تَجمّدت قدماي أمام المقهى الصّادح بأُم كُلثوم:
"القلبُ قَد أَضْناهُ عِشْقُ الجَمال
والصّدرُ قَد ضاقَ..".
أُغنية "رُباعِيّات الخَيّام" تحديدا لا أستطيع مُقاومتها، وها هي تفاجئني في مقهى صغير، بشارع جانبي مُتفرّع من الميدان الكبير.
بلا تردد استدرتُ إلى اليمين ودخلت، اخترتُ الكرسي المقابل للشارع. المكان محدود، حجرة كبيرة نسبيًّا، مُوزّعة فيها ترابيزات صغيرة، فوقها مفارش بلاستيكية باهتة النُّقوش. لا شيء مُعلّق على الجدران سوى صورة رجل أصلع في برواز كبير، عرفتُ أنه صاحب المقهى الواقف هناك في الركن، خلف الحاجز المُصطفّة فوقه أكواب وفناجين وبرطمانات. كان يَترنَّم مع الأغنية، يتجاوب بحركة رأسه وترديد الكلمات. أنهَى إعداد كوبين من الشاي لشابّين دخلا قبلي، وضعَ الصينية أمامهما، وعاد نحوي يسألني عن طَلَبي.
"قهوة سادَة".
"سادَة؟ أنتَ لا تتعدّى سبعة وثلاثين، أو ثمانية وثلاثين سنة، لا زلتَ صغيرا على الطَّعْم المُرّ، لماذا القهوة السّادَة؟"
ثَبتُّ عَينيّ على ملامح الوجه الواقف أمامي، أحسستُ باقتحام غريب ومُباغت من رجُل يشغل نفسه بِعُمري ومزاجي. كظمتُ انفعالي الوشيك. أشرتُ إلى شاشة العَرض المُعلّقة جَنب الباب، والثابتة على قناة "زمان"، وحفلة أُم كلثوم بالأبيض والأسود. قلتُ: "والصّدرُ قد ضاقَ بِما لا يُقال!".
هزّ رأسه مرتين: "سأُحضر لك قهوتك".
تعلّقتُ بدائرة رأسه المُكوّرة اللامعة، وظهره المفرود في الجلباب البُنّي. فكّرتُ في تراجُعه المفاجئ عن مزيد من الأسئلة، وتنفيذ ما طلَبتُ دون جدال، هذا أفضل على كل حال.
النَّغم الشّجي لأم كلثوم متواصل: "ما أَضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بِي..".
يلعب برأسي خاطر أن أقوم وأقف في منتصف المقهى وأزعق: الأيام الضائعة كثيرة، تكاد تكون هي القاعدة.
أقبلَ بالقهوة وكُوب الماء. انحنى أمامي، لم يعتدل، ظلّ في مواجهتي بعينيه الحمراوين، وشعر حاجبيه الكثيف.
"اشربْ قهوتك على راحتك ولنا كلام، أو الأفضل أن نتكلّم لو تشاء، هات القهوة وتعال ورائي!"
صلَبَ طُوله ومشى خطوتين، ثم استدار إلى حجرة صغيرة خلفيّة، كأنّها حَمّام أو مَخزن.
هل أقوم؟ مَن هذا الرجل؟ وهل أنا مجنون لأقوم وراء أي شخص؟ الدنيا ملآنَة بالمصائب، وأنا غير مُستعدّ لأي منها. تأمّلتُ المكان من جديد، ليس فيه ما يُميّزه عن المقاهي العاديّة. تغلّبَ فُضولي في النهاية، وقمتُ حاملا فنجاني..
باب خشبي قديم بلا لون تقريبا، وراءه مساحة لا تتعدّى ثلاثة أمتار في ثلاثة، مفروشة بسجّادة حمراء قديمة. وجدتني أقف في عالم مُلّون، قديم وجديد في نفس الوقت، عالم غائم في ضوء محدود لنافذة صغيرة. لا أتصوّر كيف يوجد هذا العدد الكبير من شرائط التّسجيل في مكان واحد، ولا كيف لصُدفة غريبة أن تجمعني برجل غير مفهوم، يجلس أمامي بهدوء على كرسي صغير مُذهب، ويطلب مني أن أستريح! بقيتُ واقفًا أتأمّل ما حولي.. شرائط محفوظة داخل عُلَبها الملوّنة، ومُثبّتة على الحوائط في تشكيلات جميلة كأنها وُرود مرسومة. انتبهتُ أن الحائط من ورائي مختلف نوعا ما، فالشرائط مُنسّقة في تشكيل خَطّي يُمكن بسهولة من خلاله قراءة كلمَتَي: "أَمَل حياتي". توقّفتْ عيناي على شيء لم يعد موجودا، موضوع فوق كومودينو صغير في الرّكن: مُسَجِّل "ناشيونال باناسونيك" القديم، بأزراره الفِضيّة في أعلاه.
رَدَّني صوته: "الأغاني هنا كلّها للسِّت".
لم آخُذ بالي في البداية، رغم صور أم كلثوم الجانبية السّاطعة على العُلَب. اقتربتُ، ومضيتُ أقرأ أسماء الأغاني التي أعرفها وأحفظ الكثير منها: "الأطلال"، "دارت الأيام"، "انتَ عُمري"، "أهل الهوى"..
واصلَ كلامه: "أم كلثوم ماتت في الخارج، في أمزِجة الناس والبيوت وغالبية المقاهي الجديدة، لكنها تحيا هنا، لم أدفنها حتى اليوم!"
"معك حقّ، أم كلثوم لن تموت".
"لا، ماتت. لا تضحك على نفسك، مَن يسمع (رُباعيّات الخيّام) مثلكَ يَتقطَّع قلبه لحقيقة أنّها ماتت".
"يتقَطَّع قلبي على أشياء كثيرة، مثلما هو الآن.. اعذرني: أنتَ كمَن يرجع بِظَهْره، في شارع ليس فيه أحد".
"لا أنتظر شَفقتكَ، ولو كنتَ تراني أرجع بِظَهري فهذا رأيكَ. أرجع بظهري أو أتقدّم للأمام: ما الفرق؟ طالما أنّ شارعي خالٍ كما تقول، أو على الأقل فيه قليلون مثلي، يسمعون السّت على شاشة عرض حديثة.. أو على مُسجّل ناشيونال عتيق".
لم أتوقّع أن يُجادلني الرّجل بهذا المَنطِق المُتماسك، أنا أيضا لا أعرف الفرق بين أن أمشي للوراء أو للأمام، في شارع يُشبهني، به بشر مُجتمعون على أُم كلثوم أو غاندي أو مارادونا.. الفرق سيتّضح حين أسير في شارع يختلف عني.
"هل معنى ذلك أنكَ لا تخرج من هنا، أو من المقهى بالأصح؟"
"طبعا أخرج وأتمشّى وآكُل وأشرب مثلك، ستتَعجّب إذا قلتُ لك إنني دائما هنا، حتى وأنا في أي مكان".
عرفتُ أنني وجدتُ جزءا من نفسي في كلام الرجل، في المقابل لا أحتمل أن أعيش وأتحرّك وأنا مُسَمَّر بروحي في مكان واحد، هذا لا يُطاق.
رشفتُ آخر ما تبقّى من قهوتي المُرّة الباردة.
"تمام، شكرا على الضيافة والجو الحميم. لو طلبتُ منك شَريطا للسّت، ماذا ستختار لي؟"
"كلّهم أمامك، اختر ما تريد. سمعتكَ تُردد من رُباعيّات الخيّام، ما يعني أنّ ذوقَكَ عالٍ. خُذ هذا".
أعطاني شَريط "هذه ليلتي". سأحتفظ به، ولمّا يأتيني الشّوق سأسمع الأغنية على النّت في أي وقت. شكرتُه بابتسامة ناقصة. خرجتُ عابرا المقهى إلى الشارع، تمايلتُ مع أم كلثوم الواصلة إلى القِمّة: "أَطْفِئ لَظَى القَلْبِ بِشَهْدِ الرِّضَاب..". خرجتْ مِنّي "آآآه" طويلة.
بعد خطوات تذكّرتُ أنني لم أدفع ثمن القهوة، رجعتُ وأخرجتُ النّقود. ردَّ يدي، حالِفا بالله، أنّ هذا لا يَصحّ، خُصوصا أنّها المرّة الأولى التي أزوره فيها.
****
حسام المقدم
"القلبُ قَد أَضْناهُ عِشْقُ الجَمال
والصّدرُ قَد ضاقَ..".
أُغنية "رُباعِيّات الخَيّام" تحديدا لا أستطيع مُقاومتها، وها هي تفاجئني في مقهى صغير، بشارع جانبي مُتفرّع من الميدان الكبير.
بلا تردد استدرتُ إلى اليمين ودخلت، اخترتُ الكرسي المقابل للشارع. المكان محدود، حجرة كبيرة نسبيًّا، مُوزّعة فيها ترابيزات صغيرة، فوقها مفارش بلاستيكية باهتة النُّقوش. لا شيء مُعلّق على الجدران سوى صورة رجل أصلع في برواز كبير، عرفتُ أنه صاحب المقهى الواقف هناك في الركن، خلف الحاجز المُصطفّة فوقه أكواب وفناجين وبرطمانات. كان يَترنَّم مع الأغنية، يتجاوب بحركة رأسه وترديد الكلمات. أنهَى إعداد كوبين من الشاي لشابّين دخلا قبلي، وضعَ الصينية أمامهما، وعاد نحوي يسألني عن طَلَبي.
"قهوة سادَة".
"سادَة؟ أنتَ لا تتعدّى سبعة وثلاثين، أو ثمانية وثلاثين سنة، لا زلتَ صغيرا على الطَّعْم المُرّ، لماذا القهوة السّادَة؟"
ثَبتُّ عَينيّ على ملامح الوجه الواقف أمامي، أحسستُ باقتحام غريب ومُباغت من رجُل يشغل نفسه بِعُمري ومزاجي. كظمتُ انفعالي الوشيك. أشرتُ إلى شاشة العَرض المُعلّقة جَنب الباب، والثابتة على قناة "زمان"، وحفلة أُم كلثوم بالأبيض والأسود. قلتُ: "والصّدرُ قد ضاقَ بِما لا يُقال!".
هزّ رأسه مرتين: "سأُحضر لك قهوتك".
تعلّقتُ بدائرة رأسه المُكوّرة اللامعة، وظهره المفرود في الجلباب البُنّي. فكّرتُ في تراجُعه المفاجئ عن مزيد من الأسئلة، وتنفيذ ما طلَبتُ دون جدال، هذا أفضل على كل حال.
النَّغم الشّجي لأم كلثوم متواصل: "ما أَضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بِي..".
يلعب برأسي خاطر أن أقوم وأقف في منتصف المقهى وأزعق: الأيام الضائعة كثيرة، تكاد تكون هي القاعدة.
أقبلَ بالقهوة وكُوب الماء. انحنى أمامي، لم يعتدل، ظلّ في مواجهتي بعينيه الحمراوين، وشعر حاجبيه الكثيف.
"اشربْ قهوتك على راحتك ولنا كلام، أو الأفضل أن نتكلّم لو تشاء، هات القهوة وتعال ورائي!"
صلَبَ طُوله ومشى خطوتين، ثم استدار إلى حجرة صغيرة خلفيّة، كأنّها حَمّام أو مَخزن.
هل أقوم؟ مَن هذا الرجل؟ وهل أنا مجنون لأقوم وراء أي شخص؟ الدنيا ملآنَة بالمصائب، وأنا غير مُستعدّ لأي منها. تأمّلتُ المكان من جديد، ليس فيه ما يُميّزه عن المقاهي العاديّة. تغلّبَ فُضولي في النهاية، وقمتُ حاملا فنجاني..
باب خشبي قديم بلا لون تقريبا، وراءه مساحة لا تتعدّى ثلاثة أمتار في ثلاثة، مفروشة بسجّادة حمراء قديمة. وجدتني أقف في عالم مُلّون، قديم وجديد في نفس الوقت، عالم غائم في ضوء محدود لنافذة صغيرة. لا أتصوّر كيف يوجد هذا العدد الكبير من شرائط التّسجيل في مكان واحد، ولا كيف لصُدفة غريبة أن تجمعني برجل غير مفهوم، يجلس أمامي بهدوء على كرسي صغير مُذهب، ويطلب مني أن أستريح! بقيتُ واقفًا أتأمّل ما حولي.. شرائط محفوظة داخل عُلَبها الملوّنة، ومُثبّتة على الحوائط في تشكيلات جميلة كأنها وُرود مرسومة. انتبهتُ أن الحائط من ورائي مختلف نوعا ما، فالشرائط مُنسّقة في تشكيل خَطّي يُمكن بسهولة من خلاله قراءة كلمَتَي: "أَمَل حياتي". توقّفتْ عيناي على شيء لم يعد موجودا، موضوع فوق كومودينو صغير في الرّكن: مُسَجِّل "ناشيونال باناسونيك" القديم، بأزراره الفِضيّة في أعلاه.
رَدَّني صوته: "الأغاني هنا كلّها للسِّت".
لم آخُذ بالي في البداية، رغم صور أم كلثوم الجانبية السّاطعة على العُلَب. اقتربتُ، ومضيتُ أقرأ أسماء الأغاني التي أعرفها وأحفظ الكثير منها: "الأطلال"، "دارت الأيام"، "انتَ عُمري"، "أهل الهوى"..
واصلَ كلامه: "أم كلثوم ماتت في الخارج، في أمزِجة الناس والبيوت وغالبية المقاهي الجديدة، لكنها تحيا هنا، لم أدفنها حتى اليوم!"
"معك حقّ، أم كلثوم لن تموت".
"لا، ماتت. لا تضحك على نفسك، مَن يسمع (رُباعيّات الخيّام) مثلكَ يَتقطَّع قلبه لحقيقة أنّها ماتت".
"يتقَطَّع قلبي على أشياء كثيرة، مثلما هو الآن.. اعذرني: أنتَ كمَن يرجع بِظَهْره، في شارع ليس فيه أحد".
"لا أنتظر شَفقتكَ، ولو كنتَ تراني أرجع بِظَهري فهذا رأيكَ. أرجع بظهري أو أتقدّم للأمام: ما الفرق؟ طالما أنّ شارعي خالٍ كما تقول، أو على الأقل فيه قليلون مثلي، يسمعون السّت على شاشة عرض حديثة.. أو على مُسجّل ناشيونال عتيق".
لم أتوقّع أن يُجادلني الرّجل بهذا المَنطِق المُتماسك، أنا أيضا لا أعرف الفرق بين أن أمشي للوراء أو للأمام، في شارع يُشبهني، به بشر مُجتمعون على أُم كلثوم أو غاندي أو مارادونا.. الفرق سيتّضح حين أسير في شارع يختلف عني.
"هل معنى ذلك أنكَ لا تخرج من هنا، أو من المقهى بالأصح؟"
"طبعا أخرج وأتمشّى وآكُل وأشرب مثلك، ستتَعجّب إذا قلتُ لك إنني دائما هنا، حتى وأنا في أي مكان".
عرفتُ أنني وجدتُ جزءا من نفسي في كلام الرجل، في المقابل لا أحتمل أن أعيش وأتحرّك وأنا مُسَمَّر بروحي في مكان واحد، هذا لا يُطاق.
رشفتُ آخر ما تبقّى من قهوتي المُرّة الباردة.
"تمام، شكرا على الضيافة والجو الحميم. لو طلبتُ منك شَريطا للسّت، ماذا ستختار لي؟"
"كلّهم أمامك، اختر ما تريد. سمعتكَ تُردد من رُباعيّات الخيّام، ما يعني أنّ ذوقَكَ عالٍ. خُذ هذا".
أعطاني شَريط "هذه ليلتي". سأحتفظ به، ولمّا يأتيني الشّوق سأسمع الأغنية على النّت في أي وقت. شكرتُه بابتسامة ناقصة. خرجتُ عابرا المقهى إلى الشارع، تمايلتُ مع أم كلثوم الواصلة إلى القِمّة: "أَطْفِئ لَظَى القَلْبِ بِشَهْدِ الرِّضَاب..". خرجتْ مِنّي "آآآه" طويلة.
بعد خطوات تذكّرتُ أنني لم أدفع ثمن القهوة، رجعتُ وأخرجتُ النّقود. ردَّ يدي، حالِفا بالله، أنّ هذا لا يَصحّ، خُصوصا أنّها المرّة الأولى التي أزوره فيها.
****
حسام المقدم