر......... صفرته تشع في الجو كبريق منائر إمام طعين. او ولي مغدور. ولازالت الذبابة اللعينة تصر على دخول عيني للنفاذ الى رأسي بحثا عن حل لتساؤل ربما داهمها فجأة. في اليومين الماضيين كانت كومة الاجساد المقطوعة الرؤوس تحمل بعض التسلية ، فقد تعرفت فيها الى اجساد اصدقاء كانوا زملاء لي في المعسكر، عباس من الديوانية، ومنتظر من سوق الشيوخ، وسجاد من خان النص وصفاء من.........صفاء اسم حيادي لا اعرف مدينته. كيف اصبح اقرب اصدقائي؟ الاسماء الحيادية مقلقة، مثل بعض الاجساد التي لم اتمكن من معرفتها بدون رؤية رؤوسها والتفرس في الوجوه الملتصقة بها، خصوصا ان الجميع استبدلوا بزاتهم العسكرية المألوفة بالثياب المدنية التي جاءوا بها من قراهم ومدنهم البعيدة. تعرفت ايضا الى طباخ السرية من كرشه الضخم والى ضابط صغير كان يصر على ان ننسحب ونستبدل ثيابنا العسكرية بثياب المدنيين لننجو. لكن الجرافة اللعينة غيّرت المنظر تماما وأنهت هذه التسلية.
لم يكسر حدة منظر الرصيف الذاهب الى .............. سوى خنفساء جاء بها المساء لتسلي وحدتي، كانت الخنفساء تنقلب على ظهرها ثم تأخذ بضرب ارجلها الكثيرة في الفراغ محاولة استعادة توازنها. وكلما نجحت في الوقوف على ارجلها كانت ترتكب خطأ ما لتعود مرة اخرى لتضرب الفراغ بأرجلها الكثيرة.
في الليل كان هناك ثلاثة كلاب تحاول نبش الأجساد، سمعت طقطقة عظام احدهم في فم كلب أعور وسمعت صوت تمزق قميص، وجنرال بلثغة مميزة يدافع عن نفسه بحماس في التلفاز القريب، يقول ان الجنود هم الذين عصوا الاوامر. اصوات توسل، الله يخلي اولادك، إنجب، أيش تبي الحين، انا يتيم، كفره، استغاثات، ياعلي، بص أُودامك، نذبحوه ولا ما نذبوحوش، يُبَه كص راسه ولا يهمِك، لا باس باش نقتلوه، حرملة كان يطلق النار من بندقية روسية دون ان يتمعن كثيرا في وجوه أهدافه فيما كان حرملة آخر يردد الله أكبر، الله اكبر ، وبين "الله اكبر" و"الله اكبر" كان يهوي رأس تتبعه "تبارك الله" و"لله الحمد والمنه", وأصوات لاغطة أخرى تغطي آخر "الله اكبر" خافتة تلتصق بشفتي الرأس المقطوع. أحد حاملي السكاكين الطويلة كان يلتقط صورا لكل "الله اكبر" ولوجوهنا وللجرافة المنهمكة بدفن الاجساد في الحفرة.
عندما قطع اصحاب السكاكين الطويلة رأسي كان المصور نفسه موجودا ايضا وكان حرملة يقف بشماتة وكنت مبتسما ابتسامة بليدة حينما توغلت السكين في رقبتي. وتذكرت شعور البلل الذي اصاب اعلى صدري وقميصي بعد دفقة غزيرة من الدم الساخن. والمصور وصاحب السكين ينشدان نشيدا بدويا نحاسي النبرات. ينافس في العلو صوت الجنرال وهو يدافع عن نفسه. تخيلت مذيعا سليط اللسان يحملني مثل سندانة دامية ويضعني فوق طاولة حوار تلفزيوني طويل لأضع عيني في عين الجنرال لنلعب لعبة تحدي النظرات لأرى من يجبر خصمه على ان يغض بصره في النهاية.
شعرت الذبابة بنظرة التحدي فغادرت عيني اليسرى ، وكنت سعيدا للحظات لأنها طارت بعيدا لتدخل في انف كامل مطشر، عدد الرشاشة الـ"بي كي سي"، لتطير بعدها محاولة ان تجد لها طريقا في شوارب طاهر عبد الزهرة الذي خاض سبعين حربا ولم يمت. عوت كلاب وبنات آوى ودبت خنافس وثعابين ونمل و عظاءات عابثة الرغبات امام عيني بعد ان اجتذبتها رائحة الدم. وفي الجو تلاوة لسورة الرحمن يتلوها قارئ بلكنة مخيفة. خشيت على صديقتي الخنفساء المقلوبة على ظهرها من زحف الهوام الليلي هذا. حاولت ان أنفخ عليها لأساعدها ، نفخت كل ما تمكنت الحصول عليه من هواء فأخذت الخنفساء تتدحرج حتى انتصبت واقفة. فشعرت بانتصار صغير، وحرملة، او شقيقه، او آخر يشبهه، يجري اختبارات صعبة للجنود الاحياء لمعرفة مدنهم وعشائرهم وطوائفهم.
دبت الخنفساء على شفتي واستمرت تدور حولي بغرابة رغم عيون مخلوقات الليل التي تترصدها. كانت تستلقي على ظهرها ثم تتدحرج لتدور حولي مرة اخرى. شعرت ان الحشرة تحاول ان توصل لي رسالة مشفرة من نوع ما. لكن احد اصحاب السكاكين الطويلة سحقها بقدمه فماتت رسالتها معها. أردت بدوري ان احملها رسالة أفكر في عباراتها منذ ثلاثة ايام، أردت ان اوصيها بـ"بسعاد".
حرملة آخر يدفع برجله كتلا كانت تتدحرج امامه لتصطف بالقرب مني، اقربها كان رأسا له بروفايل حاد غامض لم استطع تبين هويته.
خيل إلي إني سمعت أنينا يشبه الضحك، او صوتا ثالثا يجمعهما مع بكاء دفين مع مسحة من الانكسار المر الذي يصطحب معه نواحا قديما مقيما في رئة عليلة. او شيئا قريبا من هذه الاوصاف المعقدة. لا استطيع ان اصف الصوت الان، لكني استطعت تبين مصدر الصوت، ذلك الصوت كان في داخلي، صوتا غريبا غامضا مشحونا باليأس والعزلة والشعور بالخذلان.ن ن ن يييييي آآآآآه نغمة تجمع كل هذه الحروف معا، صوتا يترك في الروح احساسا يشبه احساس ذئب كثرت خساراته وصار متيقنا من دنو الموت
ن ن ن يييييي آآآآآه ...في لحظة ما شعرت ان طائرا عملاقا بدأ يخرج من رأسي شيئا فشيئا ويقف على مقربة مني ويهمس بأذني بحرف نون طويل ومكتوم محمل بالخيبة ن ن ن يييييي آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
دار عقلي مثل خلاط عصير وتناثرت ألاف الحكايات عن طائر طويل الرقبة يتغذى على الفراريج ويخطف الصيصان ويشوه الماشية ويبقر بطون الماعز وينثر البثور والقوباء على اذرع الاطفال ويصنع دمامل تحت آباطهم لا علاج منها سوى خراء الارانب، او مسحوق نبتة ذكر الكلب المجفف المخلوط بالزرقيون.
كان الطائر يحاول ان يهمس في أذني بالمزيد من حرف النون الذي يستطيل ويتضخم ليغطي كل ما حولي من اشياء لم تتعد طريقا بعيدا إلتهم الليل الوان رصيفه، وبروفايل لرأس مقطوع ذي وجه حيادي تماما، وطائر بعينين كبيرتين ينقل بصره بيني وبين طائر آخر بدأ يخرج من رأس صاحب البروفايل الحيادي، كان هناك ايضا شفتان غليظتان مفخختان بالبوتكس تقرآن خبرا يعاد منذ الصباح عبر شاشة نزقة، رتبة عسكرية بلثغة لعينة تحاول ان تقول ان صاحبها غير مسؤول عما يجري، بدلة ايطالية زرقاء تختبئ عن فضول المصورين، دشداشة تسحب بضعة جنود لتطلق سراحهم وأخرى تسحب آخرين لتهبهم لسكين طويلة، كرش ينتفض مطالبا بالثأر على الشاشة، ورباط عنق يحاول ان يسخف الامر ويخفيه ويقول انه فيلم تلفزيوني وليست عملية ذبح جنود، عمامة تهتز معلنة حيرتها، حذاء نسائي يطرق المرمر اللامع ، وغطاء راس أمرأة جنوبية يحلق في فضاء مشهد سريالي محرج ينقله التلفزيون مباشرة امام شوارب راعشة وجباه معروقة من الحر وليس من شيء آخر. رتبة عسكرية اخرى تتحدث بحماس فيما كانت غترة تهمس في اذن لثام داكن لتتحرك لحية كثة للإجهاز على ماتبقى من رؤوس.
ن ن ن ننننه، قلتها بسرعة وبصوت خفيض محاولا تقليد الطائر، فراق لي سماع صوتي فكررت الامر محاولا ان يكون حرف النون اطول في المرة الرابعة لمحت إلتماعة في عين الرأس صاحب البروفايل المتخشب جعلته اكثر ألفة. ن ن ن نننننننن يييييي آآآآآه كررت الصوت ، في المرة السابعة سمعت حرف نون ينطلق من احد الرؤوس القريبة ثم تكاثرت الطيور واسعة العيون. اذهلتني المفاجئة فبحثت بعيني عن الخنفساء محاولا ان اشركها في اكتشافي. فتذكرت انها ماتت وهي تتدحرج، ففهمت على الفور رسالتها، وخطرت لي فكرة تقليدها وحاولت ان أ..تـ..د..حـ..ر..ج.
تدحرجت قليلا فتبعتني الرؤوس الاخرى. تدحرجت بصورة اسرع فلحقت بنا الطيور كبيرة العيون وصفقت بأجنحتها وطارت. بعد عدة محاولات في الدحرجة سرت بين الرؤوس المقطوعة فكرة البحث عن رماح نتخذها اجسادا بدل اجسادنا في مكان اخر. وبعد لحظات كان هناك سرب غريب من الطيور يحلق في السماء متبوعا بسرب آخر من الرؤوس المقطوعة المحلقة.
روايات نساء حي الشهداء
- زوجة صاحب المقهى روت ان العجوز بسعاد لم تكن تبكي بل كانت تسأل فقط، سألت صاحب المقهى عن اخبار جديدة فردد على مسامعها مرة اخرى ان الحكومة تقول ان مابثه التلفزيون ليس سوى فلم ولا يوجد جنود مذبوحون. عمي اعلام كله كذب.
- زوجة الخباز قالت ان بسعاد سألت زوجها ايضا عن اخبار جديدة فقال إنه لم يسمع شيئا ، لكن زوجة الخباز نقلت عن زوجها ملاحظة لم يصدقها أحد، فقد ذكر الخباز انه شاهد حميدة وهي تمشي على اطراف اصابعها وكانت توشك ان تطير
-ام مسلم نقلت رواية روتها لها حميدة شخصيا حيث قالت: في هذه المرة كنت مضطرة للخروج للبحث عن صوت اخر غير هذا الصوت الذي يخترق اذني منذ ثلاثة ايام، في البداية كان صوت انين باهت لا يكاد يتبينه سوى الاشخاص الذين اعتادوا الوحدة. ثم تحول الصوت الى نعيب خافت غريب محمل بالوحشة. ولم تكمل باقي الحكاية فقد اختفت.
- تداولت نساء الحي في اختفاء بسعاد ثم اتفقن على رواية رجحت لديهن تقول ان انها لم تعرف للبكاء طريقا وكانت تصبر نفسها بترديد جملة " ماذا اقول لفاطمة الزهراء اذا بكيت على ابني ولم ابك على إبنها" لكنها حين سمعت احد الرواديد العاشورائيين ذات يوم وهو يقرأ "يمه اذكريني من تمر زفة شباب" فشحطت روحها ونبتت لها اجنحة وتحولت الى بومة.
روايات رجال حي الشهداء
-اهالي الطليعة رووا قصة رجل مقطوع الرأس يتمشى على الطريق السريع من تقاطع سوق الشيوخ ويعبر الجسر وصولا الى حي الفداء، وأكد ذلك اثنان من الزعيلات وابو جراح الكويتي.
-اهالي الثورة شاهدوا جنديا دون رأس يدور في الاحياء ينام في بستان زاير حنون ويقطع ليليا المسافة بين الثورة والمنصورية بسرعة لافتة للانتباه.
- روى شرطي من حراس المصرف العقاري عن مشاهدته لرأس محمول على رمح قرب بيت مجيد طوبيّه تخيل انه من بقايا موكب الحدادين لكنه فوجئ بأن الرأس كان يئن ويطرف بعينيه، وروى احد العاملين في مركز الدفاع المدني في سومر شيئا مشابها.
- مخبولة اسمها "أم يدّي" ثرثرت كثيرا عن رؤوس طائرة ولم يصدقها احد. فيما بعد اصبحت هذه الرواية مؤكدة بعد ان رواها عدد من اهالي حي التنك واهالي الشوفه والعكر والعرجه. بل ان اولاد سيد طالب اصبحوا اكثر المقتنعين بهذه القصة لكثرة ما سمعوها من رواد مطعمهم.
-قرر المسرحي علي عبد النبي الزيدي وجماعة من مريديه الشكوى للفرات كل مساء في طقس مسرحي ينتهي بنثر بذور الشعير في النهر ، وهدته آخر نوبات جنونه الى اختراع امرأة تهدد الرب بالامتناع عن الصلاة والصيام ان لم يمنع موت الابناء في الحروب. فيما كان الشاعر علي الشيال يوشوش كل بئر يعثر عليه خوف ان يبوح بسر رؤيته لعيون الموتى كل ليلة.
-آل زويد الذين يسكنون حي أريدو تحدثوا عن قصة جندي مقطوع الرأس يظهر كل ليلة ووصل خبر القصة الى "البطحة". فتناقلها ابناء عشائر ال غزّي والبدور برمتهم. ثم تولى كل بدوي من آل رُفيع مهمة نقل القصة بطريقته في البادية، وتطورت القصة كثيرا في المسامرات الليلية لدرجة ان القصة التي تروى في "بصية" تختلف عن اختها التي تروى في "عبلة والحصان" و"الكطيعة" بل ان القصص التي تروى في "الرقعي" و"المطلاع " وراء الحدود لا تمت بصلة الى القصة الاصل.
-ام وجدان روت لكل اهالي الصالحية تقريبا عن رؤيتها لسبعة شبان يرتدون ثياب المشاية يسيرون في شارع العروبة جيئة وذهابا بلا رؤوس.
-اهالي "الاربعمية دار" في مدينة الصدر كلهم تقريبا يعلمون بقصة الفارس المقطوع الرأس، الذي شوهد ايضا بين نزلة العمارات الثانية ومستوصف الاسكان الصناعي.
- نقل مقربون من الشيخ جعفر الابراهيمي والسيد محمد الصافي بأنهما كانا يشعران بأنهما كلما طالبوا مستمعيهم بأن يئنوا في التعزيات الحسينية في قفلة بيت الأبوذيه كان صوت الانين اكبر من صوت الموجودين وإن هناك جمهورا اخر يواصل الانين حتى بعد انتهاء المجلس. ولم يكن يحدث ذلك في قفلة بيت النصّاري او الملائي او الزهيري. بل أكد ذلك الملّا باسم الكربلائي شخصيا.
- روى الكاتب حسن عبد الرزاق ان تقليدا جديدا بدأ يظهر هذا العام في محرم هو اقامة اطفال الناصرية لتشابيه من نوع جديد تقوم على شد وثاق الاطفال الذين يمثلون دور ابناء الحسين وجعلهم يقرفصون ثم يقوم الاطفال الذين يمثلون ادوار الشمر وحرملة بقطع رؤوسهم وإلقاء اجسادهم في حفرة.
-اما الناقد علي شبيب ورد فقد كتب في جريدة "عكد الهوى" مقالا قال فيه ان ذائقة المجتمع تعتمد مشغلا تتحرك أدواته ضمن انزياح بصري ذهني ، لكتابة نص التأويل النقدي وإعادة صياغة التأويل الجديد عبر عملية مخاض عسير تشكل من خلالها نصوص تأويلية وفق كولاج (حسي / ذهني ) لنصوص مقترحة، ويعطي الناقد مثالا على ذلك إن اهالي الناصرية اخذوا يعيدون تمثيل قصة مقتل إولاد مسلم بن عقيل مع تغيير طفيف فقد اخذوا يمثلون عملية اطلاق النار على رؤوسهم بالمسدس قبل رميهم في الفرات، بدلا عن قطع رؤوسهم بالسيف.
-اهالي الموحية، حيث تغرب الشمس، يعرفون السر اكثر من غيرهم ، فالغروب عندهم يعني خروج عشرات الرؤوس المقطوعة والطيور الكبيرة العيون من بين تدرجات اللون الأحمر والبرتقالي لتطير بإتجاه المباني الحكومية وهي تطلق ذلك الانين اليائس ن ن ن يييييي آآآآآه لكنها تضيع احيانا في ازقة المدينة، وقد روت فتاة ان الرؤوس تعد لتظاهرة امام مبنى المحافظة في محرم القادم.
انتهى
* لا تبحثوا عن اسماء الاشخاص الواردة في هذه القصة فربما يكون بعضهم ميتا. فلا تزعجوا الموتى بفضولكم.
* لاتسألوا عن الاماكن الواردة في هذه القصة .فبعد حروب الخرائط الجديدة التي استلم مقاولة تنفيذها اصحاب السواطير. لم اعد واثقا من عائدية اي مكان