أبو حيان التوحيدي - عجائب الحيوان

وجرى حديث الفيل ليلةً فأكثرَ من حضر وصفَه بما لم يكن فيه فائدةٌ تعاد، ولا غريبةٌ تستفاد. فحكيتُ: إن العلماء بطبائع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبيَّة وتحت مدار برج الحَمَل، والزَّرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة، والسَّمُّور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية. وأما الصقور والنسور والبُزَاة وما شاكلها من الطير فإنها لا تُفرِخ إلا في رؤوس الجبال الشامخة، والعُقاب والنعام لا تُفْرخ إلا في البراريِّ والقفار والفلوات، والوطواط والطِّيطَوَى وأمثالهما من الطير لا تفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام، والعصافير والفواخت وما شاكلها من الطير لا تُفْرِخ إلا بين الأشجار والدِّحال والقرى والبساتين.
وحدَّث ابن الأعرابي عن هشام بن سالم -وكان مسنًّا من رهط ذي الرُّمَّة- قال: أكلتْ حيةٌ بيض مُكَّاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها تريده وهمت به ألقى في فيها حَسَكةً، فأخذت بحلقها حتى ماتت.
وأنشد أبو عمرو الشيباني قول الأسَدي:
إنْ كنتَ أبصرتَني قُلًّا ومُصْطَلَما * فربما قتَل المكَّاءُ ثُعبانا
فقال حرس الله نفسه: من أين للحيوان غيرِ الإنسان هذه الفطنة وهذه الفضيلة وهذه الجُرْأَة وهذه الحيلة؟! فقلتُ: شيخنا أبو سليمان يقول في هذه الأيام -وقد جرى حديث الحيوان وعجائب أفاعيله: إن الإحساسات التي للحيوان على أصنافه لها غرضٌ عظيم، وبذلك الغرض لها تفاوتٌ عظيم ظاهرٌ وخافٍ، وأفعالٌ معهودة ونادرة، ولها أخلاق معروفة، ومعارف موصوفة. ولولا ذلك ما كان يقال: أَصْوَل من جمَل، وأغدر من ذئب، وأروغ من ثعلب، وأجبن من صِفْرِد، وأجمع من ذَرَّة، وآلف من كلب، وأهدَى من قَطاة، وأحذر من عقعق، وأزهَى من غراب، وأظلم من حية، وأشدُّ عداوةً من عقرب، وأخبث من قرد، وأحمق من حُبارَى، وأكذب من فاختة، وألأم من كلبٍ على جيفة، وأعقُّ من ضب، وأبرُّ من هرة، وأنفر من ظليم، وأجرأ من ليث، وأحقد من فيل… وعلى هذا.
قال: وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتًا في الأخلاق، كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت. وكما أنه يزل بعضُ العقلاء فيركب ما لا يُظنُّ بمثله لعقله، كذلك يزلُّ ويغلَط بعضُ الحمقى فيأتي بما لا يُحسَب أن مثله يهتدي إليه، فليس العقل بحاظرٍ على صاحبه أن يندُر منه ما يكون من الحيوان. وأصناف الحيوان من الناس وغير الناس تتقاسم هذه الأخلاق بضروب المزاج المختلفة في الأزمان المتباعدة والأماكن المتنازحة، تقاسمًا محفوظ النِّسب بالطبيعة المستولية، وإن كان ذلك التقاسم مجهول النِّسب للغموض الذي يغلب عليه. وإذا عُرف هذا الشرح وما أشبهه مما يزيده وضوحًا، زال التعجب الناشئ من جهل العلة وخفاء الأمر.
قال: ومن العجب أنَّا إذا قلنا: أروغ من ثعلب، وأجبن من صفرد، وأحقد من فيل؛ أن هذا الرَّوْغ وهذا الجبن وهذا الحقد في هذه الأصناف ليست لتكون عُدَّةً لها مع نوع الإنسان، ولكن لتتعاطى أيضًا بينها، وتستعملها عند الحاجة إليها. وكما يشبَّه إنسانٌ لأنه لصٌّ بالفأرة، أو بالفيل لأنه حقود، أو بالجمل لأنه صَؤول؛ كذلك يشبَّه كلُّ ضرب من الحيوان في فعله وخُلقه وما يظهر من سِنْخه بأنه إنسان.
ويقال للبليد من الناس: كأنه حمار، ويقال للذكي من الخيل: كأنه إنسان. ولولا هذا التمازج في الأصل والجوهر والسِّنْخ والعنصر، ما كان هذا التشابه في الفرع الظاهر والعادةِ الجارية بالخبر والنظر.
فقال: هذا كلامٌ لا مزيد عليه.

المصدر: "الإمتاع والمؤانسة" تحقيق: أحمد أمين - أحمد الزين، مؤسسة هنداوي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى