د. زياد العوف - ملامحُ الشِّعرِ السياسيّ في معلّقة الشاعر الجاهليّ الحارث بن حِلِّزَة البكريّ

لقد صدقَ مَن قال إنَّ الشِّعر ديوانُ العرب ؛ إذ هو السجلّ الأمين الذي انطوتْ صفَحَاتُه البليغة على أهمّ الملامح في تاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم وقِيَمهم ومعتقداتهم وحربهم وسلمهم ، بل ووقائع حياتهم في شتّى مناحيها.
وإذا كانت " المعلّقات " السّبعُ أو الثماني أو العشْرُ ، حسْبَ الاختلاف المعروف بين مؤرّخي الأدب الجاهليّ حول ذلك ، هي واسطة العِقد في الشعر الجاهليّ الذي وصلنا عن العرب الأوائل فإنّ معلّقة شاعرنا الحارث بن حِلِّزَةَ البكريّ تنفرد عن باقي المعلّقات بهدفها ومضمونها السياسيّ الواضح ، ما يسمو بها ، في نظرنا ، إلى مقام الرِّيادة في هذا المجال.
بالعودة إلى أهمّ المصادر التاريخيّة التي تناولتْ الأسباب الكامنة وراء نظْمِ هذه القصيدة الخالدة فإنّنا نقرأ في كتاب ( الأغاني ) للأصفهاني هذه السطور:
" قال أبو عمرو الشيبانيّ : كان من خبر هذه القصيدةوالسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أنّ عمرو بن هند الملك - وكان جبّاراً عظيم الشأن والمُلك - لمّا جمع بكراً وتَغْلِبَ ابنَي وائل ، وأصلح بينهم ، أخذ من الحيين رهْناً ، من كلّ حيٍّ مئة غلام ليكفَّ بعضُهم عن بعض . فكان أولئك الرّهن يكونون معه في سيره ويغزون معه . فأصابتهم ريحٌ سَموم في بعض مسيرهم فهلك عامّة التغلبين، وسلِم البكريّون. فقالت تغلب لبكر : أعطونا ديّات أبنائنا ، فإنّ ذلك لكم لازم ، فأبت بكر بن وائل . (ثمّ) اجتمعتْ تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصّة . فقال عمرو لقومه : بمَن ترون بكر تعصبُ أمرَها اليوم ؟ قالوا : بمَن عسى إلّا برجل من أولاد ثعلبة . قال عمرو : أرى والله الأمر سينجلي عن أحمرَ أصمّ من بن يشكُر .
فجاءت بكر بالنعمان بن هرِم ، أحد بني ثعلبة...وجاء تغلب بعمرو بن كلثوم (الشاعر) . فلمّا اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم : يا أصمّ ! جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك ! فقال النعمان : وعلى من أظلّت السماء يفخرون ، ثمّ لا يُنكرُ ذلك . فقال عمرو له : أما والله لو لطمتُكَ لطمةً ما أخذوا لكَ بها . فجاء جواب النعمان نابياً وبذيئاً . فغضب عمرو بن هند ، وكان يؤثِر بني تغلب على بكر ، فقال : يا جارية أعطِه لَحْياً بلسان أنثى ( أي اشتميه بلسانك ) . فقال : أيّها الملك أعطِ ذلك أحبَّ أهلِكَ إليك . فقال : يا نعمان أيَسرُّكَ أنّي أبوك ؟ قال : لا ! ولكنْ وددتُ أنّكَ أمّي . فغضبَ عمرو بن هند غضباً شديداً حتّى همَّ بالنعمان ....وقام الحارث بن حلّزة فارتجلَ قصيدته هذه ارتجالاً ، توكّأ على قوسه وأنشدها وانتظَمَ كفَّهُ ( جَرَحها ) وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغَ منها. " *
ويذكر الرواة العرب ويتابعهم في ذلك بعض المستشرقين إنّ شاعرنا أنشد معلّقته وهو في العقد الرابع بعد المئة ؛ إذ كان من المعمَّرين ، حيث توفّي، فيما ذُكِر ، عن مئة وخمسين عاماً !
أوردُ فيما يلي أبياتاً مختارة من معلّقة الحارث التي تبلغ خمسة وثمانين بيتاً يأتلفُ فيها - كما هو الحال في عامّة الشعر الجاهليّ - الغزلُ والوصف والمدح والفخر ، ناهيك عن أساليب الحِجاج والحكمة والمنطق التي اعتمدها الشاعر في دحض افتراءات التغلبيين والذّود عن قومه البكريين . وهو ما يندرج في خصائص الشعر السياسيّ ، وهو ما تهتمّ به هذه المقالة.
هذا ، وقد تواترت أقوال الرواة في إعجاب الملك عمرو بن هند بالمعلّقة وشدّة تأثّره بها ، من ذلك ما رواه ابن الكلبي حيث يقول :
" أنشد الحارثُ عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وَضَح ( بَرَص ) . فقيلَ لعمرو بن هند : إنّ به وَضَحاً . فأمرَ أنْ يُجعلَ بينه وبينه سِترٌ ، فلمّا تكلّم أُعجِبَ بمنطقه ، فلم يزلْ عمرو ( أي الملك ) يقول : أدنُوه حتّى أمرَ بطرح الستر وأقعده معه قريباً منه لإعجابه به . " **
وأضاف راوٍ آخر ، هو البغداديّ ، في كتابه ( خزانة الأدب ) :
إنّ الملك أمر بجزِّ نواصي السّبعين بكريّاً الذين كانوا رهناً عنده ، ودفعها إليه . "
جاء في المعلّقة :
١- آذَنتْنا بِبَينِها أسماءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
٢- إنّ إخواننا الأراقِمَ يغلُو
نَ علينا ، في قيلهم إحفاءُ
٣- يخلُطون البريء منّا بذي الذَّن
بِ ، ولا ينفعَ الخليَّ الخلاءُ
٤- أيُّها الناطقُ المرقِّشُ عنّا
عندَ عَمْرٍو ، وهل لذاكَ بقاءُ ؟
٥- لا تخَلْنا على غَرَاتِكَ ، إنّا
قبلُ ما قدْ ، وشى بنا الأعداءُ
٦- فبقِينا على الشناءة تُنمي
نا جُدودٌ وعزّةٌ قعساءُ
٧- أيَّما خُطَّةٍ أردتُم فأدّو
ها إلينا تمشي بها الأملاءُ
٨- فاتركوا الطَّيخ والتَّعدّي ، وإمّا
تتعاشُوا ففي التّعاشي الدّاءُ
٩- ملِكٌ مقسِطٌ ، وأكملُ مَن يَمْ
شي، ومِن دون ما لديه الثّناءُ
١٠- مَن لنا عنده من الخيرِ آيا
تٌ ثلاثٌ في كُلّهنَّ القضاءُ
١١- ووَلدْنا عمْرَو بن أمِّ أُناسٍ
من قريبٍ لمّا أتانا الحِباءُ
١٢- مثلُها يُخرِج النصيحة للقو
مِ فلاةٌ من دونها أفلاءُ
*- يُنظَر ، شرح المعلَّقات العشر المذهّبات للإمام أبي زكريا الشيباني المشهور بابن الخطيب التبريزيّ، ضبط وتقديم د. عمر فاروق الطبّاع، دار الأرقم ، بيروت ، د.ت .
**- المصدر السابق.
***- شرح بعض المفردات
١- الثَّواء : الإقامة.
٢- الأراقم : أحياء من تغلب وبكر.
إحفاء : كلّفونا ما لا نطيق.
٣- الخَلاء : البراءة من الذّنْب.
٤- المرقِّش : المزيّن القولَ بالباطل.
٥- على غراتِكَ : أي لا تحسب أنّنا جزعون لإغرائك الملك بنا.
٦- أي فبقينا رغم بغضهم لنا ترفعنا حظوظنا وعزّتنا الراسخة.
٧- الأملاء : الجماعات.
٨- الطَّيخ : الكلام القبيح ، تتعاشَوا : تتعاموا.
١١- يقصدُ عمرو بن حِجر الكنديّ جدّ الملك عمرو بن هند، لمّا أتانا الحِباءُ :
أي حين أتانا عطاء الملك لمّا خطبَ إلينا ورآنا أهلاً لمصاهرته.
١٢- أي بمثل هذا القرابة نقدّم لك النصيحة أيُّها الملك ،إنّها نصائح كثيرة وواسعة اتّساع الصحارى.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى