أدب السيرة الذاتية أمين الزاوي - السيرة الذاتية الحرة علامة على صحة المجتمع الثقافي

السيرة الذاتية، بالنسبة لي، هي الحفر بعمق في الأعماق، أعماق الذات الكاتبة، الحفر بعنف وبدون تحفظ، السيرة الذاتية هي قرينة الحياة، يجب أن تكتب بمرها وحلوها، بأخطائها وتهوراتها، بوسخها ونظافتها.
تشبه كتابة السيرة الذاتية ك"الحكة" La démangeaison كلما حك الكاتب المكان ازدادت لذة الحك أكبر وأعنف، واختلط الألم بالمتعة، السيرة الذاتية هي تقليب شجاع للأقاليم المسكوت عنها، هي فتح الأبواب الموصدة بعنف كي يدخل الهواء ويدخل القارئ إلى أعماق حياة الكاتب بكل تفاصيلها.
السيرة الذاتية هي جرأة الكاتب موهوب في مواجهة مرآة ليست تلك المخصصة لعكس ملامح الوجه الخارجية بل تلك الأخرى التي من خلالها يطل على المغيب من سلوكاته الشخصية، من خلالها يوقظ الأشياء النائمة في اللاوعي وربما تلك هي التي شكلت الدافع الحقيقي نحو الكتابة بوصفها "علاجا".
أنا متأكد بأن كل كاتب حقيقي يحمل في داخله جرحا ما، يحمله كالصليب على كتفيه ولا يستطيع التخلص منه، هي حالة "باثولوجية" لا تشفى إلا بكتابة السيرة الذاتية الصادقة المحرِّرَة.
إننا نكتب كتبا كثيرة وفيها نحاول، في كل مرة، مقاربة السيرة الذاتية، نكتب ونحن ندور حول نفسنا كما يدور مصارع الثيران حول الثور الخصم.
كتابة السيرة الذاتية ليست مرتبطة فقط بشجاعة الإفصاح عند الكاتب ولككن أيضا بمدى سقف الحرية الشخصية التي يمنحها المجتمع للفرد في مجتمع معين، ولأن هذه الحرية مفقودة أو محاربة في المجتمعات العربية والمغاربية فإن السيرة الذاتية غائبة.
ولأن كتابة السيرة الذاتية بصدق هي أشجع الكتابات، فقليل جدا من الكتاب الذين تمكنوا من كتابة سيرة ذاتية مثيرة في الأدب العربي قديمه وحديثه.
والمجتمعات التي يحضر فيها الرقيب الديني والأخلاقي بشكل قامع لا يمكن لكتابة السيرة الذاتية المتحررة أن تزهر فيها.
وفي ظل مجتمع يتعرض فيها الأدب الحر لفتاوى التحريم والمنع ويتعرض فيها المبدع لفتوى القتل جراء رأي فإن مثل هذا المجتمع القامع يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على الكاتب ليجعله رقيبا على نفسه، ومن هنا يبدو أن الكاتب في العالم العربي والمغاربي يمارس "الرقابة الذاتية" على نفسه، بهذا المعنى يتحول الكاتب إلى شرطي ضد نفسه، يتحول إلى فقيه ضد نصه، في مثل هذا الجو حيث سقف الحرية حان لا يمكن لكتابة السيرة الذاتية الصادقة أن تسبح في السماء العالية المفقودة.
كلما كانت ثقافة "القطيع" سائدة انتفت كتابة السيرة الذاتية الصادقة التي تبحث عن الفرد في تجلياته الحرة والمستقلة.
إننا مجتمع "متدين" بامتياز، "تدين" مظهري وجماعي، وكل من يخرج عن ذلك فهو "كالذئب" الضائع، يسهل مطاردته.
لقد تربى الكاتب العربي والمغاربي بشكل عام هي ثقافة دينية قائمة على فلسفة تقول بفكرة "غض الطرف" و"إذا ابتليتم فاستتروا"، هذه الثقافة تراقب الكتابة بشكل "لاواع" فتمنع هذا المبدع من الحفر عميقا في جروحه الجسدية والأخلاقية والأسرية والجنسية والسياسية، وأمام هذا الحال يخاف الكاتب من الذهاب إلى السيرة الذاتية ويضطرلأن يحوم حولها من خلال شخصيات بأقنعة مختلفة.
في المجتمعات التي تقرأ الأدب بمقياس "العيب" و"الخجل" لا يمكننا تصور ازهار كتابة السيرة الذاتية المتحررة والصادقة.
أما في المجتمعات الغربية التي تشكل فيها المثقف والكاتب والقائمة على احترام الحريات الشخصية من حيث أنها قيمة أساسية في المواطنة وحقوق الإنسان وعلى "ثقافة الاعتراف" و"الغفران" كقيمة في الفكر المسيحي، في مثل هذا المجتمعات تزدهر كتابة السيرة الذاتية العميقة يمكن ذكر على "الاعترافات" لجان جاك روسو وغيره.
ولأن المجتمعات العربية والمغاربية لا تحترم الحرية الفردية وتعتبر ذلك خروجا عن "الجماعة" ولا تعترف بالمواطنة ولا بحقوق الإنسان وتعتبر حق الاختلاف "ردة" فالقول عن سيرة ذاتية صادقة لكاتب عربي مسألة معقدة.
كتب محمد شكري سيرته الذاتية "الخبز الحافي" في شكل سرد روائي، ونشرت مترجمة إلى الإنجليزية ثم إلى الفرنسية قبل أن تنشر بالعربية ليتم منعها والتشهير بكاتبها من قبل الرقيب الديني وحتى الجامعي في العالم العربي، وكتب الروائي والناشر سهيل إدريس سيرته الذاتية فمنعتها وحجبتها عائلته بحجة أنه عرض تفاصيل من حقل الممنوعات التي قد تسيء إلى سمعة الأسرة.
إن المجتمعات التي لا يزال العقل القبلي مسيطرا فيها كحال مجتمعاتنا العربية والمغاربية لا يمكنها أن تنتج سيرة ذاتية صريحة، إن العقل القبلي في جوهره ينتج سيرة واحدة هي سيرة زعيم القبيلة أو نسخ منها.
وحين يفلت الكاتب العربي أو المغاربي من رقابة العقل القبلي يحاصره الرقيب الأسري الذي لا يسمح هو الآخر بكتابة سيرة ذاتية يستعرض فيها بعض صور الأب أو الأم أو الأخت أو الخالة أو العمة التي قد تكون غير منسجمة مع العقل الأسري والقبلي.
لأن فتح أقفال الذات بحرية هو الإطلالة على زوايا مظلمة ومستترة في الأسرة والقبيلة، في الأب والعم والأخ والأم والأخت والعمة والخالة والبقال والإمام والمعلم ... وهو ما يثير حفيظة القبيلة والأسرة.
إن المجتمع العربي والمغاربي يلاحق الكاتب حتى وهو يكتب نصوصا خيالية بعيدة عن السيرة الذاتية، فكلما تحدث عن أمر يتعارض وبنية العقل القبلي والأسري من خلال شخصية روائية متخيلة إلا وحاول بعض أشباه المثقفين الناطقين باسم القبيلة والأبوية ربط هذه الشخصية المتخيلة بحياة الكاتب.
إن المدينة العربية التي انتقلت إليها أخلاق القبيلة وتراتبيتها الثقافية والاجتماعية لا تسمح ببناء ثقافة الفرد أو المواطن بل تساعد وتشجع على نمو فكر القطيع، والكتابة فعل فردي لا يتحقق إلا باتساع الحرية الفردية أولا والجماعية ثانيا.
بهذا المفهوم فالمدينة العربية ليس فضاء محررا لكتابة السيرة الذاتية، فالعمارات والأبراج بما هي ليست سوى خيم من نوع آخر.
هذا الواقع السيكو ثقافي والديني يجعلني مرات أضحك وأنا أقرأ بعض ما يسمى بسيرة ذاتية في الأدب العربي والمغاربي المعاصر، إنها نصوص يبدو فيها الكاتب وهو يعرض حياته كأنما يستعرض فصول حياة "ملاك" لا يخطئ ولا يذنب ولا يزني ولا يكفر ولا يخون، إن الطهرانية هي مرض عضوي في كتابة السيرة الذاتية عند الكتاب العرب.
شخصيا كتبت سيرتي الذاتية وبكثير من الحرية ولكني لم أنشرها بعد، ليس خوفا، لكني أعتقد بأن الفرصة المناسبة لنشرها، نظرا لما تحمله من نبش في ذاكرة طفل ومراهق وشاب من تفاصيل المحيط العائلي وحياة الأصدقاء، غير متوافرة حتى الآن.


Amin Zaoui : La démangeaison: écrire son autobiographie libre c'est creuser dans les plaies et dans les peurs!
(مقالي المنشور في مجلة الفيصل العدد الأخير سبتمبر 2023)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى