ما أن دقت الساعة السادسة صباحا حتى هرعت أسرع في أداء طقوسي اليومية استعدادا للذهاب للعمل . فقد وصلني بالأمس إخطار بالندب في إحدى مدارس قرى ضواحي مدينتي الساحلية ، ولزاما علي أن أسرع كي أتمكن من الوصول مع بداية اليوم ؛ ركبت إلى محطة مصر، وهناك لم أستغرق سوى دقائق حتى عثرت على الميكروباص الخاص بهذه القرية . مضت دقائق حتى بدأ التحرك ، وعلى الطريق الدائري يدلف بنا السائق بعد نهاية الكوبري ليستلم طريقا ضيقة يعلو جانبيها ركام ردم من مخلفات أبنية مهدمة ينبت من خلاله البوص . تعج الطريق بكلاب ضالة منها الأجرب ومنها من سلم من الجرب ، وإذ فجأة تطرق فتحات أنفي بعنف وبغير استئذان رائحة نتن لا تطاق . ألتفت حولي ؛ فترصد عيني لافتة مكتوب عليها ( مصنع السماد العضوي) ؛ توالت الدعوات على لساني أن يسرع السائق حتى تختفي تلك الروائح النتنة ، ولما انقضت الدقائق بدأت الرائحة تخف فاستلم السائق طريقا مزدوجة بالكاد تستوعب سيارتين متقابلتين إن سهوت وأسندت ذراعك على حافة النافذة تصدمها السيارة المقابلة . عن يمين الطريق أرض زراعية وعن يسارها مصرف ، ومن محاسن تلك الطريق أنك تداوم فيها على نطق الشهادة ، وفي نهايتها تدلف السيارة بنا إلى طريق تتسع قليلا على جانبيها حقول تليها خرابات ثم بيوت تحتها مقاهي ومحلات من كل صنف . قد حفر أوسطها من أجل تركيب مواسير الغاز بغية تطوير القرية ، ولكنهم بعد أن ردموها تجاهلوا رصفها مما يجعل أحشاءك لا تستقر في مكانها لاهتزازات الميكروباص، وعندما وصلت غادرت الميكروباص أتحسس جسدي لأتأكد أن كل أعضائي في مكانها مستقرة ، وعلى يمين الطريق مصرف متاخم لسور المدرسة التي انتدبت لها لسد العجز في المعلمين بعد توقف التعيين لسنوات طويلة والزيادة السكانية التي أدت إلى كثافة التلاميذ . في حين تقل أعداد المدرسين كل عام ، ومن الباب دخلت لأحضر الطابور الذي به حوالي ثلاثة آلاف طالب وما لا يتعدى العشرين معلما بين مدرس وإداري ، وانصرفنا للفصول للعمل - بنى ومناول - تتنقل من فصل لفصل كل حصة لسد العجز، ويضرب جرس الفسحة فلم أغادر الطابق العلوي الذي كنت فيه ؛ مخافة أن يسقط تلميذ ، وفي الفناء يلهو الثلاثة آلاف فيعلو الغبار؛ يحجب الرؤية فترى التلاميذ كأنهم أشباح بين الضباب ، وإذا بعيني تسقط على تلميذ يضع كيس شيبسي فارغ في كفه ويمسك بفأر ميت من ذيله يطارد به أقرانه . بح صوتي وأنا أناديه لأنهاه عن ذلك فمن يسمعني ؟ هرولت لأسفل فإذا بالسيرك الذي نصبه قد انفض وذاب في طوفان التلاميذ ، وكانت عن يساري الحنفيات التي لا تزيد عن عشر حنفيات لا أكثر لهذا الجيش العرمرم من التلاميذ ، وقد أخذ بعضهم يثقب زجاجته البلاستيكية ليستخدمها كمدفع مياه في وجه أقرانه. بينما يفتح بعضهم أغطية زجاجاتهم ليرش بالماء من يرشه. انتهى وقت الفسحة بحمد الله دون حوادث ، وعلى السلالم تصعد التلاميذ منهكين فمنهم من يلوك طعامه ببطء ، ومنهم من يلتهم بقية كيس الشيبسي بنهم وشراهة ، ويمسح فمه بكفه أو كم قميصه ، وفي الفصول هذه المرة رائحة مصنع السماد العضوي تعود مضاعفة ، وسرعان ما أدركت السر ؛ فأغلب التلاميذ ينزعون أحذيتهم مكتفين بالجوارب التي امتزج عرق القدم فيها بماء الحنفيات مع ارتفاع الحرارة فإذا بي قد عدت لأشم رائحة مصنع السماد العضوي ، وفي نهاية اليوم نصطف جميعا لضمان خروج التلاميذ في سلام فقابلت معلمة خائرة القوى فقلت لها :
- تخيلي . أول يوم لي في الندب واشتغلت أربع حصص متتالية في نفس الفصل .
فأجابتني بصوت بح بالكاد تبينته :
- يا بختك . فصل واحد . أنا قضيت اليوم مع فصلين . أشرح هنا شوية وأجري على الفصل الثاني أشرح شوية . مش باين عليا ؟
فإذا بتلميذ صغير ينزل السلالم بالجورب دون حذاء . على ما يبدو أنه ممن خلعوا حذاءهم من بعد الفسحة ، وقد نساه في الفصل عند الانصراف ؛ فناديت مشرف اليوم لأنبهه ، وقد كان واقفا يتابع انصراف التلاميذ وفوقه بانر كبير فيه صورة العالم المصري أحمد زويل مكتوب تحت الصورة « رسالتنا صناعة جيل قادر على التفكير والإبداع » .
أما عن نجلاء فتحي فهو اسم المعلمة التي كانت تشرح لفصلين في آن واحد .
سمير لوبه
من المجموعة القصصية ليه يا بنفسج
- تخيلي . أول يوم لي في الندب واشتغلت أربع حصص متتالية في نفس الفصل .
فأجابتني بصوت بح بالكاد تبينته :
- يا بختك . فصل واحد . أنا قضيت اليوم مع فصلين . أشرح هنا شوية وأجري على الفصل الثاني أشرح شوية . مش باين عليا ؟
فإذا بتلميذ صغير ينزل السلالم بالجورب دون حذاء . على ما يبدو أنه ممن خلعوا حذاءهم من بعد الفسحة ، وقد نساه في الفصل عند الانصراف ؛ فناديت مشرف اليوم لأنبهه ، وقد كان واقفا يتابع انصراف التلاميذ وفوقه بانر كبير فيه صورة العالم المصري أحمد زويل مكتوب تحت الصورة « رسالتنا صناعة جيل قادر على التفكير والإبداع » .
أما عن نجلاء فتحي فهو اسم المعلمة التي كانت تشرح لفصلين في آن واحد .
سمير لوبه
من المجموعة القصصية ليه يا بنفسج
Samir Louba
Samir Louba is on Facebook. Join Facebook to connect with Samir Louba and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com