رسالة مفتوحة إلى شهداء فلسطين

رسالة مفتوحة إلى

شهداء فلسطين

مأمون أحمد مصطفى




كل حرف هو بالحقيقة بداية، وكل كلمة خطوة تسير لتقطع خط البداية، وكل جملة انطلاقة، انطلاقة للتحرر من قيود الجمود والتصلب، انطلاقة لا يعرف معناها ولا يدرك مغزاها إلا من رجف قلبه وهو بعيدا عن أجسادكم مع رجفات أنفاسكم وهي تجاهد الموت والمستحيل، واهتز خاطره مع خواطر أرواحكم، وانتابته نفس الأحاسيس التي انتابتكم وأنتم تودعون الحياة الدنيا للارتفاع نحو الحياة الباقية في رحم الوطن والسماء، لا لشيء، إلا لأنكم موحدين النفس قبل ان توحدوا الجسد، وموحدين للروح قبل توحيد كل ما يمكن توحيده.



أنتم النقطة، وأنتم الحرف، أنتم الكلمة وأنتم الجملة، أنتم الحلقة التي لا يمكن النفاذ إليها، أنتم الحصار، وأنتم الحرية، حرية الحصار، في فلسطين، وفي لبنان، وفي الكرامة، وفي فلسطين من قبل ومن بعد.



إخوتنا الشهداء...



كنا نحن وكنتم، وكان الحلم، كان الحلم سوسنا يدغدغ خواطر الأرض والرمل والحجر، كنا وكنتم، وكان الحلم يمر في أعطاف طفولتنا ليرسم صور التاريخ، والنضال، والتضحية، وكنا نصنع من طفولتنا رجولة تأبى انتظار بلوغ البنية واكتمالها، أمانة منا في فهم رجولتكم، أمانة منا بإمساك الحلم بأصابع لم تعرف يوما ان الحلم مستحيل، لأنها عجنت حلمها، حلمكم، حلم الأرض، حلم الشعب ببراءة رجولة مبكرة لتقف فوق الأرض ضاربة جذورها بعمق العمق، كأشجار الحور، والزنزلخت، والبلوط، شامخة لا تكسرها العواصف ولا تأكلها الحرائق، فجذورها هناك، هناك في رحم أرض لا تنجب ولا تستطيع إلا أن تنجب صمودا، صمودا يلتف حول رائحتكم التي تمدنا وتمنحنا معنى لا ككل المعاني، صمود فيه كل معاني القدس بأقصاها وصخرتها المشرفة، صمود فيه كل معاني بيروت، وسجن عكا، ودير ياسين، وقبية، وأيلول، وتل الزعتر، لتتوحد كل هذه في معنى نحن نحيا فيه ونحيا من أجله، المعنى الأعلى والأسمى، والمعنى لا يكون معنى إلا حين يكون اسمه فلسطين، وفلسطين لا تحمل معنى ما لم يكن اسمها ممزوجا باسم من رضع من ثديها، ولا زال يرضع هذا الاسم، كما نعرفه، كما نحبه، هو الشهيد الفلسطيني.



إخوتنا الشهداء...



قالوا في الحرية كلام كثير، شعراء، وأدباء، وفلاسفة، ومصلحون، ورواد أفكار وساسة، لكنكم لم تقولوا شيئا، ولم نعرف حقا أنكم قلتم كلاما يشبه أو يقترب مما قيل، وكل ما نعرفه، وما نعلمه، أنكم بتاريخكم، بكل أعمالكم، كنتم الوحي لكل من قال إلهاما، كنتم انتم، وليس غيركم، من يصنع مواد الخلق والإبداع لكل هؤلاء، فمنكم ومنكم وحدكم، أصبحوا شعراء يتغنى الناس والهواء بكلامهم، كنتم انتم الفعل، وكانوا هم القول، كنتم انتم الحقيقة، وكانوا هم رساموها، كنتم انتم الحق، وكانوا هم أوجه الخلاف فيه.



ولكننا نحن كشعب، رجال ونساء، شباب وشيوخ، أطفال وزهرات، لا نعرف كيف نختلف فيكم، أو فيما تقولون، نحن وحدة دمائكم، وحدة هدفكم، نحن وحدة حصاركم قبل الشهادة، وحصار حصاركم، نحن الأرض والشجر، نحن السماء والفضاء، وحدة الحرية، حرية الحصار، حرية العجز، العجز الصارخ، العجز الذي يتفجر غضبا وحنقا في وجه من حاصروكم، حين يروا كل ما في الأرض وما في الفضاء يزحف نحو حلم انتم زرعتموه، وانتم رويتموه حلما يحاصر الحصار، ولتتدفق الحرية بكل ما فيها من قوة لتصنع حصارا على من يظن انه استطاع ان يحاصركم، وحلما يدخل أعماق الحلم، حلم الأمل، حلم العمل، حلم البقاء، حلم الاستمرارية، حلم خواطر تسافر منا في كل يوم لتلتحم في حلمكم، لتنصهر في خواطركم ربيعا يعج بشقائق النعمان، ربيعا يوزع أريج زهر البرتقال والليمون على أوردة قلوبنا وعقولنا لتترجم بجملة ( شهداؤنا أكرم منا جميعا ).



إخوتنا الشهداء...



نحن هنا وعلى هذه الأرض باقون، كل منا طود، وكل طود منا سيصبح اطوادا، وسنرسل جذورنا من طول كرم، من مخيمها، مخيم الشهداء إلى نابلس، ومن نابلس إلى غزة، ومن غزة إلى الخليل، ومن الخليل إلى جنين، ومن كل فلسطين سنمد جذورنا حيث أنتم، لتتشابك مع جذوركم، ولنرويكم وتروونا نسغا يصنع الحياة، يصنع الصمود، ويجدد العهد، ويرسم خارطة وفاء، وفاء الشعب للشهيد، وفاء لصناع الحرية ومفجري الثورة، قيل عنها أنها (أنبل ظاهرة في التاريخ الحديث)، فكيف يقول عنها المظلوم؟ وكيف يسميها الحق؟ حق التاريخ وتاريخ الحق؟ الحق الذي ضممتموه بأيديكم، وعجنتموه بعرقكم، ومنحتموه نور أعينكم ونور قلوبكم، نحن معكم وبكم أحرارا، كما علمتمونا ان نكون، ونحن معكم في حرية شهادتكم التي نزرعها في قلوبنا وأفكارنا حين يصدم آذاننا نداءكم (ان تمنحونا شهادة على أعتاب القدس)، نعم نحن معكم، شاء من شاء وأبى من أبى (واللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة).



إخوتنا الشهداء...



ليقل من يشاء ما يشاء، ولتقل الدنيا كلها ما تشاء، وليشمت الشامتون، وليتوارى الجبناء، ولينعق مفكرو الهزيمة ما استطاعوا ان ينعقوا، وليحسد الحاسدون، فالحاسد أضعف كثيرا من المحسود، وليحاصر المحاصر كيف شاء ومتى شاء، فالمحاصر أعجز من المحاصر، والعجز لن يكون قوة، فأنتم القوة، نعم أنتم القوة، وهم أعجز، أعجز بكثير ان يتعلموا من التاريخ كيف تصنع القوة، وكيف يقهر العجز، وهم لا زالوا يحبون في فهم سركم وغموضكم، وهذا ما يجعلهم عاجزين عن معرفة وفهم كيف، كيف تفك رموز التاريخ؟ فكيف سيفهمون رمز التاريخ الفلسطيني، نعم، نعم، أنتم عصيون، عصيون جدا، إلى الحد الذي يدفعهم إلى الجنون، جنون القزم أمام المارد، جنون النسمة أمام العاصفة، جنون الموجة أمام الإعصار، وسيظلون كذلك، لأن في كل منا جزءا منكم، وفي كل منكم جزءا منا، فأنتم نحن، ونحن أنتم، أنتم القائد ونحن الشعب، أنتم الأم، الأب، الأخ، الأخت، أنتم كل شيء، أنتم القادمون من رحم كل امرأة تلد اليوم أو تلد غدا، أنتم كل طفل في رحم الأرض، أنتم السابقون على درب الخلود، فهل سنكون نحن اللاحقون بكم؟



مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين – مخيم طول كرم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى