د. علي زين العابدين الحسيني - البيومي مُحبّاً هادئاً [المقال الأول]

القارئُ لأستاذنا محمَّد رجب البيومي يُدرك أنَّه تكلَّم عن حياته الوجدانية بتفصيلٍ أكثر من الأُدباء المحافظين غيره، فكتاباته تكشف لنا أنَّه رجل مسجور العاطفة، رقيق الطَّبع، صادق المشاعر، وهذا جانب خفيّ يكاد لا يُعرف عنه في الأوساط الثَّقافية، ربما أظهر بعضه في قصائده عن زوجته المصونة، وقصة حبه في سيرته.
وسرُّ ذلك ما أبان عنه في مقال "أين المقال الأدبي الذاتي؟" المنشور بجريدة "الهلال"، أول يوليو2000، وفيه يقول: "ومن ذكرياتي الحبيبة مع أخي الأديب الفنَّان الأستاذ كمال النجمي -رحمه الله- أنّي أرسلت له مقالًا عن (الحُبّ الصَّامت) فحدَّثني تليفونيًا أنَّه سيجازف بنشر هذا اللَّون، وقد تفضَّل فنشر المقال مشكورًا ... ولكنِّي امتنعتُ أن أسترسلَ في هذا المنحى؛ كيلا تكون هناك مجازفة أخرى، وأكبر الظن أنَّه خاف عليَّ؛ إذ أتحدث عن الحب، وأنا عالِم أزهري". وكثيرًا ما صرَّح بأنَّه لا مانعَ لديه من الكتابة في الحب؛ فـ"كبار العلماء من أمثال ابن داود الظاهري وابن حزم وابن الجوزي قد وضعوا كتبًا مستقلة فيه، لا مقالات طائرة، وهم خاضعون لإلحاح عبَّر عنه أحمد محرم بشِعره:
ما يصنعُ القلبُ الطروب إذا الهوى بلغ القرار وجال في الأعماق"
لقد رسم البيومي صورةَ الحبِّ الأوَّل في "ظلال من حياتي" ص66 حين قال: "كنت أعجب لها كثيرًا، فهي ذات ذكاء واطلاع، يتجلَّى أثرُ هذين في حديثها الأدبي المسترسل، ولها تبسط في الأسلوب يجعلك تلمسُ ما وراء معانيه من صواب سديد".
وإن لم يستطع الحديثَ مع محبوبته؛ فإنَّه يُخاطب ما يتعلَّقُ بها بشوقٍ؛ كمنزلها، فيقول: "أيُّها المنزل الحبيب! إخالُك أصبحتَ صديقي، فأنت تراني دائمًا أطوف حولَك كما يطوفُ العابد بكعبة مولاه". [مقال: من أوراق الورد، مجلة الأديب بتاريخ 1 أغسطس 1983م]
وللبيوميّ آراء في الحبِّ، فيرى "في كتمان الحبِّ لذَّةً صامتة، هي لذَّةُ الاحتفاظ بالعهد المستور، العهدِ الَّذي كتبته النظراتُ الصامتة". [من أوراق الورد] وأنَّ الحب ليس له "سنٌّ يقف لديها، فالطِّفل والصَّبي والشَّاب والكهل والشَّيخ كلُّ أولئك يحبُّون، دون أن يفترقَ الحبُّ لديهم في جوهره". [الحب بعد فوات الشباب]
ويسمو الحبُّ عنده فيستجيب لندائه، ففي لحظة كان تفكيره في موعد الشرفة أكثرَ من اهتمامه براحته، ويصف تلك المشاعرَ بقوله: "غلبتني هواتفي المشتاقة، فصممت أن أترك موضعَ الراحة، وأن أطيرَ إلى المكان الحبيب مهما كانت العاقبة؛ إذ لا أستطيعُ أن أتصوَّرَ أن مكاني سيكون خاليًا حين تطلبني عينان ساحرتان تنظران ذات اليمين فلا تجدان غير الفراغ". [من أوراق الورد]
وعاطفته في الحب جاءتْ على نسق طبيعة حياته الهادئة، فلا يعرف عنه أنَّه ممَّن أحبُّوا حبًّا عنيفًا، لكنَّه يرى أنَّ المرأة مُلهمة للشعراء والأدباء، ولذا كان الحديثُ في لقائهما الأوَّل عن ابن الفارض، ومقالٍ لأستاذنا عن أخلاق البُحتري.
وحين يشرحُ البيومي أشعار الحبِّ أو ينظم قصائده؛ فإنَّه يرسل رسائل مهمَّة كشرحه لقصيدة خليل مطران "ولقد ذكرتُكِ"، فوقف فيها على معانٍ كثيرة، وسببها أنَّ الشاعر العاشق نزل "منزلًا أنيقًا في بستان ناضر الزَّهر، وشاهد من حسن المكان ما جعله يتمنَّى أن يكون مع حبيبته؛ لتصبحَ جمالًا ناطقًا يُضاف إلى الجمال الصَّامت، هذا في أوقات البهجة، وهي نادرة في حياة العاطفيِّين الَّتي تفور بالألم، وتعجُّ بالحرمان، ولهذا كانت أكثر ذكريات هؤلاء نائحة شاكية، وكان أكثر ما بدئ منها بقول الشاعر: "ولقد ذكرتك" مما يصور لواعج الوجد الدفين". [مقال: ولقد ذكرتك، مجلة الأديب، 1 يونيو 1979]
وإنّه يحكي بلا حرج سيرة العاشقين في مقالاته، فيذكر عن أستاذه عبد الكريم جرمانوس أنه جمع بين الطاعة لنداء العقل والانجذاب إلى هتاف الروح، ويؤرخ لحب كبار الكتّاب والشعراء، ويرصد واقعه في حيواتهم، فيذكر أن الأستاذ عباس محمود العقاد وقع في شرك الحب، وذاق حلاوته في شبابه، ثم هبط عليه بعد الخمسين الحب ليعوضه من لجب المخاصمة.
ويمضي البيوميّ في حياته الزَّوجيَّة ويستمرُّ معه الحبُّ صادقًا حتى لتستشعر قوة حبِّه لزوجته السَّيِّدة "عصمت أحمد عبد الملك" من مصيبة فقدِها في بلد الغربة، وقد رثاها بمجلة "الأديب" بقصائد عناوينها تدعو للتأمل، منها: زوجتي الشهيدة، ورفيقة دربي، وغيرهما من القصائد النفيسة.
ويعدُّ ديوانه "حصاد الدَّمع" ثالثَ ثلاثةٍ في رثاء الزَّوجات بعد عزيز أباظة، وعبد الرحمن صدقي، فذكر في ديوانه الكثيرَ عن حياتها وطبائعها وأخلاقها ورحلتهما في الحياة.
وإذا أضيف إلى هذا الديوان المملوء بالحب والوفاء مقالاته أمكنك أن ترسم الصورةَ الكاملة عن عواطفه! وهذا غيضٌ من فيض، فلم يسمح الزَّمانُ بمعالجة جميع قضايا هذا الجانب!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري

جريدة الأمة العربية بالجزائر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى