على كورنيشِ البحرِ ينظر " عادل " إلى الأفقِ ؛ ربَّما يلمحُ بصيصاً من نورٍ، تتراكمُ السحبُ ، تتزاحمُ الذكرياتُ في مخيلته ، وإذْ فجأةً يخترقُ أسماعه إيقاعُ مقادم حِصانٍ يتهادى في رشاقةٍ يجرُّ عربةَ حنطورِ قادم نحوه في تلك الساعةِ المتأخرةِ م- ن الليلِ ، تحدثه نفسه :
• ربَّما النزهةُ بالحنطورِ هي ما أحتاجُه في تلك الأمسيةِ الباردةِ .
يشيرُ عادل للسائق تتوقفُ العربةُ ، وما أن جلس حتى انتابه شعورٌ تأنسُ له روحه وكأنَّه قدْ عاد به الزمن للماضي الجميلِ ، معطفٌ ذو أكتافٍ عاليةٍ يحوي داخلَه جسداً نحيلاً لرجلٍ تلفُّ رأسَه عمامةٌ ، يستديرُ إليَّ متسائلا :
• إلي أين يا باشا ؟
• كما أنت على الكورنيش
ينكفئ السائق إلى عربتِه لا تبدو عليه من علاماتِ الحياةِ سوى هزاتٍ خفيفةٍ ناجمةً عن هِزةِ العربةِ ، يحلقُ عادل بخياله في الزمنِ الجميلِ ، فإذا بجلبةٍ تجذبُه بعنفٍ من طياتِ الخيالِ ؛ صبيٌ يافعٌ تنشقُ عنه الأرضُ قادمٌ من الظلامِ ، يتشبثُ بالعربةِ ، يجلسُ إلى جوارِ الرجلِ ؛ يتهامسان ينتبهُ الصبي لعادل ، يرمقُه بعينين زائغتين تعلوهما الريبةُ ، يهمسُ للسائق فيستديرَ بأناةٍ لعادل تبرقُ عيناه الجاحظتان ؛ ينتاب عادل الارتيابُ ويشعرُ أنَّ تدبيرٌ ما يتمُّ بينهما ؛ يرهف السمع ؛ ربَّما فسر كلامهما ، يتبادرُ إلى مسامعه بضعةُ ألفاظٍ متفرقةٍ " ... قد نبهتُك.. خذ حذرَك ..." .
يقفزُ الصبي من العربة يبتلعُه الظلامُ ، لكنَّ ضحكاتَه تتطايرُ إلى الفضاءِ المظلمِ يهزُّ صداها رأس عادل ؛ يتملكُه القلقُ ، وفجأةً تلمسُ كفه كفاً بارداً بجواره ، يشعرُ بأنفاسٍ حارةٍ على خده ، يحاولُ أن يقهرَ خوفه، و بصوتٍ متهدجٍ :
• هنا من فضلِك
• حاضر
يصل عادل لمنزله يبيتُ ليلته لا يستطيعُ أن ينسى ما حدث ، يحاول أن يلقيه بعيداً ليطويَه النسيانُ ، ولكنَّه يأبى إلَّا العودةَ ليقتحمَ تفكيره الذي يلحُّ عليه إلحاحاً أن يعرفَ سر السائق والصبي ، وفي الليلةِ التاليةِ وكانت الأمطار قدْ توقفت لتوِها في حين تشتدُ الرياحُ ، يذهب عادل إلى موقفِ عرباتِ الحنطورِ ؛ ربَّما وجدهما ، يخلو الموقفُ من أي أثرٍ للحياةِ ؛ الصمتُ يطبقُ على المكانِ ، عرباتُ الحنطورِ مصطفةً الواحدةَ تلو الأخرى ، يمشي بجوارها على مَهلٍ ؛ يبحث عن الرجلِ ، فإذا بوقعِ أقدامٍ خلفه ، يديرُ رأسه فلا يجدُ سوى فراغ ، وما أن اعتدل حتى التصق وجهِه بالصبي نفسه تلمع عيناه المتحجرتين في وجهه ؛ ترتسمُ على وجهِه ابتسامةٌ قلقةٌ تشعرُ عادل بعدم الارتياح .. يبادرُه
• حنطور يا أستاذ ؟
باضطرابٍ يجيب عادل :
• نعمْ
• تفضلْ
وما أن انطلقت بهما العربة حتى حكى له عادل ما حدث بالأمسِ ، وسأله عن السائق الذي ركب معه ، ووصفه له ، يستديرُ الصبي اليافع إليه وقد عقد ما بينَ حاجبيه تبدو على وجهِه علاماتُ الدهشةِ :
• فعلاً تلك الصفاتُ تنطبقُ تماماً على والدي ، لكنَّه قد مات في عربتِه أثرَ حادثِ تصادمٍ منذ عدةِ أعوامٍ ، أما عن الأمسِ فقدْ عدت لبيتي مبكراً ، ولم أعملْ في تلك الليلةِ التي تتحدثُ عنها ، ربَّما اختلط عليك الأمرُ .
• ربَّما
يُدهش عادل ما يسمعه ، يحدث نفسه
• مع من ركبت بالأمسِ إذنْ ؟! ربَّما يُخَيلُ إليَّ أو اختلط عليَّ صورةُ الصبي ؟!
فجأةً تسقطُ على كفه قطرةُ دماءٍ ، وما أن تيقن منها حتى اختفت ، يشعرُ عادل بذات الأنفاسٍ الحارةٍ على خده ، و سقطت قطرةُ دمٍ أخرى على كفه ثم اختفت ؛ يرتعدُ جسده يتملكُه الرعبُ ؛ يهم بالنزولِ ، وبصوتٍ مرتعشٍ :
• من فضلِك قف هُنا
يسير عادل قليلاً ، يلتفت خلفه مراراً ، فيلمح عربةَ الحنطورِ وقد غابت في الأفقِ .. تمرُّ الأيامُ لا يستطيعُ تجاوزَ تلك اللحظاتِ المريعةِ ، ليجد نفسه وقد ساقته أقدامه ذاتَ ليلةٍ إلى موقفِ عرباتِ الحنطورِ ، فإذا به خالياً من العرباتِ إلَّا من حطام عربةٍ على الرصيف يعلوها غبارُ السنين والإهمالِ ، لم يرها من قبلِ ، يركنُ إليها رجلٌ بائسٌ يفترشُ الأرضَ في ثيابٍ رثةٍ ، يقتربُ منه فإذا به الرجلِ نفسِه الذي ركب معه أول مرة ، وقد بدت واضحةً عليه شيخوخةُ الجسدِ والروحِ ، يحاولُ التحدثَ إليه فيجدُه زاهلاً عن الواقعِ يرمقُه بنظراتٍ حزينةٍ ، يعرفُ منه بالكادِ أنَّه صاحبُ ذلك الحطام ، ينصرفُ عادل في حيرةٍ من أمره ، وإذْ فجأةً يخترقُ مسامعه إيقاعُ مقادم حِصانٍ يتهادى في رشاقةٍ ، يجرُّ عربةَ حنطورٍ قادمةً نحوه يتوجه لسائقها متسائلاً عن ذلك الصبي اليافعِ الذي ركب معه ، تبدو على السائق علاماتُ الاستغرابِ ، ينظرُ إلى العربةِ المحطمةِ بشفقةٍ يخالطُها الحزنُ مجيباً :
• تلك عربةُ والدِه ، فقد مات الصبي منذ عدةِ أعوامٍ في العربةِ أثرَ حادثٍ مريعٍ ، ولم يتحملْ والدُه الذي وجدناه بعدها بأيامٍ ميتاً بجوارِ حطامِ عربةِ الحنطورِ .
يستدير عادل مندهشاً ، فلا يرى سوى الحطام .
سمير لوبه
من المجموعة القصصية كواليس
• ربَّما النزهةُ بالحنطورِ هي ما أحتاجُه في تلك الأمسيةِ الباردةِ .
يشيرُ عادل للسائق تتوقفُ العربةُ ، وما أن جلس حتى انتابه شعورٌ تأنسُ له روحه وكأنَّه قدْ عاد به الزمن للماضي الجميلِ ، معطفٌ ذو أكتافٍ عاليةٍ يحوي داخلَه جسداً نحيلاً لرجلٍ تلفُّ رأسَه عمامةٌ ، يستديرُ إليَّ متسائلا :
• إلي أين يا باشا ؟
• كما أنت على الكورنيش
ينكفئ السائق إلى عربتِه لا تبدو عليه من علاماتِ الحياةِ سوى هزاتٍ خفيفةٍ ناجمةً عن هِزةِ العربةِ ، يحلقُ عادل بخياله في الزمنِ الجميلِ ، فإذا بجلبةٍ تجذبُه بعنفٍ من طياتِ الخيالِ ؛ صبيٌ يافعٌ تنشقُ عنه الأرضُ قادمٌ من الظلامِ ، يتشبثُ بالعربةِ ، يجلسُ إلى جوارِ الرجلِ ؛ يتهامسان ينتبهُ الصبي لعادل ، يرمقُه بعينين زائغتين تعلوهما الريبةُ ، يهمسُ للسائق فيستديرَ بأناةٍ لعادل تبرقُ عيناه الجاحظتان ؛ ينتاب عادل الارتيابُ ويشعرُ أنَّ تدبيرٌ ما يتمُّ بينهما ؛ يرهف السمع ؛ ربَّما فسر كلامهما ، يتبادرُ إلى مسامعه بضعةُ ألفاظٍ متفرقةٍ " ... قد نبهتُك.. خذ حذرَك ..." .
يقفزُ الصبي من العربة يبتلعُه الظلامُ ، لكنَّ ضحكاتَه تتطايرُ إلى الفضاءِ المظلمِ يهزُّ صداها رأس عادل ؛ يتملكُه القلقُ ، وفجأةً تلمسُ كفه كفاً بارداً بجواره ، يشعرُ بأنفاسٍ حارةٍ على خده ، يحاولُ أن يقهرَ خوفه، و بصوتٍ متهدجٍ :
• هنا من فضلِك
• حاضر
يصل عادل لمنزله يبيتُ ليلته لا يستطيعُ أن ينسى ما حدث ، يحاول أن يلقيه بعيداً ليطويَه النسيانُ ، ولكنَّه يأبى إلَّا العودةَ ليقتحمَ تفكيره الذي يلحُّ عليه إلحاحاً أن يعرفَ سر السائق والصبي ، وفي الليلةِ التاليةِ وكانت الأمطار قدْ توقفت لتوِها في حين تشتدُ الرياحُ ، يذهب عادل إلى موقفِ عرباتِ الحنطورِ ؛ ربَّما وجدهما ، يخلو الموقفُ من أي أثرٍ للحياةِ ؛ الصمتُ يطبقُ على المكانِ ، عرباتُ الحنطورِ مصطفةً الواحدةَ تلو الأخرى ، يمشي بجوارها على مَهلٍ ؛ يبحث عن الرجلِ ، فإذا بوقعِ أقدامٍ خلفه ، يديرُ رأسه فلا يجدُ سوى فراغ ، وما أن اعتدل حتى التصق وجهِه بالصبي نفسه تلمع عيناه المتحجرتين في وجهه ؛ ترتسمُ على وجهِه ابتسامةٌ قلقةٌ تشعرُ عادل بعدم الارتياح .. يبادرُه
• حنطور يا أستاذ ؟
باضطرابٍ يجيب عادل :
• نعمْ
• تفضلْ
وما أن انطلقت بهما العربة حتى حكى له عادل ما حدث بالأمسِ ، وسأله عن السائق الذي ركب معه ، ووصفه له ، يستديرُ الصبي اليافع إليه وقد عقد ما بينَ حاجبيه تبدو على وجهِه علاماتُ الدهشةِ :
• فعلاً تلك الصفاتُ تنطبقُ تماماً على والدي ، لكنَّه قد مات في عربتِه أثرَ حادثِ تصادمٍ منذ عدةِ أعوامٍ ، أما عن الأمسِ فقدْ عدت لبيتي مبكراً ، ولم أعملْ في تلك الليلةِ التي تتحدثُ عنها ، ربَّما اختلط عليك الأمرُ .
• ربَّما
يُدهش عادل ما يسمعه ، يحدث نفسه
• مع من ركبت بالأمسِ إذنْ ؟! ربَّما يُخَيلُ إليَّ أو اختلط عليَّ صورةُ الصبي ؟!
فجأةً تسقطُ على كفه قطرةُ دماءٍ ، وما أن تيقن منها حتى اختفت ، يشعرُ عادل بذات الأنفاسٍ الحارةٍ على خده ، و سقطت قطرةُ دمٍ أخرى على كفه ثم اختفت ؛ يرتعدُ جسده يتملكُه الرعبُ ؛ يهم بالنزولِ ، وبصوتٍ مرتعشٍ :
• من فضلِك قف هُنا
يسير عادل قليلاً ، يلتفت خلفه مراراً ، فيلمح عربةَ الحنطورِ وقد غابت في الأفقِ .. تمرُّ الأيامُ لا يستطيعُ تجاوزَ تلك اللحظاتِ المريعةِ ، ليجد نفسه وقد ساقته أقدامه ذاتَ ليلةٍ إلى موقفِ عرباتِ الحنطورِ ، فإذا به خالياً من العرباتِ إلَّا من حطام عربةٍ على الرصيف يعلوها غبارُ السنين والإهمالِ ، لم يرها من قبلِ ، يركنُ إليها رجلٌ بائسٌ يفترشُ الأرضَ في ثيابٍ رثةٍ ، يقتربُ منه فإذا به الرجلِ نفسِه الذي ركب معه أول مرة ، وقد بدت واضحةً عليه شيخوخةُ الجسدِ والروحِ ، يحاولُ التحدثَ إليه فيجدُه زاهلاً عن الواقعِ يرمقُه بنظراتٍ حزينةٍ ، يعرفُ منه بالكادِ أنَّه صاحبُ ذلك الحطام ، ينصرفُ عادل في حيرةٍ من أمره ، وإذْ فجأةً يخترقُ مسامعه إيقاعُ مقادم حِصانٍ يتهادى في رشاقةٍ ، يجرُّ عربةَ حنطورٍ قادمةً نحوه يتوجه لسائقها متسائلاً عن ذلك الصبي اليافعِ الذي ركب معه ، تبدو على السائق علاماتُ الاستغرابِ ، ينظرُ إلى العربةِ المحطمةِ بشفقةٍ يخالطُها الحزنُ مجيباً :
• تلك عربةُ والدِه ، فقد مات الصبي منذ عدةِ أعوامٍ في العربةِ أثرَ حادثٍ مريعٍ ، ولم يتحملْ والدُه الذي وجدناه بعدها بأيامٍ ميتاً بجوارِ حطامِ عربةِ الحنطورِ .
يستدير عادل مندهشاً ، فلا يرى سوى الحطام .
سمير لوبه
من المجموعة القصصية كواليس
Samir Louba
Samir Louba is on Facebook. Join Facebook to connect with Samir Louba and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com