في الحقيقة، أنَّنِي كتبتُ عن فنّ التَّراجمِ عند د. عليّ الحُسينيّ مُحبًّا مبهورًا مختارًا؛ فالعصرُ الذي وَسْمُهُ فنُّ كتابةِ الذَّاتِ، وتغْشاهُ مخازي الجُحودِ والنُّكرانِ والتّناسي للمُصلحينَ، يصِيرُ ردُّ الجميلُ تبرًا مسبوكًا في كومةٍ من القشِّ، وأندرَ من الكِبريتِ الأحمرِ...!
هذا مع أنّ أُمَّتنا الإسلاميَّةَ أُمّةَ الإيمانِ تدعوُ إلى ذكرِ مَحاسنِ المُحسنينَ، والوفاءِ لمَن ضحّوا من أجلِ القيم النَّبيلةِ، والمثُل العُليا؛ فما أكثرَ كتبَ التّراجم العربيّةِ، وما أطولَها، وما أجملَ ما ذُكرَ فيها من الوفاءِ الوافي بالوفيات من الأعلامِ في كلّ الميادينِ.
وفي ظنّي أنّ الذي ينبري لكتابةِ التّراجمِ يلزمهُ صفاتٌ علميّةٌ؛ كالنّزاهةِ، والموضوعيّةِ، والاستقراءِ الكاملِ، والأسلوبِ الرّشيقِ البليغ، والموسُوعيّةِ المعرفيّةِ، والقدرةِ على فهمِ السّياقاتِ، وربطِها بكلّ شخصيّةٍ... كما تلزمهُ صفاتٌ خُلقيّةٌ؛ كالتّواضُعِ، والإيثارِ، وإنكار الذّاتِ، والحبّ الرّشيد للمترجَمِ لهُ، والقرب السّيكولوجيّ الوجدانيّ من جوهر الشّخصيّةِ.
ومن ثمّ؛ فما أندرَ المترجمينَ للآخرينَ، وما أكثر الكاتبين عن أنفسهم، في عصرٍ شعارهُ: دعني أكلمكم عن نفسي كثيرًا؛ فإنكم لا تعرفون كم أنا جائعٌ محرومٌ أشدّ الحرمان للتّقديرِ!
فحينَ ينبري د. علي زين العابدين الحُسيني في هذا السّياقِ ليُترجمَ عن الأعلامِ الذي توفَّاهم الله، ومنهم من ينتظرُ، ساعيًا بحُبّ وتَفانٍ أن يقرّب صورتَهم؛ كما ارتآها بعد لأيٍ ونَصَبٍ إلى جمهورِ المتلقينَ من المتعلّمينَ والمثقفين، ومجتمع إنتاجِ المعرفةِ؛ فإنّهُ قد استوفى ما اشترطناهُ لكاتبِ التّراجمِ.
وقد لفتَ نظري، وأنا أقرأُ كتابَ العَبقريّ هنري ميللر، الأمريكيّ من أصلٍ ألمانيٍّ، عن العبقرِيّ لورنس الإنجليزيّ، أنَّنا نفتقِدُ مثلَ هذه الكتابةِ في أدبنا العربيّ الحديثِ؛ فلم نجدْ كتابًا خَلَّد بهِ ناقدٌ كبيرٌ ذكرَى مثيلهِ، ولا رِوائيٌّ فذٌّ سيرةَ قرينهِ، ولا أديبٌ متمكّنٌ ميراثَ معاصرهِ، وحفَر وراءَ تفاصيلِ عبقريتهِ، وترَكَ كتابًا، تحفظهُ لهُما الأجيالُ؛ بوصفهِ كتابًا في الأدبِ بمعنييهِ: الخُلقيّ والاصطِلَاحيّ.
ظلَّ السُّؤالُ يشغلني، وطرحتهُ على صديقٍ، كان مهمومًا بأنَّ اسمَهُ لم يُدرجْ في لجنةٍ من لجان الانتفاعِ، والانتفاخِ، والتنفُّج، والوَهم، والتّزييفِ تحتَ شعاراتٍ تبدُو علميَّةً وأكاديميَّةً ومحايدةً، صارتْ مفضوحةً للبرّ والفاجِر، إلَّا مَن رحِم ربّي ؛ فقال لي :ياسيدي، لو أنَّ أحَدَهم جاءَ رئيسًا لإحدَى هذه اللّجانِ لتفرَّغ بعضُهم، ولتفرّغت شخصيًّا ( الكلام لصَدِيقِي) لكتابةِ سيرةِ سعادتهِ، وإنجازاتِهِ، وضربَ لي أمثلةً كثيرةً على تراجم وكتبٍ احتفَائيّةٍ لكثيرٍ من هؤلاء، صدرتْ ونشرت بأموالٍ كثيرةٍ معَ ضحالةِ علمهِم، وقلَّةِ زادِهم، وثقلِ ظلّهم، واتِّساعِ شُهرتهمِ في تبادُلِ المنافعِ، وكُتبَ عنهم ما يبَزّ) ميرر وفورنس) ألف مرة(هكذَا نطقَهُما صديقِي يأسًا وسُخريَةً ووجعًا) وأردفَ: يا مولانا: أنتَ عايش في الحقيقةِ، على رأي عمنا محفوظ !
وحينَ وقعتُ على أوّل مقالٍ يُترجم فيه د. علي زين العابدين الحسيني عن أستاذنا العلّامة الأديب الشّاعر محمد رجب البيوميّ قرأتُ التّرجمةَ، على طولها، فكرةً فكرةً، وتذوَّقتُ بلاغتَهُ كلمةً كلمةً، وما سكنَ في قلبِي أنَّ الحُسينيَّ عالمٌ منصفٌ خرّيتٌ، يعشقُ العلمَ والفنّ والأدبَ والثّقافةَ، ويُحبُّ العلماءَ الأجلَّاءَ ويُقدّرهم حقّ قدرهم، ويَتَتبُّعُ بسِحرِ عرضهِ عميقَ أفكارِهم، ويسبرُ أَعماقهُم النفسيّةَ، ويستقرئُ سياقاتِهم المختلفةَ، ويتلطّفُ في ربطِها بخِصَالهِم وسجاياهُم.
وأعتقد أنَّ موهبةَ الحسينِيّ الفذّةَ تلك تؤهّلُهُ أن يُسجِّلَ ببليوجرافيا نادرةً لسيرِ النَّابهينَ والنّابغينَ في عصرِنا، ومن قبلهمِ ممنّ أشعلوا شموعًا ومَصابيحَ نهتدي بها في دروبِ المعرفةِ وضروبِها.
ولا أعتقدُ أنّ ثمةَ فضيلةً تحفظُ للإنسانِ إنسانيَّتَهُ، وللمرءِ دينَهُ مثل أن يذكرَ محاسنَ المُحسنينَ، ويستَلّ منها خيوطَ ضوءِ يغزلُ منها أشعة شمسٍ، تضئ للأجيال الجديدةِ هذه الظلماتِ المدلهمّة.
أتمَّ الله عليه هذه النّعمةَ، ونفع بِهِ، وبعلمِهِ، وخلقِهِ، هذا النّاقدَ النّابه، الدكتور الأديب الراقي المترجم عن خلجاتِ أرقى النّفوس البشريّة بعد الأنبياءِ والمرسلينَ، الكاشف لأنساقِ الأفكارِ والشَّخصياتِ والأحاسيسِ بقلمهِ الذي خصّهُ اللهُ بهِ...!
أ. د. محمد سيد علي عبدالعال
هذا مع أنّ أُمَّتنا الإسلاميَّةَ أُمّةَ الإيمانِ تدعوُ إلى ذكرِ مَحاسنِ المُحسنينَ، والوفاءِ لمَن ضحّوا من أجلِ القيم النَّبيلةِ، والمثُل العُليا؛ فما أكثرَ كتبَ التّراجم العربيّةِ، وما أطولَها، وما أجملَ ما ذُكرَ فيها من الوفاءِ الوافي بالوفيات من الأعلامِ في كلّ الميادينِ.
وفي ظنّي أنّ الذي ينبري لكتابةِ التّراجمِ يلزمهُ صفاتٌ علميّةٌ؛ كالنّزاهةِ، والموضوعيّةِ، والاستقراءِ الكاملِ، والأسلوبِ الرّشيقِ البليغ، والموسُوعيّةِ المعرفيّةِ، والقدرةِ على فهمِ السّياقاتِ، وربطِها بكلّ شخصيّةٍ... كما تلزمهُ صفاتٌ خُلقيّةٌ؛ كالتّواضُعِ، والإيثارِ، وإنكار الذّاتِ، والحبّ الرّشيد للمترجَمِ لهُ، والقرب السّيكولوجيّ الوجدانيّ من جوهر الشّخصيّةِ.
ومن ثمّ؛ فما أندرَ المترجمينَ للآخرينَ، وما أكثر الكاتبين عن أنفسهم، في عصرٍ شعارهُ: دعني أكلمكم عن نفسي كثيرًا؛ فإنكم لا تعرفون كم أنا جائعٌ محرومٌ أشدّ الحرمان للتّقديرِ!
فحينَ ينبري د. علي زين العابدين الحُسيني في هذا السّياقِ ليُترجمَ عن الأعلامِ الذي توفَّاهم الله، ومنهم من ينتظرُ، ساعيًا بحُبّ وتَفانٍ أن يقرّب صورتَهم؛ كما ارتآها بعد لأيٍ ونَصَبٍ إلى جمهورِ المتلقينَ من المتعلّمينَ والمثقفين، ومجتمع إنتاجِ المعرفةِ؛ فإنّهُ قد استوفى ما اشترطناهُ لكاتبِ التّراجمِ.
وقد لفتَ نظري، وأنا أقرأُ كتابَ العَبقريّ هنري ميللر، الأمريكيّ من أصلٍ ألمانيٍّ، عن العبقرِيّ لورنس الإنجليزيّ، أنَّنا نفتقِدُ مثلَ هذه الكتابةِ في أدبنا العربيّ الحديثِ؛ فلم نجدْ كتابًا خَلَّد بهِ ناقدٌ كبيرٌ ذكرَى مثيلهِ، ولا رِوائيٌّ فذٌّ سيرةَ قرينهِ، ولا أديبٌ متمكّنٌ ميراثَ معاصرهِ، وحفَر وراءَ تفاصيلِ عبقريتهِ، وترَكَ كتابًا، تحفظهُ لهُما الأجيالُ؛ بوصفهِ كتابًا في الأدبِ بمعنييهِ: الخُلقيّ والاصطِلَاحيّ.
ظلَّ السُّؤالُ يشغلني، وطرحتهُ على صديقٍ، كان مهمومًا بأنَّ اسمَهُ لم يُدرجْ في لجنةٍ من لجان الانتفاعِ، والانتفاخِ، والتنفُّج، والوَهم، والتّزييفِ تحتَ شعاراتٍ تبدُو علميَّةً وأكاديميَّةً ومحايدةً، صارتْ مفضوحةً للبرّ والفاجِر، إلَّا مَن رحِم ربّي ؛ فقال لي :ياسيدي، لو أنَّ أحَدَهم جاءَ رئيسًا لإحدَى هذه اللّجانِ لتفرَّغ بعضُهم، ولتفرّغت شخصيًّا ( الكلام لصَدِيقِي) لكتابةِ سيرةِ سعادتهِ، وإنجازاتِهِ، وضربَ لي أمثلةً كثيرةً على تراجم وكتبٍ احتفَائيّةٍ لكثيرٍ من هؤلاء، صدرتْ ونشرت بأموالٍ كثيرةٍ معَ ضحالةِ علمهِم، وقلَّةِ زادِهم، وثقلِ ظلّهم، واتِّساعِ شُهرتهمِ في تبادُلِ المنافعِ، وكُتبَ عنهم ما يبَزّ) ميرر وفورنس) ألف مرة(هكذَا نطقَهُما صديقِي يأسًا وسُخريَةً ووجعًا) وأردفَ: يا مولانا: أنتَ عايش في الحقيقةِ، على رأي عمنا محفوظ !
وحينَ وقعتُ على أوّل مقالٍ يُترجم فيه د. علي زين العابدين الحسيني عن أستاذنا العلّامة الأديب الشّاعر محمد رجب البيوميّ قرأتُ التّرجمةَ، على طولها، فكرةً فكرةً، وتذوَّقتُ بلاغتَهُ كلمةً كلمةً، وما سكنَ في قلبِي أنَّ الحُسينيَّ عالمٌ منصفٌ خرّيتٌ، يعشقُ العلمَ والفنّ والأدبَ والثّقافةَ، ويُحبُّ العلماءَ الأجلَّاءَ ويُقدّرهم حقّ قدرهم، ويَتَتبُّعُ بسِحرِ عرضهِ عميقَ أفكارِهم، ويسبرُ أَعماقهُم النفسيّةَ، ويستقرئُ سياقاتِهم المختلفةَ، ويتلطّفُ في ربطِها بخِصَالهِم وسجاياهُم.
وأعتقد أنَّ موهبةَ الحسينِيّ الفذّةَ تلك تؤهّلُهُ أن يُسجِّلَ ببليوجرافيا نادرةً لسيرِ النَّابهينَ والنّابغينَ في عصرِنا، ومن قبلهمِ ممنّ أشعلوا شموعًا ومَصابيحَ نهتدي بها في دروبِ المعرفةِ وضروبِها.
ولا أعتقدُ أنّ ثمةَ فضيلةً تحفظُ للإنسانِ إنسانيَّتَهُ، وللمرءِ دينَهُ مثل أن يذكرَ محاسنَ المُحسنينَ، ويستَلّ منها خيوطَ ضوءِ يغزلُ منها أشعة شمسٍ، تضئ للأجيال الجديدةِ هذه الظلماتِ المدلهمّة.
أتمَّ الله عليه هذه النّعمةَ، ونفع بِهِ، وبعلمِهِ، وخلقِهِ، هذا النّاقدَ النّابه، الدكتور الأديب الراقي المترجم عن خلجاتِ أرقى النّفوس البشريّة بعد الأنبياءِ والمرسلينَ، الكاشف لأنساقِ الأفكارِ والشَّخصياتِ والأحاسيسِ بقلمهِ الذي خصّهُ اللهُ بهِ...!
أ. د. محمد سيد علي عبدالعال