مهنّد ساري - لَغَمٌ أَرْضيّ..

قبْلَ أَنْ تَنْتَهي الحربُ ، قبْلَ
نهايتها بثلاثةِ أَيّام ..
دُسْتُ على لَغَمٍ ، وتَسمَّرْتُ مِنْ
شِدَّةِ الخوفِ ...
دارَ شريطٌ من الذّكرياتِ برأَسي
تذكَّرْتُ عُرْسي ،
ويومَ دخَلْتُ إلى المدرسَهْ
وتذكّرتُ أمّي ، وكيْسَ الدّواءِ بجانبِها
والعجوزَ التي كنتُ أَسْرِقُ مِنْ
كَرْمِها التّينَ في دمْعِهِ العسَليِّ
وظلَّتْ تطاردني - في المنام - بِلَعْناتِها
بالصّراخِ .. وبالمِكْنَسَهْ !
وتذكّرتُ جارتَنا المدنيّةَ هِنداً
ونَظْرتَها النَاعسَهْ ...
كنتُ أَسْمَعُ قلبي يَدُقُّ بِعُنْفٍ
فقلت ُ : إذا انْفَجَرَ اللَّغْمُ سوفَ
أَكونُ ضحيّةَ قلبي الغبيِّ ،
فإنّ الضّجيجَ يُوَتّرُ أَعْصابَ هذا الحديدِ
ويجْعَلُهُ نَزِقاً يتأهَّبُ للإنفجارِ
كما لقَّنوهُ وظيفَتَهُ البائسَهْ
وتذكَّرْتُ أُولَى الحدائقِ ، والمطَرَ الرَّخْوَ :
" لا تحْتمي بالمِظلَّةِ - قلتُ لنفْسيَ -
فالجبناءُ هُمُ المحْتمونَ من الماءِ في
رعْشةِ الغيمِ ...
كُنْ واحداً من ضحايا المطَرْ
وتَلاشَ بشهوتِهِ
وتَبَلّلْ على مَهَلٍ مثْلَ هذي النّوافذِ حوْلَكَ
مثْلَ الهواءِ الذي تتنفّسُ ،
والشُّرُفاتِ ، وقمصانِ نوْم الشّجَر " /
قلتُ يوماً لنفْسي ، وخُضْتُ
بمستنقَعِ الماءِ ،
خُضْتُ طويلاً .. ولم أَنْفَجِرْ !
وتذكّرْتُ أَهْليَ ، وابْني الذي أَنْتَظِرْ /
كم سأَصْمُدُ - دونَ حراكٍ - كأَنّي عمودٌ
على لَغَمٍ قاتلٍ !
هلْ سأُهْزَمُ ، أَمْ أَنْتَصِرْ ؟!
رُبّما أَتطايرُ مثلَ الرّذاذِ على رُفْقتي
من جنودِ المشاةِ ،
ومثْلَ الشّظايا على الشّجَراتِ المُحيطةِ
حيثُ سينمو هنالكَ لحميَ في نَسْغِها حينَ
تَمْتصُّني ..
رُبَما سأَصيرُ دَمامِلَ فوقَ الجذوعِ ،
فتَمْرَضُ إحدَى الشّجيراتِ منّي
وقد .. تَنْتَحِرْ !
وتذكَّرتُ جِسْرَ المدينةِ ، والنّهرَ مِنْ
تحْتهِ :
يا إلهيَ ، خُذْ قدماً واحِدَهْ
وأَعِدْني إلى الجِسْرِ، حيثُ مَشَيْتُ
على قدميَّ وقلْبيَ عشرينَ عاماً
بِلا كلَلٍ
وكتبْتُ هنالكَ أُولَى القصائدِ
عن بذْرةٍ أَوْقَعَتْها رياحُ الظّهيرةِ في نُقْرَةٍ ،
زهْرَةٍ نَبَتَتْ عُنوةً .. في حَجَرْ !
* * *
لَمْ أَعُدْ أَتَذكَّرُ شيئاً ، لأَنّي
رفَعْتُ هنا قدَمي ، وقَفَزْتُ
على موجةٍ من هواءٍ سَيَضْغَطُها الإنفجارُ
لأَعلى ..
وحَلّقْتُ أَعْلى من الشّجَرات القريبةِ ...
لم أَنْهَزِمْ مثْلَما قد خَشيْتُ ،
ولَمْ .. أَنْتَصِرْ !
قلْتُ للرّبِّ - حين بدأْتُ أَغيْبُ
عن الوعيِ - :
قد كان لي قَدَمانِ ،
فَخُذْ قدَماً واحِدَهْ
قدَما زائدَهْ !
وتلطَّفْ .. وأَبْقِ ليَ الثّانيَهْ !
* * *
لحْظَةً ، ثُمّ غِبْتُ عن الوعيِ
لكنّني أَتَذكّرُ هاجسَ نفْسي الأَخيرَ وقدْ
وَزّعَ الإنفجارُ عظامي ولحْمي على
كلِّ أَشياءِ ذاكَ المكانِ ،
ولم يُبْقِ لي غيرَ هذا الصّدى
يتردّدُ في داخلي موجةً ضَغَطَتْ موجةً ...
ودمي كان يَحْمِلُهُ العَصْفُ كالمطًرِ المعْدنيِّ
الذي يتساقطُ في هُوّةِ الموتِ منعكساً
نحوَ أَعْلى.../
دمي ، يا عصيري الشّهيَّ الذي فارَ ،
صرْتَ مِظلَّةَ قلبي الأخيرةَ في حَوْمةٍ
من هَباءِ المعادنِ
فاصْمُدْ ، لِنَجْتازَ هذا السّفَرْ
من حياةٍ لأُخرى ..
لعلَّ الحروبَ – هناكَ إذا وُجِدَتْ –
أَنْ تكونَ أَخفَّ على الميِّتينَ اللّذينَ
إذا وَطِئوا لَغَماً ههنا
صَعِدوا كالنُّثارِ على غيمةٍ من شَرَرْ ! /
قلتُ هذا وأَكْثَرَ .. في لحْظَةٍ
ثُمّ غِبْتُ عن الوعي ،
نِمْتُ كما لم أَنَمْ منْذُ عشرين عاماً ..
ولكنّني أَتَذكَّرُ ذاكَ الصّدى
يتدافَعُ في داخلي ، موجةً ضَغَطَتْ موجَةً
صاعِدَهْ !
قَدَمٌ واحِدَهْ
إنْ نَجَوْتُ ، ستكْفي لأَمشي
على الجسْرِ في ليلةٍ باردَهْ
وأُغنّي لِلارا التي ابتَعَدَتْ في الظّلالِ
وأَرْخَتْ على صخْرةٍ شَعْرَها
ودموعَ حدائقِها الشّاردَهْ !
قَدَمٌ واحِدَهْ
يا إلهي ، ستكفي
إذا أنتَ أَبْقيْتَ لي قَدَماً واحِدَهْ !
قَدَمٌ واحِدَهْ
سوف تكفي
لأَحْمِلَ ما ظّلَّ من زَهْرِ قلْبي
وأَمْشي مَعَ الميّتينَ على ... أَبَدِ الجِسْرْ...



====

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى