كاهنة عباس - عن طبيعة النفس

لن أتحدث عن النفس من وجهة نظر دينية باعتبارها أمارة بالسوء أو لوامة أو مطمئنة ، و لا من وجهة نظر علم النفس بالرجوع إلى النظرية الفرويدية التي اعتبرت النفس خريطة تنقسم إلى ثلاث مساحات الأنا الأعلى الأنا والهو ،لكل منها وظيفتها ، لا عن الوجهة نظر فلسفية التي تعرف النفس حسب علاقتها بالزمن أي أنها مساحة من الانتظار والتأويل والوعي ،بل سأطرح تركيبية النفس من وجهة نظر أخرى لا تحددها علاقتها بنفسها ولا أهواؤها ولا زمنيتها ، بل بما تحتويه من أحاسيس و ما تكتنفه من طاقة .
فمن مشاكل النفس الكبرى أن جوهرها في الأصل فراغ ، لان ماهية الإنسان في الأصل فراغ ، وحجتي على ذلك توقه المستمر لإثبات وجوده من خلال الظفر بالمال والسلطة والجاه وغيرها من السبل الأخرى لان قيمته متصلة بنظرة الآخرين لما هو عليه ، أما الحجة الثانية التي لا تقبل الدحض فتتمثل في أنه كائن زائل ولا يمكن أن يتمتع بجوهر مستقر .
فإذا ما سلمنا أن النفس فضاء رحب يعي ذاته بذاته ، ومنفتح على العالم الخارجي بفضل أحاسيسه يمكننا إذا تشبيهه بالآلة الموسيقية ذات الأوتار المتعددة ، أما أوجه الشبه بين الآلة الموسيقية والنفس فهو ذلك الفراغ القابل للتحول من خلال التأليف والتأويل لهوامش الفراغ والفواصل ، ويكمن السر الأعظم في كيفية امتلاء الفراغ حسب درجات ومراتب الأوتار وانسجام ما تصدره من أنغام بالنسبة للآلة الموسيقية، أما في ما يخص النفس، فالعبرة بالحالات والانفعالات التي تسكنها ،فالفرح درجات وأنواع مثل البهجة والانشراح والسرور والمتعة والحزن درجات مثل الانقباض والشجن والانكسار والاكتئاب والقلق أنواع مثل القلق المستمر الزائل والمؤقت و الانتظار.
لن أتعرض بالتفصيل إلى جميع الأحاسيس الكفيلة بأن توهم النفس بالامتلاء لأنها عديدة تتجاوز ما ذكرنا ، فالهدف من وصف بعضها هو أن نزن إيقاعها أي مدى انتشارها داخل النفس وخارجها، كما هو الشأن بالنسبة للعزف الصادر عن آلة موسيقية .
ولكي نقدر ذلك الإيقاع حق قدره ،علينا أن ندرك أن الإحساس جامع بين ما هو مادي وما هو روحي ومرد ذلك أن النفس تستمد أحاسيسها من كل ما يتقبله الجسد حسيا ومعنويا فتقرؤه تؤوله ثم تحوله إلى عزف قد يتخذ بدوره ألف شكل وشكل كأن يكون كلاما ، شعرا ، فنا ، رسما ، غناء، عملا ، حركات ، رقصا ، مشيا ، ضحكا ، أما أوتارها فهي مختلفة ،منها ما يصدر نغما رقيقا، ومنها ما يصدر نغما غليظا، منها ما هو منساب وما هو متعثر وما هو مرتفع وما هو منخفض مثل الأجواء السائدة في السموات أثناء مختلف الأوقات والساعات .
لذلك تنساق النفس وراء الموسيقى وترى فيها ما يعبر عنها لغة ووجدانا لما يجمعهما من صفات، كما سبق وأشرنا لاتحاد طبيعتهما المتألفة من فراغ قابل للتلحين والعزف والتأويل والانتشار .
ما الذي يحدث أثناء التلحين ؟
- ينفصل الإحساس عن اللحظة الحاضرة يصبح شبيها بالسحابة العابرة المسافرة إلى عوالم أخرى وأزمنة مختلفة فللفرح زمن وللحزن زمن وللخيبة زمن وللغضب زمن وللانتظار زمن وللقلق زمن جميعها أزمنة موازية للزمن الخارجي ، كذلك تسبح النفس في بحور عوالمها ،فتطفو على السطح أحيانا و تغرق في عمق أسرارها أحيانا أخرى وقد تحلق بعيدا في السموات .
فأشد ما يأسر النفس هي حقيقتها ، فإن لم تفلح في تلحين أنغام منسجمة بين أوتارها صدر عنها ضجيج مشتت الأجزاء .
إذ تقع على قمة مثلث يتكون من ثلاث زوايا تتعلق زاويته الثانية بالجسد والثالثة بالروح، أما مهمتها فتتمثل في تحويل أحاسيس الجسد إلى إدراك بكل ما يحيط به وأن تؤوله أي أن تمنحه معنى ،على أن تبقى هي نقطة الميزان بين زاويتي الجسد والروح .
كذلك تسعى إلى التوفيق بين أفكارها وأحاسيسها ثم تبثها من حولها لكي ترويها بعد ذلك كلما شاءت .
أما عن أكثر الأحاسيس غموضا وشدة، فهي تلك التي تعود إلى صاحبها بعد النسيان أي بعد احتكاكها بالعدم ،فتثير لديه بعض الصور والذكريات، يتلقاها كأنه بين اليقظة والنوم مشحونة تارة بجو من الرقة وطورا بأجواء من التسلط، فإذا به ينشد الإنعتاق بعد أن تملكه الحنين إلى ما فات ، إنها أشد الأحاسيس وطأة على النفس من التعلق .
فليس النسيان سوى محو للإحساس الذي خلفه حدث ما ،أما التذكر فهو استعادته بعد زواله ، فكيف وأين مكثت تلك الأحاسيس بعد محوها ، في أية ذاكرة وأي زمن وكيف أمكن استرجعها ؟
تلك هي الأسئلة الكبرى التي قد تكشف لنا طبيعة النفس ومميزاتها وهو سؤال الذي القديس سات أوقدسان في كتابه الاعترافات .
وما يعنيني ليس التفسير الميتافيزيقي بل تلك الحركة الخفية بين النسيان والتذكر لحوادث لم تعد موجودة حفظتها الذاكرة وبقيت مخفية في أعماقنا
هل للنفس علم مسبق بما كان وبما سيكون بحكم اتصالها بالروح ؟
هل للروح معرفة كاملة وشاملة لكل ما سيحدث كما ذكر سقراط ؟
هل التذكر اتصال بملكة كل منهما ؟ كيف للنفس أن تسترجع ما فات أن تحفظه أن تنشأ من خلاله هويتها أو بالأحرى حكايتها ؟
فلو رجعنا إلى أصل كلمة النفس لاستنتجنا أنها تعود إلى النفس والتنفس أي استنشاق الهواء الضروري لتواصل الحياة ولو فكرنا قليلا لعلمنا أن جميع الحالات النفسية تتسم إما بسريان التنفس وسهولته أو بانقباضه داخل الجسد.
ثم إن النفس هي مصدر الشهوات والانفعالات وخزان للذكريات والاهتزازات والصدمات ، كأنها تكتب ما شهدته من أحداث على صفحاتها أثناء استنشاقها للهواء ، هل تكون تلك علامة من علامات وجودها في مكان ما وفي زمان ما ؟
هناك سريان غريب عجيب بين الهواء الذي ينفذ إلى النفس وما تبثه بدورها في الفضاء من انفعالات ومشاعر يتجاوز كل تعبير يكتب أو يقال ، فما ينفذ إلى النفس ويؤثر فيها ويغير من أحوالها متصل بطريقة تقبلها لما شهدته وما عاشته من أحداث وما أدركته من حقائق ،وتلك هي مهمة النفس المتصلة بالتنفس فهي تتقبل أحاسيس الجسد تؤولها ثم تحفظها لتصبح شاهدا عليها فهي المقبل والمؤول والشاهد .
أما عن قدرتها لاسترجاع أحداث ولت ومضت ونسيت فلأنها تعيش في زمنية أخرى غير زمنية الجسد الذي يحيا في الحاضر فحسب أما النفس فإنها تعيش حينا جميع الأزمنة ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، لذلك فهي قادرة على تعيش الحلم والوهم والواقع ما وحدث وما لم يحدث .
ما النفس إذا ؟
قطرة من الدهر عند حدوثه حلت بالجسد فأصبحت عليه شاهدا ولكي تكون كذلك كان لا بد أن تكون المؤول والفاعل لما نحيا .

كاهنة عباس









تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى