تلوح له كالحلم.. كالطيف.. كنسمة منعشة.. كالفرح المباغت.. طيبة وطيعة ورقيقة.. تغمره بالحنان.. تغرس الزهور في حدائق أيامه.. ما أسرع انتشارها في نفسه.. مثل العبق في ليالي البهجة..
يحلو له الهرب من صخب العمل والمسئوليات الملقاة علي عاتقه.. يتمدد ويتمطي.. يدخل حيث الأمسيات الهامسة.. يشرب أشعة القمر ويرتوي بالضوء.. بعد أن تكاثفت العتمة في صدره.. في غياب الحلم وطيفها المنعش.. وهي المسافرة في دمه.. يتجرع حزنه بترفع.. ويذبل لكن بشموخ.. صدره حقيبة مغلقة علي قلب متوثب ينبض بالحب.. مفتاحه يرقد في أعماق نهر بلا قرار.. دخلت مكتبه بلا استئذان.. تسبقها ابتسامة تذيب الجليد وتنشر الارتياح.. وتبلسم الجراح.. إنها المرأة الحلم.. وقف مدهوشا أمام هذه الثنائية الفريدة.. ضوء النهار الباهر.. والقمر الزاهر.. كيف تحقق لهما الاجتماع في واحدة.. القلم في يده يسرع تارة ويتردد تارة أخري.. ويتوقف أحيانا.. ثم يعود فيسرع مرة أخري.. حالة من الفوضي انتابته.. أصابته بصحو مفاجئ.. حاول الإمساك باللحظة الفارقة التي أربكت التقويم في بوصلة أيامه.. ترك القلم والمكتب.. وأخذ يسير في اللا مكان.. وفي اللا أمام.. وفي اللاخلف.. تري متي عبر ذلك الحلم.. في الصبح أم في المساء.. حلقه جاف.. بحره دون ماء.. تسللت في دعة وهدوء إلي أعماقه.. تملأ بحاره وتروي عطشه.. حبات ملح تلمغ فوق شفتيها الممتلئتين.. يرقبها بعناية.. عيناها مفعمتان بحزن غامض.. يتعذر وصفه.. تدور عيناه تمسح اللاشيء.. لابد لها من استكمال باقي الأوراق التي تقدمت بها إليه في الغد.. أي قوي جعلت عيناها تتكلمان رغم صمتهما.. شفتاها تهمس فتوحيان.. وتومئ فتبسمان.. وتفكر فتشردان.. أعياه غيابها للغد.
تشققت مسامه لدفقة حنان من يدها.. وحدها أشعلت الانطفاء.. وفجرت خمود البركان.. مثل شمس تغمر حجرة معتمة.. سطع وجهها.. فتح الأبواب والنوافذ طاردا الليل.. ليطل الصبح.. ما أجمل الشمس حين تشرق لكل البشر.. صافية من الشوائب.. تشيع الدفء للجميع.. مما لا شك فيه أن نظرته هذه المتفائلة جديدة.. وهو من استنزفه الضجر والملل.. حتي ابتسامته أصبحت نضرة وطيبة.. لها ميكانيكية كما في السابق.
في الصباح.. ارتدي حلل الأناقة والصفاء.. تسبقها لغة شاعرية رقيقة رقيقة.. غير مسبوقة.. وهو يصافحها.. نبهته إلي كفها المحتبسة طويلا بين كفه..
قالت: سأتكلم رغم أنك لم تطالبني بالكلام..
قال: أنا من يعتذر.. لأنني كنت في محراب عينيك.. والكلام يفسد التأمل..
قالت: الحزن الذي تراه بعيني سببه أن اليوم يوافق الذكري السنوية لوفاة والدي.. كان لي بمثابة الدنيا كلها.. سألها ان كان يمكنه التقدم لخطبتها.. أجابت بفرح موافقه.. في الطريق.. استأذنته لشراء باقة من الزهور لتضعها علي قبر والدها.. اقتربت بينهما المسافات.. لملمت مشاعره.. فكت شفرات قلبه.. يعتذر عن كل يوم فارغ منها.. وكل لحظة لم تكتحل عيناه بمرآها.. تزوجا ورفرفت عليهما السعادة بمولودتهما الأولي.. التي سعد بها كثيرا.. واسماها علي اسم والدتها..
قالت الأم: كان نفسي أجيب لك الولد..!!
قال: أردتها ابنة لتكون مثلك طيبة.. وبارة بوالديها.. تضع الزهور بقبري.
محمد محمود غدية/ المحلة الكبري
نشر في الأهرام المسائي يوم 29 - 01 - 2012
يحلو له الهرب من صخب العمل والمسئوليات الملقاة علي عاتقه.. يتمدد ويتمطي.. يدخل حيث الأمسيات الهامسة.. يشرب أشعة القمر ويرتوي بالضوء.. بعد أن تكاثفت العتمة في صدره.. في غياب الحلم وطيفها المنعش.. وهي المسافرة في دمه.. يتجرع حزنه بترفع.. ويذبل لكن بشموخ.. صدره حقيبة مغلقة علي قلب متوثب ينبض بالحب.. مفتاحه يرقد في أعماق نهر بلا قرار.. دخلت مكتبه بلا استئذان.. تسبقها ابتسامة تذيب الجليد وتنشر الارتياح.. وتبلسم الجراح.. إنها المرأة الحلم.. وقف مدهوشا أمام هذه الثنائية الفريدة.. ضوء النهار الباهر.. والقمر الزاهر.. كيف تحقق لهما الاجتماع في واحدة.. القلم في يده يسرع تارة ويتردد تارة أخري.. ويتوقف أحيانا.. ثم يعود فيسرع مرة أخري.. حالة من الفوضي انتابته.. أصابته بصحو مفاجئ.. حاول الإمساك باللحظة الفارقة التي أربكت التقويم في بوصلة أيامه.. ترك القلم والمكتب.. وأخذ يسير في اللا مكان.. وفي اللا أمام.. وفي اللاخلف.. تري متي عبر ذلك الحلم.. في الصبح أم في المساء.. حلقه جاف.. بحره دون ماء.. تسللت في دعة وهدوء إلي أعماقه.. تملأ بحاره وتروي عطشه.. حبات ملح تلمغ فوق شفتيها الممتلئتين.. يرقبها بعناية.. عيناها مفعمتان بحزن غامض.. يتعذر وصفه.. تدور عيناه تمسح اللاشيء.. لابد لها من استكمال باقي الأوراق التي تقدمت بها إليه في الغد.. أي قوي جعلت عيناها تتكلمان رغم صمتهما.. شفتاها تهمس فتوحيان.. وتومئ فتبسمان.. وتفكر فتشردان.. أعياه غيابها للغد.
تشققت مسامه لدفقة حنان من يدها.. وحدها أشعلت الانطفاء.. وفجرت خمود البركان.. مثل شمس تغمر حجرة معتمة.. سطع وجهها.. فتح الأبواب والنوافذ طاردا الليل.. ليطل الصبح.. ما أجمل الشمس حين تشرق لكل البشر.. صافية من الشوائب.. تشيع الدفء للجميع.. مما لا شك فيه أن نظرته هذه المتفائلة جديدة.. وهو من استنزفه الضجر والملل.. حتي ابتسامته أصبحت نضرة وطيبة.. لها ميكانيكية كما في السابق.
في الصباح.. ارتدي حلل الأناقة والصفاء.. تسبقها لغة شاعرية رقيقة رقيقة.. غير مسبوقة.. وهو يصافحها.. نبهته إلي كفها المحتبسة طويلا بين كفه..
قالت: سأتكلم رغم أنك لم تطالبني بالكلام..
قال: أنا من يعتذر.. لأنني كنت في محراب عينيك.. والكلام يفسد التأمل..
قالت: الحزن الذي تراه بعيني سببه أن اليوم يوافق الذكري السنوية لوفاة والدي.. كان لي بمثابة الدنيا كلها.. سألها ان كان يمكنه التقدم لخطبتها.. أجابت بفرح موافقه.. في الطريق.. استأذنته لشراء باقة من الزهور لتضعها علي قبر والدها.. اقتربت بينهما المسافات.. لملمت مشاعره.. فكت شفرات قلبه.. يعتذر عن كل يوم فارغ منها.. وكل لحظة لم تكتحل عيناه بمرآها.. تزوجا ورفرفت عليهما السعادة بمولودتهما الأولي.. التي سعد بها كثيرا.. واسماها علي اسم والدتها..
قالت الأم: كان نفسي أجيب لك الولد..!!
قال: أردتها ابنة لتكون مثلك طيبة.. وبارة بوالديها.. تضع الزهور بقبري.
محمد محمود غدية/ المحلة الكبري
نشر في الأهرام المسائي يوم 29 - 01 - 2012