في عنبر الجراحة أفرغت عاملات النظافة محتويات السلال الممتلئة بالقطن، و الشاش، و المحاقن ، و الإبر المستعملة في حاويات القمامة، و حرصن على سكب (الفنيك)، و المطهرات، و تنظيف درجات السلم، و الردهات، و الجدران، و غرف المرضى، و أسرتهم، و قمن بنزع الملاءات القديمة الملطخة ببقع الدم، و فرش ملاءات جديدة ناصعة. بدا الأمر كما لو كان حملة تنظيف عادية، و لكن علامات الذعر المرتسمة على وجوه العاملات أشعرته بأن ثمة أمرا جللا يحدث. هذا ما أكده اضطراب الممرضات، اللائي طفن على الغرف بوجوه فزعة. و هذا ما أكده أيضا تجهم الأطباء، الذين أمضوا اليوم بطوله في حركة دائبة، تنقلوا بواسطتها بين المرضى، و راحوا يفحصونهم بطريقة بدت شديدة الغرابة؛ إذ قربوا أنوفهم من أجساد مرضاهم، و تشمموا روائحهم، و روائح فرشهم، ووسائدهم، و تفحصوا أظفارهم، و فروات رءوسهم، و بعد جهد مضن زفروا بضيق و سأم؛ و ضربوا أكفهم بعضها ببعض؛ فأدرك أنه أسقط في أيديهم، وأن ثمة شيئا عصيا أعجزهم الوصول إليه. في وسط هذا الجو المكهرب حاول استجلاء حقيقة ما يحدث، و لكن أحدا لم يلتفت إليه من الأساس، فارتدت أسئلته إلى رأسه أشد غموضا من ذي قبل.
(٢)
في عنبر الجراحة رافق الابن أباه على مدار عام كامل، و خصص له سرير في الجوار، كلما تمدد فوقه، جافاه النوم. و لما كان الابن يميل بطبعه إلى مراقبة ما يدور حوله بصمت، و تمعن، قطع ساعات الليل الطويلة في التحديق إلى أطراف أبيه، التي تضاءلت يوما بعد يوم؛ إثر عمليات بتر متكررة، أجريت خلال الأشهر الفائتة، استأصل خلالها الجراحون الأجزاء المتعفنة، التي أصابتها ( الغنغرينة). تلك العمليات الجراحية، التي حولت أباه المسن إلى رجل شبه ميت، لا يشعره شيء بأنه حي سوى الألم، الذي لازمه صباح مساء. وفي ذات ليلة، كان الابن مؤرقا كما جرت العادة؛ فأبصر ما لم يبصره الآخرون. في البداية انبعثت رائحة خاملة، طغت على روائح المطهرات و الفنيك، و بعد لحظات قليلة ملأ الرعب قلبه؛ إذ اقتحم الغرفة بشكل مفاجئ فوج من الكائنات الضئيلة الشفافة، رغم أن الباب ظل موصدا، لم يفتح قط. كان الضوء خافتا، و كانت تلك الكائنات عابرة الجدران المصمتة لها أبدان من دخان، راحت تعلو، و تهبط أمام عينيه؛ فَهَمَّ الابن بالصراخ، و لكن الخرس لجم لسانه. و بعد لحظات من التجمد و الذهول، أبصر سحابة من دخان، تعلو وجه أبيه، سرعان ما تسللت إلى داخل جسده العليل عبر فتحي أنفه بعدما اختلطت بأنفاس الشهيق، فما كان من الابن إلا أن هب واقفا؛ إذ كانت تلك السحابة ما هي إلا كائن من تلك الكائنات، التي تلاشت بمجرد أن أضأ الابن المرتعب مصابيح الغرفة. مرت ليلة عصيبة، و لولا خوفه المفرط من أن يصاب أبوه بأذى، لفر من الغرفة على الفور، لكنه اضطر إلى البقاء؛ فلازمت تلك الرائحة أنفه، و لم تفارقه سوى مع تباشير الصباح، حيث بدأت الحركة تدب من جديد بين أركان العنبر وردهاته و غرفه العديدة. ودَّ الابن أن يفضي بما رأى إلى عاملات النظافة و الممرضات و الأطباء و الطبيبات. لكنه خشي أن يتهم بالجنون؛ فآثر الصمت، و اكتفى بالمراقبة. و بمرور الأيام تضاعفت أعداد هذه الكائنات، حتى ازدحم بها عنبر الجراحة بأكمله؛ فراحت تصطف في صفوف منظمة، كأنما تتهيأ لشن هجوم كاسح قريب.
(٣)
عندما أبصر وجه أبيه منيرا كالبدر، اعتقد أن العلة قد زايلته؛ فبات ليلته مسرورا، و زال أرقه، و لم يأبه بالكائنات الضئيلة، التي تراصت فوق بعضها البعض، حتى لامست السقف. غفت عيناه قليلا، و رأى في المنام أطفاله و زوجته؛ فانتابه حنين جارف إليهم، و عندما انتبه من نومه، أوصى إحدى الممرضات بالاعتناء بأبيه، ريثما يعود من زيارة قصيرة إلى منزله، أخبرها بأنه يرغب فقط في استبدال ملابسه المقرحة، و بأنه سيعود قبل أن تشرق الشمس، و لما كان يتحرق شوقا إلى تلك الزيارة الخاطفة، لم ينتظر موافقة الممرضة من عدمها؛ فوضعها أمام الأمر الواقع، وانطلق سريعا إلى وجهته.
كانت الساعة قد جاوزت الثانية صباحا، و كان الطريق المفضي إلى بلدته ساكنا، خاليا من المارة، و كانت الاضواء، التي أرسلتها أعمدة الإنارة شحيحة للغاية. و كان الهواء راكدا، لا يحرك ورقة شجر. ربما دفعته وحشة الطريق إلى أن يركض سريعا صوب منزله، و ما إن وصل إليه، حتى أدار المفتاح في الباب الموصد، و راح يطوف على غرف المنزل غرفة غرفة؛ فانكب على أطفاله الثلاثة لثما، و لكنه لم يشأ أن يزعجهم. و حينما وصل إلى غرفة نومه؛ رأى زوجته تغط في سبات عميق؛ فهز جسدها برفق؛ لكنها لم تستجب لحركات أصابعه؛ فهز جسدها مرة أخرى بقوة، و راح يناديها باسمها، و لكنها لم تستيقظ البتة؛ فقرر إنارة المصابيح المطفأة؛ و ما إن فعل ذلك، حتى غمرت الغرفة أضواء قوية، و ساطعة، و مزعجة لدرجة، لم تتحملها الزوجة، التي فتحت عينيها الناعستين بصعوبة، وراحت تتلفت ذات اليمين، و ذات اليسار؛ فدنا منها بلهفة، و مد يده نحوها، و راح يتحدث إليها، و لما لم تنتبه إلى وجوده، أعاد المحاولة عدة مرات؛ و لما جاءت النتائج متطابقة، تيقن الزوج من أن زوجته لا تراه، و لا تسمعه؛ فوقف مبهوتا حائرا، و ماجت في رأسه الظنون، و تملكه هاجس مخيف، أراد أن يبدده؛ فقام بإطفاء المصابيح عدا (سهارة) صغيرة، تمنح ضوءا شحيحا خافتا. و سارع إلى الوقوف أمام المرآة القابعة على يساره، و راح يحدق إليها؛ فصعق مكانه؛ إذ رأى جسده، قد تحول إلى سحابة ضئيلة من دخان خفيف شفاف، انبعثت منها للتو رائحة خاملة.
(٢)
في عنبر الجراحة رافق الابن أباه على مدار عام كامل، و خصص له سرير في الجوار، كلما تمدد فوقه، جافاه النوم. و لما كان الابن يميل بطبعه إلى مراقبة ما يدور حوله بصمت، و تمعن، قطع ساعات الليل الطويلة في التحديق إلى أطراف أبيه، التي تضاءلت يوما بعد يوم؛ إثر عمليات بتر متكررة، أجريت خلال الأشهر الفائتة، استأصل خلالها الجراحون الأجزاء المتعفنة، التي أصابتها ( الغنغرينة). تلك العمليات الجراحية، التي حولت أباه المسن إلى رجل شبه ميت، لا يشعره شيء بأنه حي سوى الألم، الذي لازمه صباح مساء. وفي ذات ليلة، كان الابن مؤرقا كما جرت العادة؛ فأبصر ما لم يبصره الآخرون. في البداية انبعثت رائحة خاملة، طغت على روائح المطهرات و الفنيك، و بعد لحظات قليلة ملأ الرعب قلبه؛ إذ اقتحم الغرفة بشكل مفاجئ فوج من الكائنات الضئيلة الشفافة، رغم أن الباب ظل موصدا، لم يفتح قط. كان الضوء خافتا، و كانت تلك الكائنات عابرة الجدران المصمتة لها أبدان من دخان، راحت تعلو، و تهبط أمام عينيه؛ فَهَمَّ الابن بالصراخ، و لكن الخرس لجم لسانه. و بعد لحظات من التجمد و الذهول، أبصر سحابة من دخان، تعلو وجه أبيه، سرعان ما تسللت إلى داخل جسده العليل عبر فتحي أنفه بعدما اختلطت بأنفاس الشهيق، فما كان من الابن إلا أن هب واقفا؛ إذ كانت تلك السحابة ما هي إلا كائن من تلك الكائنات، التي تلاشت بمجرد أن أضأ الابن المرتعب مصابيح الغرفة. مرت ليلة عصيبة، و لولا خوفه المفرط من أن يصاب أبوه بأذى، لفر من الغرفة على الفور، لكنه اضطر إلى البقاء؛ فلازمت تلك الرائحة أنفه، و لم تفارقه سوى مع تباشير الصباح، حيث بدأت الحركة تدب من جديد بين أركان العنبر وردهاته و غرفه العديدة. ودَّ الابن أن يفضي بما رأى إلى عاملات النظافة و الممرضات و الأطباء و الطبيبات. لكنه خشي أن يتهم بالجنون؛ فآثر الصمت، و اكتفى بالمراقبة. و بمرور الأيام تضاعفت أعداد هذه الكائنات، حتى ازدحم بها عنبر الجراحة بأكمله؛ فراحت تصطف في صفوف منظمة، كأنما تتهيأ لشن هجوم كاسح قريب.
(٣)
عندما أبصر وجه أبيه منيرا كالبدر، اعتقد أن العلة قد زايلته؛ فبات ليلته مسرورا، و زال أرقه، و لم يأبه بالكائنات الضئيلة، التي تراصت فوق بعضها البعض، حتى لامست السقف. غفت عيناه قليلا، و رأى في المنام أطفاله و زوجته؛ فانتابه حنين جارف إليهم، و عندما انتبه من نومه، أوصى إحدى الممرضات بالاعتناء بأبيه، ريثما يعود من زيارة قصيرة إلى منزله، أخبرها بأنه يرغب فقط في استبدال ملابسه المقرحة، و بأنه سيعود قبل أن تشرق الشمس، و لما كان يتحرق شوقا إلى تلك الزيارة الخاطفة، لم ينتظر موافقة الممرضة من عدمها؛ فوضعها أمام الأمر الواقع، وانطلق سريعا إلى وجهته.
كانت الساعة قد جاوزت الثانية صباحا، و كان الطريق المفضي إلى بلدته ساكنا، خاليا من المارة، و كانت الاضواء، التي أرسلتها أعمدة الإنارة شحيحة للغاية. و كان الهواء راكدا، لا يحرك ورقة شجر. ربما دفعته وحشة الطريق إلى أن يركض سريعا صوب منزله، و ما إن وصل إليه، حتى أدار المفتاح في الباب الموصد، و راح يطوف على غرف المنزل غرفة غرفة؛ فانكب على أطفاله الثلاثة لثما، و لكنه لم يشأ أن يزعجهم. و حينما وصل إلى غرفة نومه؛ رأى زوجته تغط في سبات عميق؛ فهز جسدها برفق؛ لكنها لم تستجب لحركات أصابعه؛ فهز جسدها مرة أخرى بقوة، و راح يناديها باسمها، و لكنها لم تستيقظ البتة؛ فقرر إنارة المصابيح المطفأة؛ و ما إن فعل ذلك، حتى غمرت الغرفة أضواء قوية، و ساطعة، و مزعجة لدرجة، لم تتحملها الزوجة، التي فتحت عينيها الناعستين بصعوبة، وراحت تتلفت ذات اليمين، و ذات اليسار؛ فدنا منها بلهفة، و مد يده نحوها، و راح يتحدث إليها، و لما لم تنتبه إلى وجوده، أعاد المحاولة عدة مرات؛ و لما جاءت النتائج متطابقة، تيقن الزوج من أن زوجته لا تراه، و لا تسمعه؛ فوقف مبهوتا حائرا، و ماجت في رأسه الظنون، و تملكه هاجس مخيف، أراد أن يبدده؛ فقام بإطفاء المصابيح عدا (سهارة) صغيرة، تمنح ضوءا شحيحا خافتا. و سارع إلى الوقوف أمام المرآة القابعة على يساره، و راح يحدق إليها؛ فصعق مكانه؛ إذ رأى جسده، قد تحول إلى سحابة ضئيلة من دخان خفيف شفاف، انبعثت منها للتو رائحة خاملة.