د. علي زين العابدين الحسيني - الحبّ عند محمد رجب البيومي

إن القارئ لآثار أستاذنا محمد رجب البيومي سيدرك أنّه تكلم عن حياته الوجدانية بشيء من التفصيل إذا ما قورن بغيره من الأدباء المحافظين، فتكشف كتاباته لنا عن مشاعر مرهفة وملكات جمالية قادرة تؤكد ما يختزنه هذا الأديب من أحاسيس، وما يتمتع به من صدق في العاطفة، وسمو في الحس، ووضوح في الرؤية.
هو رجل مسجور العاطفة، رقيق الطبع، صادق المشاعر، يبصر الجمال، وينشد الحب، وإذا تكلم في الحب وأربابه كان كلامه تعبيراً صادقاً عن مشاعره، وتصويراً ناطقاً لأحاسيسه، وهو جانب خفي من حياته، ربما أظهر بعضه في قصائده عن زوجته المصونة، وقصة حبه المروية في سيرته الذاتية، لكن هذا المنحى في الكتابة خفي يكاد لا يعرف عنه في الأوساط الثقافية، وأجزم أنه لو تفرغ للكتابة فيه لأسكت غيره، وكان إذا جلس إليه أحد ثقاته أخذ ينفس عما في قلبه بهذه الأحاديث التي ترهف المشاعر، وتقوي المخيلة، فتحسب أنه طائر يغني على الأغصان.
وأما عن سرّ عدم توغله في هذا الشأن فقد أبان عن فحواه في مقاله "أين المقال الأدبي الذاتي؟" المنشور بجريدة "الهلال"، أول يوليو 2000، وفيه يقول: "ومن ذكرياتي الحبيبة مع أخي الأديب الفنان الأستاذ كمال النجمي -رحمه الله- أنّي أرسلت له مقالًا عن (الحب الصامت) فحدثني تليفونياً أنه سيجازف بنشر هذا اللون، وقد تفضل فنشر المقال مشكوراً ... ولكنّي امتنعت أن أسترسل في هذا المنحى كيلا تكون هناك مجازفة أخرى، وأكبر الظن أنّه خاف عليّ إذ أتحدث عن الحب، وأنا عالم أزهري". وكان يصرح كثيراً أنه لا مانع لديه من الكتابة في هذا الجانب لأنّ "كبار علماء الإسلام من أمثال ابن داود الظاهري وابن حزم وابن الجوزي قد وضعوا كتباً مستقلة في الحب، لا مقالات طائرة، وهم خاضعون لإلحاح عنيف عبر عنه الشاعر أحمد محرم حين قال:
ما يصنع القلب الطروب إذا الهوى بلغ القرار وجال في الأعماق"
وفي موضع آخر يقرّ أننا "نعلم عن كثير من الفقهاء والمحدثين ضروباً من الحب العذري الصادق، وقد يكون هذا مستغرباً لدى مَن يظنون التفقه في الدين والتمسك في العبادة مما يمنع خفوق القلب بالهوى، والتهاب الجوانح بالشوق! ولكن هذه الدراسة فقط مما يساعد على إعلاء الغرائز وسمو العواطف ... لا عجب إذن أن يكثر الحب العذري في تاريخ الفقهاء، وهم قوم ذوو تصون وعفاف بل إن العجب ألا يكون مع ما يحملون من قلوب خفاقة وعواطف رقيقة ووجدان مشبوب". [مقال: ابن حزم يتحدث عن الحب، مجلة الأديب، 1 نوفمبر 1971]
لقد رسم البيومي صورة الحب الأول في سيرته الذاتية "ظلال من حياتي" ص66 حين قال: "كنت أعجب لها كثيراً، فهي ذات ذكاء واطلاع، يتجلى أثر هذين في حديثها الأدبي المسترسل، ولها تبسط في الأسلوب يجعلك تلمس ما وراء معانيه من صواب سديد، وهي في رسائلها كأحاديثها مطبوعة على الصدق دون التكلف، ولا يفارقها استطرادها الذي أعجب به كثيراً؛ لأنه يعرض قفزات عقلية واثبة لا شك في ارتفاعها".
وإن لم يستطع الحديث مع محبوبته فإنه يخاطب ما يتعلق بها؛ كمنزلها بشوق وتلهف في قوله: "أيها المنزل الحبيب! أخالك أصبحت صديقي، فأنت تراني دائماً أطوف حولك كما يطوف العابد بكعبة مولاه، أفلا يكون بعد ذلك منك إبداء للسريرة، وبوح بالمكنون الخفي، فتنطق سريعاً بما أريد، دون أن ترهقني بالدوران المتصل، والتطلع اللهيف، ما ذلك منك بعزيز". [مقال: من أوراق الورد، مجلة الأديب بتاريخ 1 أغسطس 1983م]
وهو المحبّ الذي يهتف بالجمال حين يرى ما يدفعه إلى ذلك دفعاً، ففي الطريق الذي يمر فيه على منزل يحمل لصاحبته شريف العاطفة وطاهر الحنين يقول: "فتطلعت أنظر عالياً لأجد ذات الذراعين الفضيتين الشفيفتين تضرب بهما على وسادة حريرية منقوشة بأبهج الوشى، فخيل إليّ أن هاتين الذراعين جد ولان يترقرقان في حر الظهيرة بين مرج نافر! وهل كانت الوسادة بصورها الزاهية غير روض بهيج؟ وتابعت النظر لأرى ابتسامة صافية تشع في وجه أبيض متناسق عهدي به في غير هذا الوقت كالبدر وضاءة، ولكن وهج الشمس أحاله إلى كم من الزهر يتوهج بنور ونار معاً". [مقال: المشهد الثالث، مجلة الأديب، 1 مايو 1983]
وإنه يحكي بلا حرج سيرة العاشقين في مقالاته، فيذكر عن أستاذه عبد الكريم جرمانوس أنّه كان جالساً معه في فندق سميرميس، وكان الرجل يتحدث معه عن جلسات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فدخلت عليهما في الردهة الواسعة بالدور الأول "فتاة عربية تضع الخمار على وجهها بحيث لم يبد غير عينيها الواسعتين، وكان ثوبها الحريري الأسود يظهر قوامها الرشيق في أجمل مظهر، وقد عبرت أمامنا ففاح عطرها ساطعاً جاذباً، حتى لكأن الردهة قد تحولت إلى روضة ورود، وأخذت طريقها إلى السلم في إيقاع مطرب رنّح عطفي صاحبي، فوجدته ينهض واقفاً، ثم ينظر مشدوهاً، ويجلس فما يكاد يستقرّ حتى يرمي ببصره إلى السلم ويقول: شبيهتها" [مقال: المستشرق العاشق، مجلة الهلال،1 أبريل 1982]
ويمضي البيومي في حديثه عن العاشق المستشرق الذي جاوز عمره الثمانين، وقد سأله عن تلك الحالة الغريبة التي رآه فيها، فأخبره أن هذه الفتاة ذكرته بحبيبته القاهرية التي كان مغرماً بها، وقد بادلته الإعجاب والحب، لكنه حرم منها، وقد كتب الأستاذ محمود تيمور عن قصته الغرامية في إحدى مجموعاته القصصية بعنوان "خلف اللثام" وكتب عنه مقالًا في هذا الاتجاه بمجلة "قافلة الزيت" تحت عنوان "الدكتور عبد الكريم جرمانوس عاشق الشرق والعروبة والإسلام" وفيه أنه جمع بين الطاعة لنداء العقل والانجذاب إلى هتاف الروح، وبين الارتباط بالواقعية والتطلع إلى الرومانسية.
ويؤرخ الأستاذ لحب كبار الكتّاب والشعراء، ويرصد واقعه في حيواتهم، فيذكر أن الأستاذ عباس محمود العقاد وقع في شرك الحب، وذاق حلاوته في شبابه "وكتب عنه أروع قصائده، ثم تقلبت به شجون السياسة فانتحى معتزلًا فترة من الزمن، وإذ ذاك هبط عليه الحب بعد الخمسين ليعوضه من لجب المخاصمة، وعراك السياسة ما ينعش الجديب في صمته الراكد".
ولم يهمل أستاذنا الكلام عن محنة الشاعر أحمد محرم، فقد ظل غرامه حديث الأدباء بالقهوة الأدبية بدمنهور، وكان الشاعر يترفع عن مجالسة الكثيرين من المنتسبين للأدب "فانتهزوا محنة قلبه ليجعلوه موضع التهكم، إذ يحكون عن الشاعر أنه كان ينتظر صاحبته ليحمل حقيبتها مودعاً إياها حين تسافر ومستقبلًا حين تعود ... وكان يرحل من دمنهور حين تتأزم مشاعره فراراً من تجواله الاضطراري حول مدرستها دون موجب". [مقال: الحب بعد فوات الشباب، مجلة الهلال، 1 يونيو 1990]
وللبيوميّ آراء مهمة في الحب فهو يرى أن "في كتمان الحب لذة صامتة، هي لذة الاحتفاظ بالعهد المستور، العهد الذي كتبته النظرات الصامتة، دون أن ينطق به لسان، وإنه لعهد مديد فسيح، لأن الكلمات قد عجزت عن أن تحده، فظلّ مديداً يتسع لكل ما تتخيله النفوس، ولو صيغ في حروف معدودة لما اتسع هذا الاتساع، فربّ نظرة واحدة يحتاج شرحها إلى مجلدات". [من أوراق الورد]
ويعتقد أن الحب ليس له "سن يقف لديها، فالطفل والصبي والشاب والكهل والشيخ، كل أولئك يحبون، دون أن يفترق الحب لديهم في جوهره، وإنما اشتهر عهد الشباب بالحب؛ لأنه عهد الأمل المورق، والرجاء الواعد، كما أنّه عهد الثورة المتطلعة والعزيمة المتقدة، وللشباب صراحة تعلن المستتر، وتكشف المكنون، أما بعد الشباب فإن الهدوء يسيطر لا ليخفي الحب، بل لينأى به تحت أطباق متراكمة، فإذا استطاع دخانه أن يتغلب على ما فوقه من رماد فإنه ينبعث في الجو رقيقاً متقطعاً، وكأنه يمشي على استحياء ينبعث متعقلًا، لا يرسل الخاطر العابر دون فلسلفة شارحة، ولا يبعث الدمعة المترقرقة دون اعتذار". [الحب بعد فوات الشباب]
ويجمع إلى عذوبة الروح عذوبة الألفاظ وسحر الأساليب، ففي أسلوبه عن الحب يجتمع الحسن والفن والجمال والروعة، ومنه قوله: "أما العينان فمنفذان ساطعان من أصفى منافذ الضوء، وقد انحسر ثوبها عن نحر ساطع لا تقوى غلالتها الشفيفة على كتمان محاسنه؛ نظرت مأخوذاً وأطرقت سريعاً فلم أستطع أن أوالي النظر ... بعدت عن المكان وبعدت صورته عن عيني دون أن تبتعد عن خاطري، لأن ارتسامها القوي قد ملأ أنحاء نفسي، فأنا أعي كل ملمح من ملامحها، وأدرك كل ضئيل حتى رجفة الثوب، ورعشة العذار". [المشهد الثالث]
ويسمو الحب عند البيومي مع نمو اتجاهه الأصلي فيستجيب لندائه، ففي لحظة من لحظاته كان تفكيره في موعد الشرفة أكثر من اهتمامه بمرضه وراحته، سيضطر لأجل ذلك إلى ترك أعماله الكثيرة حتى لا يتأخر عن الموعد؛ لأنه سيحرم -على حد تعبيره- من خير كثير، ويصف تلك المشاعر بقوله: "غلبتني هواتفي المشتاقة، فصممت أن أترك موضع الراحة، وأن أطير إلى المكان الحبيب مهما كانت العاقبة؛ إذ لا أستطيع أن أتصور أن مكاني سيكون خالياً حين تطلبني عينان ساحرتان تنظران ذات اليمين فلا تجدان غير الفراغ، وما كدت أسير خطوة أو خطوتين، حتى ترنحت غير متماسك، وكدت أقع على الأرض في ضعف، ورجعت حزيناً إلى السرير سرير المرض". [من أوراق الورد]
ومما يتصل بهذا أن نهاية حبه الأول كان أسرع مما يتوقع، فكان رفضه للارتباط بحبيبته راجعاً إلى ضعف مستواه المادي آنذاك، وهو موقف قد زاده همامة في عينها، وبقي بعد زواجها متلهفاً إلى سماع أخبارها، فحملته رجلاه إلى مسكنها بالإسكندرية ليسأل الحارس عن جديدها، فأخبره بسكنها تطوعاً، وهو ما ندم عليه، إذ جدد في قلبه أحاسيسه القديمة، فقد شغل بكثرة التردد إليه كلما نزل القاهرة، وهو كما يصفه عمل اضطراريّ لا حيلة له فيه، ويصور حالته بقوله: "فكم حاولت أن أعقل، لأن السعي خائب خائب، ولكن من الذي يستطيع أن يكبح جماح عواطفه كل حين". [ظلال من حياتي، ص76]
وعاطفته في الحب جاءت على نسق طبيعة حياته الهادئة المعتدلة، فلا يعرف عنه أنه من أولئك الرجال الذين أحبوا حباً عنيفاً، لكنه بطبيعة الحال يرى أن المرأة ملهمة للشعراء والأدباء، ولذا كانت أكثر أحاديثه مع محبوبته سعاد كامل في الأدب، وفي لقائهما الأول كان الحديث عن ابن الفارض وبعض قصائده، وعن مقال لأستاذنا البيومي نشره قديما عن أخلاق البحتري.
وهو يعرف الحب في صورة موضوعية تدلّ على نقاء السريرة وصفاء النفس فحين كتب لها خطاب الفراق الأبدي قال: "وعانيتُ مرهقات صعبة وأنا أكتب لها عذري في خطاب آسف متوجع، وكانت أنبل مما كنت أتصور، فكتبت تقول إنها تحس بأضعاف ما أحسّ، وأن موقفي قد زادني همامة في عينها، وقد قدّر الله ذلك ليبقى حبنا أمد الحياة" ومضى في حديثه إلى أن ذكر أنها سبقته إلى جوار ربه، فقرأ نعيها، وحرك ما كمن، وهيج ما سكن. [ظلال من حياتي، ص75]
وحين يكتب البيومي نثره في شرح أشعار الحب أو ينظم قصائده فيه فإنه يرسل رسائل مهمة في هذا الشأن؛ كشرحه لقصيدة خليل مطران "ولقد ذكرتك" فقد وقف فيها على معان كثيرة تغيب عن شارحيها، وسببها -كما وضحه- أن الشاعر العاشق نزل "منزلًا أنيقاً في بستان ناضر الزهر، وشاهد من حسن المكان ما جعله يتمنى أن يكون مع حبيبته لتصبح جمالًا ناطقاً يضاف إلى الجمال الصامت، هذا في أوقات البهجة، وهي نادرة في حياة العاطفيين التي تفور بالألم، وتعج بالحرمان، ولهذا كانت أكثر ذكريات هؤلاء نائحة شاكية، وكان أكثر ما بدئ منها بقول الشاعر: ولقد ذكرتك مما يصور لواهج الوجد الدفين". [مقال: ولقد ذكرتك، مجلة الأديب، 1 يونيو 1979]
ويمضي البيومي في حياته الزوجية ويستمرّ معه الحب قوياً صادقاً ممتداً على الأيام حتى إنك لتستشعر قوة حبه لزوجته السيدة "عصمت أحمد عبد الملك" من مصيبة فقدها في بلد الغربة، فحين فقد زوجته الكريمة ظل يواسي نفسه، فعكف على رثائها في مجلة "الأديب" بعدة قصائد تحمل عناوين كثيرة تدعو إلى التأمل وعظم الفقد، منها: زوجتي الشهيدة، ورفيقة دربي، ووا زوجاه، لا تغب ... إليها في أنضر فردوس، ويقولون يا أماه، وبعد عام، وغيرها من عيون القصائد النفيسة.
ويعدّ ديوانه "حصاد الدمع" ثالث ثلاثة في رثاء الزوجات بعد الشاعرين عزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي، لقد عبر فيه عن مشاعره نحو زوجته التي فقدها أثناء عمله بالسعودية، فذكر في ديوانه الكثير عن حياتهما وطبائعها وأخلاقها ورحلتها في الحياة معه، ثم تطرق في الحديث عن رحلتها مع المرض في السعودية، وأعاد لنا تلك الذكريات المؤلمة في قصائد عزيزة تظهر مكانتها في نفسه، وصور لنا كيف رجع من بلد غريب بدونها، وهو في كل قصائده يبعث على الحزن والشجن، ويدرك القارئ من خلالها كيف أضناه الفراق وسقاه البين حنيناً ولوعة، كما أنها تدلل على عمق الوفاء وتغلل الحزن في قلب المحب الصادق.
فإذا أضيف إلى هذا الديوان المملوء بالحب والوفاء مقالاته الأخرى وأحاديثه عن الذكريات وأماكنها أمكنك أن ترسم الصورة الكاملة عن عواطفه وأحاسيسه! وهذا غيض من فيض، فلم يسمح الزمان لي بمعالجة جميع القضايا المتعلقة بهذا الجانب!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى