النبأ قد انتشر واستعدّت المدينة، وفرشت الطرقات بأنواع الزهور، ورُفعت الرايات على السطوح، وخُضَّب وجه الأصيل بلون الفرح، وتضاءل المكان الفسيح بالبشر.. وبلمعان العيون المنتظرة بانبهار، تساقطت رشقات المطر بانْهمار رشيق مُتموّج ثم تحول الى رذاذ خفيف، لتتحول كل المدينة الى زجاجة عطر تفوح بعَبق الزيارة وتستظلُّ بظلّ الولاية.. وكلما تقادم الزمن ازداد الناس شوقاً لرؤيته وتضاعفت أعداد المدينة في انتظاره، وأصبحت الحشود تأتي من المدن المجاورة بغية أن ترى سماحته عن كثب والتبرك بوجهه السمح. بل وحتى أبناء السُنّة، أولئك الذين لا تمتدّ لهم صلة بالشيعة كانوا يستشعرون أهمية هذه الزيارة العظيمة لأكبر رجل دين في حوزة النجف الاشرف، وإن لم تكن معرفتهم به كافية ولكنهم يعدونه الرجل المبارك للمدينة وأهلها، وأراضيها إذ حالفها التوفيق الإلهي أن يحلّ عليها ضيفاً بقامة دينية شيعية عريقة لعدّة أيام..
وتقدّم جميع علمائها وأغنيائها – شيعة وسنة- والقدامى في المدينة ممن لهم ذكريات تراود أذهانهم عن قدوم ابن مدينتهم بعد فراق طويل. فالطفل الذي حُكِم عليه بالتهجير والنفي يعود اليوم وهو في أعلى مراتب العلم.. وجيل عقب جيل، البعض منهم كان يتخيله بصورة إمام، وبعض كان يتقن معرفته ورسم على شفتيه حلاوة ابتسامة رجل دين منفي لسنوات عديدة وهو ابن المكان منذ كان طفلاً مميزاً بين أقرانه. كان أشبه بالجوهرة النفيسة إذا ما وُضعت في مكان مناسب يعمُّ النور والضياء الكافي، تبهر العيون وتتلألأ وكأن شعاعها يسطع من مكنونها. ولكن هذه الجوهرة نُفيت الى مكان بعيد، فظلت المدينة مُظلمة لأعوام.. وأينما كان يحل وجوده تتجلى آثاره ويبهر القلوب والأعين. ها هو اليوم على أعتاب المدينة، ومن منتاه ابتسم الابتسامة ذاتها التي يعرفها القدامى ببشاشة الوجه الذي يشبه القمر، رأى بعينيه التي تتلألأ كالنجوم وتومض وتتدلى من وجهه، تريد بوميضها الدافق المفضض أن تخترق الحشود المنتظرة بحثاً عن غايتها وتحقيق هدفها وتوصيل رسالتها. لكن عيون الجموع تزخر بنظرات الفرحة والسعادة التي تملأ بوابة المدينة وساحتها، وهي تطارده الى جانب التهليل، والتكبير، والتعجيل بالظهور، والصلوات على النبي وآله - صلوات الله عليه وآله-.
وقف بينهم، وهو يشعر بأن رسالته الصادقة تثير فيه السعادة من يمسك بإيمانه ويقينه بالأشياء البعيدة من غير أن تلامس قلبه رجفة شك، فلقد كان يعرف قيمة مهمّته ومدى صدقها، وغالباً ما كانت ذاكرته عن المدينة تستدعي صور الناس وتاريخهم وأفعالهم من دون أن يشير إليها لتضعه في واقع الحال. ولكي لا يكون وجوده مليئاً بالإحراجات، فأنه يحتاج لشيء من الذي يلوّن عيون الناس ويحرّك أفئدتهم.. فذهب الى ساحة المدينة، وهو يحييهم جميعاً ويدعوهم الى إقامة الصلاة في المسجد بإمامته، وبعد انتهاء مراسيم الصلاة، أخذ كبار المدينة يدعونه للإقامة في دورهم العامرة والزاخرة بالثراء، فرفض.. وظل يرفض كل الدعوات من الأصدقاء القدامى والفقراء، ورفض الإقامة في المسجد او في أي دار من دور المدينة التي شرعت كل أبوابها لاستضافته وإسداء الخدمة له. وبعد توقف سيل الدعوات بادر بالبحث عن صالح اليتيم.. فقال: ابحثوا في المدينة باسرها عن "صالح" ..
وعجز الكثير في الوصول إلى صالح اليتيم، وشاع بالمدينة أن سماحته يبحث ـ من كل ولا بد ـ عن هذا الشخص الذي لا أثر له في المدينة برمّتها.. وكل من اسمه صالح جاء الى المسجد ولم يعرفه سماحته، وتأخر الوقت والبحث سارٍ عن صالح.. حتى نطق أحدهم أن هناك فتىً اسمه صالح العفيف، أو اليتيم اللقبان له.. يعمل عند بائع اللحم "طاهر القصاب" وهو فتى معدم الحال والمال ويسكن مع زوجته منذ سنين ولا يعرف أحد شيئاً عنهما. قال سماحته: اجلبوه لي.
وجاء صالح وما أن رآه سماحته حتى قال له: أنت صالح ابن جار الله المهدي.[/B]
وفي صلاة الليل وقُبيل صلاة الصبح.. وغالباً ما كان صالح اليتيم يستيقظ قبل سماحته ويُهيئ له مكان صلاة الليل، بل كان صالح يسبقه بها، وحين يختم صلاته يصلي أربع ركعات. "الركعتان الأولى والثانية يهديهما الى والديه، ويسأل الله صون الأمانة التي في عنقهِ.. كان يقرأ بصوت خفيض سورة الحمد، ثم سبع مرات من سورة التوحيد، أما التسبيحات ففي الركوع والسجود سبع مرات أيضاً. وأما الركعتان الثالثة والرابعة، حيث يقرأ آية (إياك نعبد وإياك نستعين) في سورة الحمد مائة مرة وتسبيحات الركوع والسجود سبع مرّات. ومن ثمة يسبّح تسبيحة السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، ويسجد بعدها ويقول (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد) مائة مرة*. ومن ثم يتضرع بقلبٍ كسير "ألهي قد رفع الظالم إليك كفّيه راجياً لما لديك فلا تخيبهُ في رحمتك.. من فضلك). ثم يجزع بصوتٍ عالٍ فمن يسمعه يخاله قد فقد روحه.. فيختم تضرعه (فيا سوءتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أفمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط)...
كان سماحته يراقبه عن كثب طيلة الليالي الثلاث، فقال له:
- صالح، من علمك هذه الصلاة..؟
- علمني شاب يشتري من "طاهر القصاب" كميات كبيرة من اللحم.
- هل تصف لي ذلك الشاب يا صالح..
- هو شاب في سن الثلاثين، طلعته كالبدر، تحبّه قبل أن تكلمه، وبجانبه شيخ هرم يقوم على خدمته. مرة كنت في غاية الحزن، ومشرفاً على قتل نفسي رغم إيماني بالله تعالى.. وقتها وقف أمامي ومسّد على رأسي وقال لي: صلّ هذه الصلاة عقب كل صلاة واجبة سيزول همّك.. ومنذ ان مسك رأسي لم يبقَ بي ألم في رأسي وشُفي قلبي الموجوع.. بل سُررت غاية السرور لأنني لم أغضب الله (عز وجل) وبنفس الوقت حفرت الصلاة في قلبي وغيّرت الكثير من أطباعي الداخلية، وتعاملي مع زوجتي والناس.. رغم أن عمل القصاب يحجر ويقسي القلب لكثرة رؤية الدم.. وها أنا ومنذ خمس سنوات أصليها قبل صلاة الفجر، وتأتي صورة ذلك الشاب في عقلي، فأراه يبتسم لي وأنا أنشرح بالفرح، فأدقق النظر به أراه يرتدي ملابس بيضاء ناصعة، ويضع على رأسه عمامة خضراء، ووجهه النوراني جذّاب وبهي وعلى وجنته الغرّاء خال أضاف على ملامحه جمالاً وروعة، وطلعته ذو هيبة عظيمة.. أُقبل إليه مسرعاً كي احتضنه، ولكنه ينادي عليَّ: يا صالح العفيف انهض وايقظ زوجتك للصلاة، وأخرج لعملك.. وكالطفل الصغير أستجيب له وأقول له: سمعاً وطاعةً.. وتكررت هذه الرؤيا دون انقطاع.
- إذن يا صالح العفيف، قُصَّ أنت قصتك لي.. أم تريد أنا من يقصّها عليك.
- أية قصة يا سيدي؟!
- أتعرف ذلك الشاب؟
-لا، وكم تمنّيت أن أراه مرة أخرى، وقد انتظرته طويلاً، ولم يعد لشراء اللحم.. ولم يمر من طريق، ولم أشاهده في مسجد أو سوق..
- صالح، قُص يا بني همك وسرّك مع زوجتك..؟!.
وبدأ يسرد عليه قصته بعد أن غلبته العبرات، ونوبة من البكاء، وكان الدمع ينهمر مدراراً من مآقيه:
سيِّدي، كنت الفتى الوحيد لأبوين كبيرين في السن، أمي ضريرة لا تبرح البيت هذا نفسه، وأبي في الشتاء يبيع الحطب الذي يجلبه من بساتين خارج المدينة.. وفي الصيف كان يسقي العطاشى باسم الإمام الحسين (عليه السلام) فكان (رحمه الله) عاشقاً لزيارته وخدمته.. أما أنا فقد عملت صبياً عند ( طاهر القصاب) وقد أحسن إليَّ خاصة بعد ان تُوفّي أبي ولحقته بعد فترة أمي.. المشكلة كانت ليست في خدمة أمي الضريرة بعد وفاة أبي، وما مررت به من صعوبة بين خدمتها وعملي في القصابة.. بدأ همي الكبير حين أصبحت يتيماً أدبر أمري وأُقيم فرائضي وأنا سعيد بإيماني وعملي.. حتى جاءت تلك الظهيرة حين قدمت إلى محّال القصابة امرأة مع ابنتها وتحدثت مع (طاهر القصاب)، وبعدها طلب مني الحضور إلى بيته بعد العمل.. وهنا تفاجأت بعرضه عليّ الزواج من ابنة تلك المرأة وتحمّله كل التكاليف.. وفعلاً تم الزواج وكنت في غاية الفرح والسرور.. وجاءت الصدمة الكبرى في حياتي والتي جعلتني افقد أعصابي وهممت إلى قتلها ولكن صوتاً في داخلي جعلني أصبر واستمع إليها وأقرّر إبقاءها على ذمتي شرط أن لا أمسّها حتى يأتي ذلك الملعون من أقاربها والذي فضّ بكارتها ورحل الى مكان مجهول، وجعلها مصيبة على شخص فقير مثلي.. إن قتلتها شاع الخبر، وإن طلقتها فُضحت. وكانت المسكينة صريحة معي وجوّزت لي قتلها او تركها شرط ان لا يعرف أبوها وأخوتها بالفضيحة؛ لأنهم من أعيان المدينة..
- كيف قبل أهلها تزويجك بها وانت فقير..؟
- كان دور أمّها كبيراً، وتدبيرها حكيم بمساعدة (طاهر القصّاب).. وكان ما كان..؟! فقد حفظت السرّ وسترتها ولهذه الساعة أنتظر قدوم مغتصبها كي أعيد شرفها..
هنا أطرق سماحته برأسه على حجره، وبكى بشدة، ومن ثم رفع عينيه إليه وقال:
- يا صالح قد جئتُ إليك بسبب هذا الأمر الذي يعدّ نعمة من نعم الله التي يسبغها على عبده المؤمن أن يصل الى هذه الدرجات العالية والكرامات والتوفيقات والعنايات والألطاف الإلهية حيث يكون مورد اهتمام من قبل صاحب الأمر والزمان (عجّل الله فرجه القريب).. واليوم هو ختام أوجاعك، وبداية مشوارك أرسل بقدوم زوجتك فهي من هذه الساعة حليلتك وقد رضا الله عنكما بدعاء المهدي المنتظر من أجل أن تمحو صفحات الماضي وتُسعد لحياة أفضل.
وفي هذه الأثناء صدح صوت المؤذن لصلاة الصبح، وهمَّ الاثنان للخروج الى المسجد للالتحاق بالمصلين وأداء الصلاة بإمامة سماحته.. وقبل دخول المسجد.. توقف سماحته واستدار نحو صالح اليتيم ووضع اصبعه على فمه وقال:
وتقدّم جميع علمائها وأغنيائها – شيعة وسنة- والقدامى في المدينة ممن لهم ذكريات تراود أذهانهم عن قدوم ابن مدينتهم بعد فراق طويل. فالطفل الذي حُكِم عليه بالتهجير والنفي يعود اليوم وهو في أعلى مراتب العلم.. وجيل عقب جيل، البعض منهم كان يتخيله بصورة إمام، وبعض كان يتقن معرفته ورسم على شفتيه حلاوة ابتسامة رجل دين منفي لسنوات عديدة وهو ابن المكان منذ كان طفلاً مميزاً بين أقرانه. كان أشبه بالجوهرة النفيسة إذا ما وُضعت في مكان مناسب يعمُّ النور والضياء الكافي، تبهر العيون وتتلألأ وكأن شعاعها يسطع من مكنونها. ولكن هذه الجوهرة نُفيت الى مكان بعيد، فظلت المدينة مُظلمة لأعوام.. وأينما كان يحل وجوده تتجلى آثاره ويبهر القلوب والأعين. ها هو اليوم على أعتاب المدينة، ومن منتاه ابتسم الابتسامة ذاتها التي يعرفها القدامى ببشاشة الوجه الذي يشبه القمر، رأى بعينيه التي تتلألأ كالنجوم وتومض وتتدلى من وجهه، تريد بوميضها الدافق المفضض أن تخترق الحشود المنتظرة بحثاً عن غايتها وتحقيق هدفها وتوصيل رسالتها. لكن عيون الجموع تزخر بنظرات الفرحة والسعادة التي تملأ بوابة المدينة وساحتها، وهي تطارده الى جانب التهليل، والتكبير، والتعجيل بالظهور، والصلوات على النبي وآله - صلوات الله عليه وآله-.
وقف بينهم، وهو يشعر بأن رسالته الصادقة تثير فيه السعادة من يمسك بإيمانه ويقينه بالأشياء البعيدة من غير أن تلامس قلبه رجفة شك، فلقد كان يعرف قيمة مهمّته ومدى صدقها، وغالباً ما كانت ذاكرته عن المدينة تستدعي صور الناس وتاريخهم وأفعالهم من دون أن يشير إليها لتضعه في واقع الحال. ولكي لا يكون وجوده مليئاً بالإحراجات، فأنه يحتاج لشيء من الذي يلوّن عيون الناس ويحرّك أفئدتهم.. فذهب الى ساحة المدينة، وهو يحييهم جميعاً ويدعوهم الى إقامة الصلاة في المسجد بإمامته، وبعد انتهاء مراسيم الصلاة، أخذ كبار المدينة يدعونه للإقامة في دورهم العامرة والزاخرة بالثراء، فرفض.. وظل يرفض كل الدعوات من الأصدقاء القدامى والفقراء، ورفض الإقامة في المسجد او في أي دار من دور المدينة التي شرعت كل أبوابها لاستضافته وإسداء الخدمة له. وبعد توقف سيل الدعوات بادر بالبحث عن صالح اليتيم.. فقال: ابحثوا في المدينة باسرها عن "صالح" ..
وعجز الكثير في الوصول إلى صالح اليتيم، وشاع بالمدينة أن سماحته يبحث ـ من كل ولا بد ـ عن هذا الشخص الذي لا أثر له في المدينة برمّتها.. وكل من اسمه صالح جاء الى المسجد ولم يعرفه سماحته، وتأخر الوقت والبحث سارٍ عن صالح.. حتى نطق أحدهم أن هناك فتىً اسمه صالح العفيف، أو اليتيم اللقبان له.. يعمل عند بائع اللحم "طاهر القصاب" وهو فتى معدم الحال والمال ويسكن مع زوجته منذ سنين ولا يعرف أحد شيئاً عنهما. قال سماحته: اجلبوه لي.
وجاء صالح وما أن رآه سماحته حتى قال له: أنت صالح ابن جار الله المهدي.[/B]
- نعم مولانا، لا أحد يعرف اسمي في هذه المدينة، منذ أن جئت إليها.. يعرفونني بصالح اليتيم، وواحد فقط في هذه المدينة يُطلق عليّ صالح العفيف..
- يا صالح، هل تقبلني ضيفاً في دارك، لحين رحيلي عن المدينة..؟
- سأكون خادمك، ولكن بيتي عبارة عن غرفة واحدة وبناءه قديم وأرضه رطبة ولا تدخله الشمس.. وفوق كل ذلك زوجتي معي، وأنت لن ترتاح في بيتي أمام بيوت كل وجهاء المدينة.
- صالح، أليس لزوجتك أهل..؟
- نعم، لديها أمها وأبوها وأخوتها، وأقرباؤها يملؤون المدينة وأغلبهم من وجهائها، ولكن لا علاقة لنا بهم ألا بحدود رؤية أمها وأبيها...
- أرسلها إذن إلى بيت أهلها معزّزة مكرّمة ولن تندم على استضافتي.
وفي صلاة الليل وقُبيل صلاة الصبح.. وغالباً ما كان صالح اليتيم يستيقظ قبل سماحته ويُهيئ له مكان صلاة الليل، بل كان صالح يسبقه بها، وحين يختم صلاته يصلي أربع ركعات. "الركعتان الأولى والثانية يهديهما الى والديه، ويسأل الله صون الأمانة التي في عنقهِ.. كان يقرأ بصوت خفيض سورة الحمد، ثم سبع مرات من سورة التوحيد، أما التسبيحات ففي الركوع والسجود سبع مرات أيضاً. وأما الركعتان الثالثة والرابعة، حيث يقرأ آية (إياك نعبد وإياك نستعين) في سورة الحمد مائة مرة وتسبيحات الركوع والسجود سبع مرّات. ومن ثمة يسبّح تسبيحة السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، ويسجد بعدها ويقول (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد) مائة مرة*. ومن ثم يتضرع بقلبٍ كسير "ألهي قد رفع الظالم إليك كفّيه راجياً لما لديك فلا تخيبهُ في رحمتك.. من فضلك). ثم يجزع بصوتٍ عالٍ فمن يسمعه يخاله قد فقد روحه.. فيختم تضرعه (فيا سوءتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أفمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط)...
كان سماحته يراقبه عن كثب طيلة الليالي الثلاث، فقال له:
- صالح، من علمك هذه الصلاة..؟
- علمني شاب يشتري من "طاهر القصاب" كميات كبيرة من اللحم.
- هل تصف لي ذلك الشاب يا صالح..
- هو شاب في سن الثلاثين، طلعته كالبدر، تحبّه قبل أن تكلمه، وبجانبه شيخ هرم يقوم على خدمته. مرة كنت في غاية الحزن، ومشرفاً على قتل نفسي رغم إيماني بالله تعالى.. وقتها وقف أمامي ومسّد على رأسي وقال لي: صلّ هذه الصلاة عقب كل صلاة واجبة سيزول همّك.. ومنذ ان مسك رأسي لم يبقَ بي ألم في رأسي وشُفي قلبي الموجوع.. بل سُررت غاية السرور لأنني لم أغضب الله (عز وجل) وبنفس الوقت حفرت الصلاة في قلبي وغيّرت الكثير من أطباعي الداخلية، وتعاملي مع زوجتي والناس.. رغم أن عمل القصاب يحجر ويقسي القلب لكثرة رؤية الدم.. وها أنا ومنذ خمس سنوات أصليها قبل صلاة الفجر، وتأتي صورة ذلك الشاب في عقلي، فأراه يبتسم لي وأنا أنشرح بالفرح، فأدقق النظر به أراه يرتدي ملابس بيضاء ناصعة، ويضع على رأسه عمامة خضراء، ووجهه النوراني جذّاب وبهي وعلى وجنته الغرّاء خال أضاف على ملامحه جمالاً وروعة، وطلعته ذو هيبة عظيمة.. أُقبل إليه مسرعاً كي احتضنه، ولكنه ينادي عليَّ: يا صالح العفيف انهض وايقظ زوجتك للصلاة، وأخرج لعملك.. وكالطفل الصغير أستجيب له وأقول له: سمعاً وطاعةً.. وتكررت هذه الرؤيا دون انقطاع.
- إذن يا صالح العفيف، قُصَّ أنت قصتك لي.. أم تريد أنا من يقصّها عليك.
- أية قصة يا سيدي؟!
- أتعرف ذلك الشاب؟
-لا، وكم تمنّيت أن أراه مرة أخرى، وقد انتظرته طويلاً، ولم يعد لشراء اللحم.. ولم يمر من طريق، ولم أشاهده في مسجد أو سوق..
- صالح، قُص يا بني همك وسرّك مع زوجتك..؟!.
وبدأ يسرد عليه قصته بعد أن غلبته العبرات، ونوبة من البكاء، وكان الدمع ينهمر مدراراً من مآقيه:
سيِّدي، كنت الفتى الوحيد لأبوين كبيرين في السن، أمي ضريرة لا تبرح البيت هذا نفسه، وأبي في الشتاء يبيع الحطب الذي يجلبه من بساتين خارج المدينة.. وفي الصيف كان يسقي العطاشى باسم الإمام الحسين (عليه السلام) فكان (رحمه الله) عاشقاً لزيارته وخدمته.. أما أنا فقد عملت صبياً عند ( طاهر القصاب) وقد أحسن إليَّ خاصة بعد ان تُوفّي أبي ولحقته بعد فترة أمي.. المشكلة كانت ليست في خدمة أمي الضريرة بعد وفاة أبي، وما مررت به من صعوبة بين خدمتها وعملي في القصابة.. بدأ همي الكبير حين أصبحت يتيماً أدبر أمري وأُقيم فرائضي وأنا سعيد بإيماني وعملي.. حتى جاءت تلك الظهيرة حين قدمت إلى محّال القصابة امرأة مع ابنتها وتحدثت مع (طاهر القصاب)، وبعدها طلب مني الحضور إلى بيته بعد العمل.. وهنا تفاجأت بعرضه عليّ الزواج من ابنة تلك المرأة وتحمّله كل التكاليف.. وفعلاً تم الزواج وكنت في غاية الفرح والسرور.. وجاءت الصدمة الكبرى في حياتي والتي جعلتني افقد أعصابي وهممت إلى قتلها ولكن صوتاً في داخلي جعلني أصبر واستمع إليها وأقرّر إبقاءها على ذمتي شرط أن لا أمسّها حتى يأتي ذلك الملعون من أقاربها والذي فضّ بكارتها ورحل الى مكان مجهول، وجعلها مصيبة على شخص فقير مثلي.. إن قتلتها شاع الخبر، وإن طلقتها فُضحت. وكانت المسكينة صريحة معي وجوّزت لي قتلها او تركها شرط ان لا يعرف أبوها وأخوتها بالفضيحة؛ لأنهم من أعيان المدينة..
- كيف قبل أهلها تزويجك بها وانت فقير..؟
- كان دور أمّها كبيراً، وتدبيرها حكيم بمساعدة (طاهر القصّاب).. وكان ما كان..؟! فقد حفظت السرّ وسترتها ولهذه الساعة أنتظر قدوم مغتصبها كي أعيد شرفها..
هنا أطرق سماحته برأسه على حجره، وبكى بشدة، ومن ثم رفع عينيه إليه وقال:
- يا صالح قد جئتُ إليك بسبب هذا الأمر الذي يعدّ نعمة من نعم الله التي يسبغها على عبده المؤمن أن يصل الى هذه الدرجات العالية والكرامات والتوفيقات والعنايات والألطاف الإلهية حيث يكون مورد اهتمام من قبل صاحب الأمر والزمان (عجّل الله فرجه القريب).. واليوم هو ختام أوجاعك، وبداية مشوارك أرسل بقدوم زوجتك فهي من هذه الساعة حليلتك وقد رضا الله عنكما بدعاء المهدي المنتظر من أجل أن تمحو صفحات الماضي وتُسعد لحياة أفضل.
وفي هذه الأثناء صدح صوت المؤذن لصلاة الصبح، وهمَّ الاثنان للخروج الى المسجد للالتحاق بالمصلين وأداء الصلاة بإمامة سماحته.. وقبل دخول المسجد.. توقف سماحته واستدار نحو صالح اليتيم ووضع اصبعه على فمه وقال:
- يا صالح لا تقصَّ هذه الحكاية على أحد غيري وليوفقك الله.
******
- كما جاء في كتب (النجم الثاقب، وتاريخ قم، ومؤنس الحزين)