ربما لم يبق من الجيل الذي عاصر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا إلا العدد القليل منهم، وأنا أحد من عاصروه.
لقد كُتب الكثير عن جبرا الروائي الذي حاول ان يتخطى الأسلوب السائد في كتابة الرواية، وجبرا المترجم الذي حافظ على جمالية النص، وجبرا الناقد إذ كان يعتبر من أهم النقاد في تتبع الساحة الثقافية العربية بصورة عامة والعراق بصورة خاصة، كما عالج الشخصية الفلسطينية في الشتات، لذا سأكتفي بالكتابة عن الذكريات التي تربطني به.
تعود علاقتي بالأستاذ جبرا إلى عام 1951، عندما قبلت كطالبة في كلية الآداب. فقد تأسست كلية الآداب والعلوم في نهاية الاربعينيات من القرن الماضي، كانت فكرة عميدها عبد العزيز الدوري، ان تصبح نواة إلى جامعة بغداد، وكان هنالك اتجاه بربطها في جامعة لندن آنذاك، من حيث مستواها العلمي والأدبي، فاستقدم معظم الأساتذة الذين يدّرسون في كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية من بريطانيا، وكانوا جميعهم انكليز ما عدا الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا الذي كان عربياً من فلسطين. لكنه خريج جامعة كميبرج في الأدب الإنكليزي، كما كان رئيس فرع الاقتصاد بريطانياً وحتى المسؤول عن المكتبة في الكلية بريطاني.
أجرى قسم اللغة الإنكليزية مقابلة للتلامذة الذين سيقبلون في القسم. كان اسمي ثالث اسم، وكانت اللجنة مكونة من استاذين: الأستاذ الكاتب جبرا إبراهيم جبرا والأستاذ والكاتب والصحفي ديزمند سيتورات، وهي المرة الأولى التي التقي فيها بالأستاذ جبرا. عندما دخلت الغرفة سألني لماذا ترغبين في دراسة هذا الفرع؟ اجبت: لأنني مولعة في قراءة الأدب، ثم سألني دزمند: بمن معجبة من الشعراء الإنكليز؟ أجبت: شيلي وكتيس وبايرون. ثم استطرد جبرا وسألني سؤالاً أقرب منه إلى أحجية: كم كان عمر شيلي عندما توفي وكيف مات؟ فأجبته: ثلاثين عاماً ومات غرقاً. وبعد انتهاء المقابلة، سألني جبرا إن كانت لي علاقة بالكاتب عبد اللطيف شرارة، أجبت: أنه عمي، قال: أقرأ مقالاته التي تنشر في الصحف والمجلات.
كان جبرا نحيفاً، ضامر الوجه، متفرداً بشعره الأسود الطويل المجعّد، الذي يشبه شعر الشعراء الرومنطيقيين في القرن التاسع عشر.
فتح لنا أبواباً جديدة في تذوق الأدب لم نكن نعهدها في السابق، فكان يتقمص شخصية الشاعر عندما يقرأ الشعر، وينقل لنا أجواء الحب والمعاناة في قصائد كيتس وشيلي وبايرون، وكأنه هو الذي عانى وقاسى الحب، فيهمن علينا عن طريق استاذنا سحر أجواء أولئك الشعراء الرومنطيقيين، وكأننا بصحبتهم نحس بما يحسون به. وعندما كان يقرأ قصائد الشاعر وردس ورث في وصف الطبيعة، كنا نتحسس ونتذوق جمال تلك الطبيعة. كان جبرا يحب الجمال في كل شيء في الحياة، كما علّمنا على حرية البحث والتقصي، وليس حفظ ما كان يلقيه علينا عن ظهر قلب، لذا كان جميع التلامذة ينتظرون حصته بشوق وحرارة.
تأسستْ في كلية الآداب آنذاك عدة جمعيات، منها الجمعية الفنية برئاسة الرسام حافظ الدروبي، وجمعية الموسيقى برئاسة جبرا إبراهيم جبرا، فكان مشرفاً على الموسيقى الكلاسيكية. جذبت جمعية الموسيقى العديد من الطلبة والأساتذة المولعين في سماع الموسيقى الكلاسيكية الغربية. كنا نجتمع مساء نهاية الأسبوع في قاعة الكلية بعد انتهاء الدوام، وكان جبرا يقف خلف المنصة، فتشرئب الاعناق ويسود الصمت، ليبدأ بشرح أهمية القطعة الموسيقية أو الأوبرا التي سنستمع إليها. كان له فضل كبير في تثقيف عدد من الطلبة في ميلهم وحبهم وولعهم في تذوق الموسيقى الكلاسيكية الغربية.
كانت القطعة الموسيقية الأولى التي سمعناها هي "أوبرا عايدة" للموسيقار الإيطالي "فردي"، وهي المرة الأولى التي استمع فيها إلى أوبرا، إذ كنا في دارنا نستمع كثيراً الى موسيقى موزات وبيتهوفن
وتشايكوفسكي وسترافنسكي وغيرهم من الموسيقيين الغربيين، لكن جبرا فتح أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها. ولذا اتخذت من سماع الموسيقى الجنائزية جسراً اتكئ عليه لكي افهم الأوبرا.
كما كان يلقي المحاضرات في كلية البنات بالإضافة إلى التدريس في كلية الآداب. كانت تلميذات كلية البنات ينتظرنه بشوق، ويجلسن حوله على شكل حلقات يستمعن إلى أحاديثه الشيقة عندما كان يتردد على نادي الكلية بعد الانتهاء من التدريس.
تعّرف على زوجته لميعة برقِي العسكري التي كانت تدّرس في كلية الآداب والعلوم، لكن رغم إعلان اسلامه كانت هنالك معارضة شديدة، فلم يكن المجتمع التقليدي يتقبل زواج شخص مسيحي قادم من القدس بفتاة مسلمة من عائلة معروفة في بغداد، في منتصف القرن الماضي، فلحظات العشق الباهظة لابد لها من ثمن تستحقة، كما يقول جبرا، لكن وفّرت له لميعة أجواء الكتابة والرسم.
"بالنسبة إليّ كانت الكتابة مع الرسم أحياناً، ضرورية ضرورة الحب، ضرورة الصداقات، ضرورة الماء والخبز، وهذا كله كانت لميعة تعرفه، وتحرص عليه، وراحت دون أن تتحدث فيه توّفر جوه لي، بتلقائية وذوق، مع كثير من التضحية".
كانت النخبة المفكرة في العراق تمّر في مخاض التجديد، إن كان ذلك بالنسبة للشعر أو الفن. كان البحث يدور حول وظيفة الفن والادب ودورهما في المجتمع. وكان جبرا منفتحاً يرغب في التعرف على عوالم مغايرة، والابتعاد عن الشعر التقليدي ذا القافية، فكانت تربطه علاقات مع تلك النخبة من الشعراء مثل الشاعر بدر شاكر السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة والبياتي.
كما أدى الجدل المتواصل في الفن الى انقسام جماعة "ألا س بي" إلى قسمين، وهم جماعة "الرواد" التي أصبح يرأسها فائق حسن، و "جماعة بغداد للفن الحديث". وكان جبرا أحد مؤسسي "جماعة الفن الحديث" التي ترأسها جواد سليم آنذاك، كما كان صديقاً لجواد، وأصبح ناقدهم ومؤرخهم، وشارك في صياغة بيانهم الأول، كما شارك في المعارض التي كانت تقام سنويا وعرَض لوحاته معهم. وكان لا يرى في وظيفة المبدع خدمة المجتمع، وتحديده في موقف سياسي، لا يعبأ بالمعايير الفنية، إذ هذا ما كان يؤمن به اليساريين من الفنانين، وكانت "جماعة بغداد للفن الحديث" مؤلفة من:
المعمار قحطان عوني، والرسامة نزيهة سليم وأخيها نزار سليم وجواد سليم وجبرا إبراهيم جبرا والنحات خالد الرحال، وشاكر آل السعيد.
أما "جماعة الرواد" فكانت مكونة من الرسام فائق حسن والرسام إسماعيل الشيخلي والدكتور قتيبة الشيخ نوري والدكتور خالد القصاب، وزيد صالح والرسام محمود صبري والرسام عيسى حنا.
بعد أن تزوجت المعمار رفعة الجادرجي، أصبحت دارناً ملتقى الفنانين والرسامين والمعماريين، كان مجلس الإعمار قد أتخذ قراراً في دعوة المعماريين العالميين من أوربا والولايات المتحدة، ليقوموا في تصميم بعض الأبنية الحكومية، من أمثال جيو بونتي، الذي صمم وزارة الإعمار، وفرنك لويد رايت، الذي كلف في تصميم الأوبرا، وولتر كروبيس في تصميم جامعة بغداد، ولو كوربوزية في تصميم ملعب بغداد، وغيرهم
والتقيت جبرا ثانية في دارنا في تلك المناسبات، إذ كان جبرا ولميعة قد عادا من دراستهما في الولايات المتحدة، وكان يحضر معظم تلك اللقاءات والاجتماعات، كما أصبحت داره ملتقى الفنانين والكّتاب أيام الجمعة، وكان بدوره يدعونا كلما زار العراق شخصية مهمة أو رسام عالمي، مثل الرسام الأسترالي سدني نولان. أصبح جبرا من الشخصيات النشطة في العراق والعالم العربي. وكان له دور وتأثير بارز في مسيرة الإبداع إن كان في الرواية أو الشعر أو الفن.
في عام 1958 قام الجيش العراقي بالانقلاب والإطاحة بالعهد الملكي، وأصبح عبد الكريم قاسم رئيساً للوزراء، وبعد مرور أشهر على الثورة، طلب عبد الكريم قاسم من رفعة الجادرجي الذي عيُّن مدير الإسكان العام، تصميم ثلاثة أنصبة، الجندي المجهول الذي قام بتصميمه رفعة، والذي هدمه صدام حسين عام 1982، ليقام تمثال له، وآخر نصب 14 تموز، ونصب الحرية، وكتب رفعة في كتابه "الأخيضر والقصر البلوري":
" في نهاية عام 1958، كانت شوارع بغداد مليئة بالمظاهرات مع لافتات قبيحة، وهتافات مملة لا معنى فيها ولاعقلانية، ففكرت بإقامة نصب بطول 50 متراً لافته، بشكل عقلاني. لم يكن لي علاقة نهائياً بالمنحوتات، كّله من البداية للنهاية عمل جواد، أنا فقط هيأت له النصب والفكرة العامة."
وأصدر جبرا بعد وفاة جواد كتاباً عن النصب بعنوان: "جواد سليم ونصب الحرية، دراسة في آثاره وآرائه" وكتب:
"إن سليم بعد تكليفه بتصميم النصب، وفي غمرة نشوته، وجد أن الأنظار تتجه إليه ليجّسد الحلم الذي راوده لسنين طوال. لم يكن هناك أي تردد، لقد طلب إليه المسؤولون بعد الثورة بأشهر قلائل، أن يصمم نصباً للثورة لكي يقام في ساحة التحرير، أكبر ساحات بغداد. وأعطي مطلق الحرية بالضبط هي ما كان يخشى ألا تجود به الدولة، وهي التي أصر عليها قبل كل شيء."
بعد الاحداث الدامية التي شهدها العراق بالانقلاب على رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والقضاء على عهده في 8 شباط 1963، اختفى عدد من المفكرين والمثقفين اليساريين في غياهب السجون
والمعتقلات، التي أدت إلى موت البعض منهم، وفصل عدد كبير من الناس من أعمالهم ووظائفهم، ولو أن تلك الاحداث لم تدم أكثر من بضعة أشهر لكنها تركت سحابة معتمة في أجواء العراق
وانتهت بانقلاب عبد السلام عارف عندما شعر ان مقاليد الحكم ستفلت من بين يديه.
مّر العراق في فترة حكم عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن بنوع من الهدوء النسبي، وشعرت الفئة المثقفة بفراغ كبير، فقد كانت بحاجة إلى سد الثغرة الفكرية التي تعاني منها. فاجتمع عدد من الفنانين والمعمارين وقرروا إنشاء جمعية هدفها ممارسة النشاطات الفنية والثقافية، وفي أن تكون مقراً يجتمع فيه الفنانون ومحبو الفن واصدقاءهم، كما كان الهدف أيضاً إحياء الطقوس التقليدية وتهذيبها والحفاظ عليها، وأطلق عليها (الجعية البغدادية).
أسست عدة لجان، منها لجنة السينما ولجنة الفن ولجنة المسرح التي كان جبرا رئيسها ومسؤولاً عن اختيار المسرحيات التي تعرض في الجمعية، إذ كان من أهداف الجمعية تشجيع المسرح. قام جبرا في ترجمة بعض المسرحيات إلى اللغة العربية، منها مسرحية "في انتظار غودو" للكاتب "صموئيل بكيت" التي عرضت على مسرح الجمعية. وحضرها آنذاك ممثلين عن إذاعة بي بي سي، ودهشوا بعد الانتهاء من عرض المسرحية، فلم يتوقعوا المستوى الرفيع من حيث الترجمة والإخراج والتمثيل.
واستمرت الجمعية من عام 1963حتى عام 1968 في إقامة المعارض والمسرحيات، وعرض أفلام عالمية بمعظم لغات العالم، حتى إلقاء قنبلة على المبنى من قبل بعض البعثيين، وعندما استلموا الحكم كانت الجمعية من أول الضحايا.
واستمر جبرا في متابعة تطورات الرسامين العراقيين، وكتب المقدمات لمعارضهم وأعمالهم، كما نشر المقالات في الصحف للتعريف بأساليبهم الفنية.
وأشرف على تحرير مجلة "عاملون في النفط"، وأصبحت مجلة ثقافية، تعني بالفن أيضاً. ولم يكن نشاطه الفني فقط في العراق، بل شارك في الفعاليات الثقافية والفنية في لبنان مع الشاعر يوسف الخال، الذي كان يدير "غاليري وان"، فأصدرا مجلة "فنون عربية"، حيث تولى جبرا تحريرها.
وفي نهاية عقد السبعينيات، تسلم مقاليد الحكم في بغداد صدام حسين، بعد ان تخّلص من رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، وأصبح هو رئيساً للجمهورية، وبدأت حملة اعتقالات واسعة، شملت معظم أعضاء حزب البعث المهمين بالإضافة إلى عدد من الأطباء والمعماريين والمهندسين وأصحاب الاعمال، كان من بين الذين ألقي القبض عليهم وحكم عليه في السجن المؤبد زوجي رفعة الجادرجي.
عندما علم جبرا في اعتقال رفعة، زارنا وزوجته لميعة في دار أم رفعة، كانت غرفة أم رفعة مليئة بالنساء، وكان جبرا الرجل الوحيد بين هذا الحشد من النساء. شعرتُ بالحرج الذي شعر به جبرا، لكني وجدت من اللياقة آلا نترك الغرفة مراعاة لشعور أم رفعة وصديقاتها، فتحّمل جبرا هذا الحشد من النسوة البعيدات عن أجوائه وتفكيره. كان جبرا ولميعة متألمان لاعتقال رفعة المفاجئ. وظلا مواظبان على زيارة السجن، فقد كانا يتنقلان بين اصدقائهما، وكان من بينهم الكاتب عطا عبد الوهاب المحكوم بالسجن المؤبد.
بعد أن أفرج عن رفعة، قضى سنتين في بغداد، وسافرنا في عام 1982 إلى الولايات المتحدة ولم نعد إلى العراق، بل كنا في اتصال دائم مع الاهل والأصدقاء تلفونيا. وخلال تلك الفترة توفيت لميعة
وكان جبرا حزيناً على فقدانها، وبعد ان كلّمه رفعة، أعطاني التلفون، وما إن أبديت اسفي على رحيلها عن هذا العالم، قلت له ان لميعة كانت تحتفل دائماً بالحياة، حتى شعرتُ بانفعاله قائلاً لي: بلقيس لا أستطيع الكلام، وصمت التلفون بيدي، وضعت السماعة، ولكن ظل صوت جبرا الحزين المكبوت يرّن في أذني، علمتُ بعد ذلك أنه أصيب بنوبة خفيفة، عندما كلمني ونقل على أثرها إلى المستشفى.
أحس جبرا بالوحدة بعد أن رحلت لميعة عن الوجود، وسجّل في كتابه "شارع الأميرات" ذكرياته عن بغداد في الخمسينيات من القرن الماضي، وعن أجواء وشخصيات كان لها تأثير في مسيرة الإبداع في العراق، وساهمت في خلق ذائقة جديدة، إن كان ذلك في الأدب والشعر أو الرسم والنحت. ومن اقواله عن الألم: (لا بأس ان يساورك الشعور بالأم، فهذا معناه ان ذهنك نابض، وقلبك نابض، وأحاسيسك نابضة).
كان لي آخر حديث معه تلفونياً قبل وفاته بأسابيع، عن المقال الذي كتبه بعنوان: "المشائين" ونشرته مجلة "الناقد"، فقد اعجبتني الفكرة التي ربطها بالفيلسوف اليوناني "سقراط". فتحدث عن المشي والاحاسيس والأفكار التي تأتي، عندما يمارس الشخص هواية المشي، فكتب:
" أني منذ بداياتي من عشيرة المشائين ففي طفولتي وحداثتي، حتى سن الخامسة عشر لم أركب عربة أو سيارة إلا مرات معدودات متباعدات، كانت روحاتي وعوداتي إلى الدار والمدرسة على القدمين". حيث "تتهادى الذكريات وتتسارع الخواطر".
كان جبرا متسامحاً، رحب الصدر، يؤكد دائماً على النواحي الإيجابية ويتغاضى عن السلبيات في الحياة، لذا لم يكن يتحدث عما عاناه في وطنه فلسطين، بل أفرغ تلك المعاناة معّبراً عنها في رواياته ومقالاته. وكتابه "البئر الأولى" ما هو إلا دليل على ما عاناه من قسوة الحياة والفقر المدقع، عندما كان طفلاً في بيت لحم. ووصفها وصف لا يمكن إلا أن يظل قابعاً في الذاكرة.
فكتب في المقدمة:
"البئر في الحياة إنما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكناً. فيها تتجمع التجارب، كما تتجمع المياه، لتكون الملاذ أيام العطش، وحياتنا ما هي إلا سلسلة من الآبار. نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة، سّرب إليها المياه المتجمعة من غيث السماء والتجارب، لنعود إليها كلما استبد بنا العطش وضرب الجفاف أرضنا."
ظلت فلسطين والقدس وطنه الأول الذي فقده في 1948 تعيش في ذاكرته وكتبه، يقال: "إن الأشياء تبدو أكثر وضوحاً حين تغيب عن ساحة الرؤية"، وقال جبرا في أكثر من مكان: "القدس أجمل مدينة في الدنيا". كما كان يقول عن الجمال: "الجمال حزين، أجمل ما في الحياة حزين.. كبلادي".
لكن أصبحت بغداد، التي احتضنته، وطنه الثاني، فلم يهاجر أو يتركها في التسعينيات من القرن الماضي، عندما فُرض الحصار القاسي على العراق، بعد محاولة صدام حسين في احتلال الكويت، بل كان من القلائل الذين لم يهاجروا إلى بلد آخر، ظل مقيماً في بغداد، رغم المعاناة وشظف العيش آنذاك، حيث رحل عنها في عام 1994.
لم نفقد بموت جبرا روائيا وناقداً ورساماً، وإنما فقدنا بموته طيبة النفس والكرم العميق الذي تجلى في تلك الذات، التي فقدناها بموته. وكلنا نعلم ان الحياة رحلة نتمتع بها قبل الموت، وكانت حياة جبرا رحلة واسعة متشابكة في القدرة على الإنتاج في مختلف النواحي التي تطرق لها في كتبه ورسومه. وكان يؤمن ان البشرية تصبح أكثر خيراً عندما تصبح أكثر حباً.
لم تسلم حتى داره من الدمار، ففي عام 2010 نفّذ أحد الانتحاريين تفجيراً بالقرب من داره، ولم يبقى شيء منه، بل أصبح ركاماً، واحترقت معظم رسائله وبعض رسومه. وتدمير دار جبرا يمثل الحقبة التي يمّر بها العراق اليوم من تدمير آثاره.
لقد كُتب الكثير عن جبرا الروائي الذي حاول ان يتخطى الأسلوب السائد في كتابة الرواية، وجبرا المترجم الذي حافظ على جمالية النص، وجبرا الناقد إذ كان يعتبر من أهم النقاد في تتبع الساحة الثقافية العربية بصورة عامة والعراق بصورة خاصة، كما عالج الشخصية الفلسطينية في الشتات، لذا سأكتفي بالكتابة عن الذكريات التي تربطني به.
تعود علاقتي بالأستاذ جبرا إلى عام 1951، عندما قبلت كطالبة في كلية الآداب. فقد تأسست كلية الآداب والعلوم في نهاية الاربعينيات من القرن الماضي، كانت فكرة عميدها عبد العزيز الدوري، ان تصبح نواة إلى جامعة بغداد، وكان هنالك اتجاه بربطها في جامعة لندن آنذاك، من حيث مستواها العلمي والأدبي، فاستقدم معظم الأساتذة الذين يدّرسون في كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية من بريطانيا، وكانوا جميعهم انكليز ما عدا الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا الذي كان عربياً من فلسطين. لكنه خريج جامعة كميبرج في الأدب الإنكليزي، كما كان رئيس فرع الاقتصاد بريطانياً وحتى المسؤول عن المكتبة في الكلية بريطاني.
أجرى قسم اللغة الإنكليزية مقابلة للتلامذة الذين سيقبلون في القسم. كان اسمي ثالث اسم، وكانت اللجنة مكونة من استاذين: الأستاذ الكاتب جبرا إبراهيم جبرا والأستاذ والكاتب والصحفي ديزمند سيتورات، وهي المرة الأولى التي التقي فيها بالأستاذ جبرا. عندما دخلت الغرفة سألني لماذا ترغبين في دراسة هذا الفرع؟ اجبت: لأنني مولعة في قراءة الأدب، ثم سألني دزمند: بمن معجبة من الشعراء الإنكليز؟ أجبت: شيلي وكتيس وبايرون. ثم استطرد جبرا وسألني سؤالاً أقرب منه إلى أحجية: كم كان عمر شيلي عندما توفي وكيف مات؟ فأجبته: ثلاثين عاماً ومات غرقاً. وبعد انتهاء المقابلة، سألني جبرا إن كانت لي علاقة بالكاتب عبد اللطيف شرارة، أجبت: أنه عمي، قال: أقرأ مقالاته التي تنشر في الصحف والمجلات.
كان جبرا نحيفاً، ضامر الوجه، متفرداً بشعره الأسود الطويل المجعّد، الذي يشبه شعر الشعراء الرومنطيقيين في القرن التاسع عشر.
فتح لنا أبواباً جديدة في تذوق الأدب لم نكن نعهدها في السابق، فكان يتقمص شخصية الشاعر عندما يقرأ الشعر، وينقل لنا أجواء الحب والمعاناة في قصائد كيتس وشيلي وبايرون، وكأنه هو الذي عانى وقاسى الحب، فيهمن علينا عن طريق استاذنا سحر أجواء أولئك الشعراء الرومنطيقيين، وكأننا بصحبتهم نحس بما يحسون به. وعندما كان يقرأ قصائد الشاعر وردس ورث في وصف الطبيعة، كنا نتحسس ونتذوق جمال تلك الطبيعة. كان جبرا يحب الجمال في كل شيء في الحياة، كما علّمنا على حرية البحث والتقصي، وليس حفظ ما كان يلقيه علينا عن ظهر قلب، لذا كان جميع التلامذة ينتظرون حصته بشوق وحرارة.
تأسستْ في كلية الآداب آنذاك عدة جمعيات، منها الجمعية الفنية برئاسة الرسام حافظ الدروبي، وجمعية الموسيقى برئاسة جبرا إبراهيم جبرا، فكان مشرفاً على الموسيقى الكلاسيكية. جذبت جمعية الموسيقى العديد من الطلبة والأساتذة المولعين في سماع الموسيقى الكلاسيكية الغربية. كنا نجتمع مساء نهاية الأسبوع في قاعة الكلية بعد انتهاء الدوام، وكان جبرا يقف خلف المنصة، فتشرئب الاعناق ويسود الصمت، ليبدأ بشرح أهمية القطعة الموسيقية أو الأوبرا التي سنستمع إليها. كان له فضل كبير في تثقيف عدد من الطلبة في ميلهم وحبهم وولعهم في تذوق الموسيقى الكلاسيكية الغربية.
كانت القطعة الموسيقية الأولى التي سمعناها هي "أوبرا عايدة" للموسيقار الإيطالي "فردي"، وهي المرة الأولى التي استمع فيها إلى أوبرا، إذ كنا في دارنا نستمع كثيراً الى موسيقى موزات وبيتهوفن
وتشايكوفسكي وسترافنسكي وغيرهم من الموسيقيين الغربيين، لكن جبرا فتح أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها. ولذا اتخذت من سماع الموسيقى الجنائزية جسراً اتكئ عليه لكي افهم الأوبرا.
كما كان يلقي المحاضرات في كلية البنات بالإضافة إلى التدريس في كلية الآداب. كانت تلميذات كلية البنات ينتظرنه بشوق، ويجلسن حوله على شكل حلقات يستمعن إلى أحاديثه الشيقة عندما كان يتردد على نادي الكلية بعد الانتهاء من التدريس.
تعّرف على زوجته لميعة برقِي العسكري التي كانت تدّرس في كلية الآداب والعلوم، لكن رغم إعلان اسلامه كانت هنالك معارضة شديدة، فلم يكن المجتمع التقليدي يتقبل زواج شخص مسيحي قادم من القدس بفتاة مسلمة من عائلة معروفة في بغداد، في منتصف القرن الماضي، فلحظات العشق الباهظة لابد لها من ثمن تستحقة، كما يقول جبرا، لكن وفّرت له لميعة أجواء الكتابة والرسم.
"بالنسبة إليّ كانت الكتابة مع الرسم أحياناً، ضرورية ضرورة الحب، ضرورة الصداقات، ضرورة الماء والخبز، وهذا كله كانت لميعة تعرفه، وتحرص عليه، وراحت دون أن تتحدث فيه توّفر جوه لي، بتلقائية وذوق، مع كثير من التضحية".
كانت النخبة المفكرة في العراق تمّر في مخاض التجديد، إن كان ذلك بالنسبة للشعر أو الفن. كان البحث يدور حول وظيفة الفن والادب ودورهما في المجتمع. وكان جبرا منفتحاً يرغب في التعرف على عوالم مغايرة، والابتعاد عن الشعر التقليدي ذا القافية، فكانت تربطه علاقات مع تلك النخبة من الشعراء مثل الشاعر بدر شاكر السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة والبياتي.
كما أدى الجدل المتواصل في الفن الى انقسام جماعة "ألا س بي" إلى قسمين، وهم جماعة "الرواد" التي أصبح يرأسها فائق حسن، و "جماعة بغداد للفن الحديث". وكان جبرا أحد مؤسسي "جماعة الفن الحديث" التي ترأسها جواد سليم آنذاك، كما كان صديقاً لجواد، وأصبح ناقدهم ومؤرخهم، وشارك في صياغة بيانهم الأول، كما شارك في المعارض التي كانت تقام سنويا وعرَض لوحاته معهم. وكان لا يرى في وظيفة المبدع خدمة المجتمع، وتحديده في موقف سياسي، لا يعبأ بالمعايير الفنية، إذ هذا ما كان يؤمن به اليساريين من الفنانين، وكانت "جماعة بغداد للفن الحديث" مؤلفة من:
المعمار قحطان عوني، والرسامة نزيهة سليم وأخيها نزار سليم وجواد سليم وجبرا إبراهيم جبرا والنحات خالد الرحال، وشاكر آل السعيد.
أما "جماعة الرواد" فكانت مكونة من الرسام فائق حسن والرسام إسماعيل الشيخلي والدكتور قتيبة الشيخ نوري والدكتور خالد القصاب، وزيد صالح والرسام محمود صبري والرسام عيسى حنا.
بعد أن تزوجت المعمار رفعة الجادرجي، أصبحت دارناً ملتقى الفنانين والرسامين والمعماريين، كان مجلس الإعمار قد أتخذ قراراً في دعوة المعماريين العالميين من أوربا والولايات المتحدة، ليقوموا في تصميم بعض الأبنية الحكومية، من أمثال جيو بونتي، الذي صمم وزارة الإعمار، وفرنك لويد رايت، الذي كلف في تصميم الأوبرا، وولتر كروبيس في تصميم جامعة بغداد، ولو كوربوزية في تصميم ملعب بغداد، وغيرهم
والتقيت جبرا ثانية في دارنا في تلك المناسبات، إذ كان جبرا ولميعة قد عادا من دراستهما في الولايات المتحدة، وكان يحضر معظم تلك اللقاءات والاجتماعات، كما أصبحت داره ملتقى الفنانين والكّتاب أيام الجمعة، وكان بدوره يدعونا كلما زار العراق شخصية مهمة أو رسام عالمي، مثل الرسام الأسترالي سدني نولان. أصبح جبرا من الشخصيات النشطة في العراق والعالم العربي. وكان له دور وتأثير بارز في مسيرة الإبداع إن كان في الرواية أو الشعر أو الفن.
في عام 1958 قام الجيش العراقي بالانقلاب والإطاحة بالعهد الملكي، وأصبح عبد الكريم قاسم رئيساً للوزراء، وبعد مرور أشهر على الثورة، طلب عبد الكريم قاسم من رفعة الجادرجي الذي عيُّن مدير الإسكان العام، تصميم ثلاثة أنصبة، الجندي المجهول الذي قام بتصميمه رفعة، والذي هدمه صدام حسين عام 1982، ليقام تمثال له، وآخر نصب 14 تموز، ونصب الحرية، وكتب رفعة في كتابه "الأخيضر والقصر البلوري":
" في نهاية عام 1958، كانت شوارع بغداد مليئة بالمظاهرات مع لافتات قبيحة، وهتافات مملة لا معنى فيها ولاعقلانية، ففكرت بإقامة نصب بطول 50 متراً لافته، بشكل عقلاني. لم يكن لي علاقة نهائياً بالمنحوتات، كّله من البداية للنهاية عمل جواد، أنا فقط هيأت له النصب والفكرة العامة."
وأصدر جبرا بعد وفاة جواد كتاباً عن النصب بعنوان: "جواد سليم ونصب الحرية، دراسة في آثاره وآرائه" وكتب:
"إن سليم بعد تكليفه بتصميم النصب، وفي غمرة نشوته، وجد أن الأنظار تتجه إليه ليجّسد الحلم الذي راوده لسنين طوال. لم يكن هناك أي تردد، لقد طلب إليه المسؤولون بعد الثورة بأشهر قلائل، أن يصمم نصباً للثورة لكي يقام في ساحة التحرير، أكبر ساحات بغداد. وأعطي مطلق الحرية بالضبط هي ما كان يخشى ألا تجود به الدولة، وهي التي أصر عليها قبل كل شيء."
بعد الاحداث الدامية التي شهدها العراق بالانقلاب على رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والقضاء على عهده في 8 شباط 1963، اختفى عدد من المفكرين والمثقفين اليساريين في غياهب السجون
والمعتقلات، التي أدت إلى موت البعض منهم، وفصل عدد كبير من الناس من أعمالهم ووظائفهم، ولو أن تلك الاحداث لم تدم أكثر من بضعة أشهر لكنها تركت سحابة معتمة في أجواء العراق
وانتهت بانقلاب عبد السلام عارف عندما شعر ان مقاليد الحكم ستفلت من بين يديه.
مّر العراق في فترة حكم عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن بنوع من الهدوء النسبي، وشعرت الفئة المثقفة بفراغ كبير، فقد كانت بحاجة إلى سد الثغرة الفكرية التي تعاني منها. فاجتمع عدد من الفنانين والمعمارين وقرروا إنشاء جمعية هدفها ممارسة النشاطات الفنية والثقافية، وفي أن تكون مقراً يجتمع فيه الفنانون ومحبو الفن واصدقاءهم، كما كان الهدف أيضاً إحياء الطقوس التقليدية وتهذيبها والحفاظ عليها، وأطلق عليها (الجعية البغدادية).
أسست عدة لجان، منها لجنة السينما ولجنة الفن ولجنة المسرح التي كان جبرا رئيسها ومسؤولاً عن اختيار المسرحيات التي تعرض في الجمعية، إذ كان من أهداف الجمعية تشجيع المسرح. قام جبرا في ترجمة بعض المسرحيات إلى اللغة العربية، منها مسرحية "في انتظار غودو" للكاتب "صموئيل بكيت" التي عرضت على مسرح الجمعية. وحضرها آنذاك ممثلين عن إذاعة بي بي سي، ودهشوا بعد الانتهاء من عرض المسرحية، فلم يتوقعوا المستوى الرفيع من حيث الترجمة والإخراج والتمثيل.
واستمرت الجمعية من عام 1963حتى عام 1968 في إقامة المعارض والمسرحيات، وعرض أفلام عالمية بمعظم لغات العالم، حتى إلقاء قنبلة على المبنى من قبل بعض البعثيين، وعندما استلموا الحكم كانت الجمعية من أول الضحايا.
واستمر جبرا في متابعة تطورات الرسامين العراقيين، وكتب المقدمات لمعارضهم وأعمالهم، كما نشر المقالات في الصحف للتعريف بأساليبهم الفنية.
وأشرف على تحرير مجلة "عاملون في النفط"، وأصبحت مجلة ثقافية، تعني بالفن أيضاً. ولم يكن نشاطه الفني فقط في العراق، بل شارك في الفعاليات الثقافية والفنية في لبنان مع الشاعر يوسف الخال، الذي كان يدير "غاليري وان"، فأصدرا مجلة "فنون عربية"، حيث تولى جبرا تحريرها.
وفي نهاية عقد السبعينيات، تسلم مقاليد الحكم في بغداد صدام حسين، بعد ان تخّلص من رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، وأصبح هو رئيساً للجمهورية، وبدأت حملة اعتقالات واسعة، شملت معظم أعضاء حزب البعث المهمين بالإضافة إلى عدد من الأطباء والمعماريين والمهندسين وأصحاب الاعمال، كان من بين الذين ألقي القبض عليهم وحكم عليه في السجن المؤبد زوجي رفعة الجادرجي.
عندما علم جبرا في اعتقال رفعة، زارنا وزوجته لميعة في دار أم رفعة، كانت غرفة أم رفعة مليئة بالنساء، وكان جبرا الرجل الوحيد بين هذا الحشد من النساء. شعرتُ بالحرج الذي شعر به جبرا، لكني وجدت من اللياقة آلا نترك الغرفة مراعاة لشعور أم رفعة وصديقاتها، فتحّمل جبرا هذا الحشد من النسوة البعيدات عن أجوائه وتفكيره. كان جبرا ولميعة متألمان لاعتقال رفعة المفاجئ. وظلا مواظبان على زيارة السجن، فقد كانا يتنقلان بين اصدقائهما، وكان من بينهم الكاتب عطا عبد الوهاب المحكوم بالسجن المؤبد.
بعد أن أفرج عن رفعة، قضى سنتين في بغداد، وسافرنا في عام 1982 إلى الولايات المتحدة ولم نعد إلى العراق، بل كنا في اتصال دائم مع الاهل والأصدقاء تلفونيا. وخلال تلك الفترة توفيت لميعة
وكان جبرا حزيناً على فقدانها، وبعد ان كلّمه رفعة، أعطاني التلفون، وما إن أبديت اسفي على رحيلها عن هذا العالم، قلت له ان لميعة كانت تحتفل دائماً بالحياة، حتى شعرتُ بانفعاله قائلاً لي: بلقيس لا أستطيع الكلام، وصمت التلفون بيدي، وضعت السماعة، ولكن ظل صوت جبرا الحزين المكبوت يرّن في أذني، علمتُ بعد ذلك أنه أصيب بنوبة خفيفة، عندما كلمني ونقل على أثرها إلى المستشفى.
أحس جبرا بالوحدة بعد أن رحلت لميعة عن الوجود، وسجّل في كتابه "شارع الأميرات" ذكرياته عن بغداد في الخمسينيات من القرن الماضي، وعن أجواء وشخصيات كان لها تأثير في مسيرة الإبداع في العراق، وساهمت في خلق ذائقة جديدة، إن كان ذلك في الأدب والشعر أو الرسم والنحت. ومن اقواله عن الألم: (لا بأس ان يساورك الشعور بالأم، فهذا معناه ان ذهنك نابض، وقلبك نابض، وأحاسيسك نابضة).
كان لي آخر حديث معه تلفونياً قبل وفاته بأسابيع، عن المقال الذي كتبه بعنوان: "المشائين" ونشرته مجلة "الناقد"، فقد اعجبتني الفكرة التي ربطها بالفيلسوف اليوناني "سقراط". فتحدث عن المشي والاحاسيس والأفكار التي تأتي، عندما يمارس الشخص هواية المشي، فكتب:
" أني منذ بداياتي من عشيرة المشائين ففي طفولتي وحداثتي، حتى سن الخامسة عشر لم أركب عربة أو سيارة إلا مرات معدودات متباعدات، كانت روحاتي وعوداتي إلى الدار والمدرسة على القدمين". حيث "تتهادى الذكريات وتتسارع الخواطر".
كان جبرا متسامحاً، رحب الصدر، يؤكد دائماً على النواحي الإيجابية ويتغاضى عن السلبيات في الحياة، لذا لم يكن يتحدث عما عاناه في وطنه فلسطين، بل أفرغ تلك المعاناة معّبراً عنها في رواياته ومقالاته. وكتابه "البئر الأولى" ما هو إلا دليل على ما عاناه من قسوة الحياة والفقر المدقع، عندما كان طفلاً في بيت لحم. ووصفها وصف لا يمكن إلا أن يظل قابعاً في الذاكرة.
فكتب في المقدمة:
"البئر في الحياة إنما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكناً. فيها تتجمع التجارب، كما تتجمع المياه، لتكون الملاذ أيام العطش، وحياتنا ما هي إلا سلسلة من الآبار. نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة، سّرب إليها المياه المتجمعة من غيث السماء والتجارب، لنعود إليها كلما استبد بنا العطش وضرب الجفاف أرضنا."
ظلت فلسطين والقدس وطنه الأول الذي فقده في 1948 تعيش في ذاكرته وكتبه، يقال: "إن الأشياء تبدو أكثر وضوحاً حين تغيب عن ساحة الرؤية"، وقال جبرا في أكثر من مكان: "القدس أجمل مدينة في الدنيا". كما كان يقول عن الجمال: "الجمال حزين، أجمل ما في الحياة حزين.. كبلادي".
لكن أصبحت بغداد، التي احتضنته، وطنه الثاني، فلم يهاجر أو يتركها في التسعينيات من القرن الماضي، عندما فُرض الحصار القاسي على العراق، بعد محاولة صدام حسين في احتلال الكويت، بل كان من القلائل الذين لم يهاجروا إلى بلد آخر، ظل مقيماً في بغداد، رغم المعاناة وشظف العيش آنذاك، حيث رحل عنها في عام 1994.
لم نفقد بموت جبرا روائيا وناقداً ورساماً، وإنما فقدنا بموته طيبة النفس والكرم العميق الذي تجلى في تلك الذات، التي فقدناها بموته. وكلنا نعلم ان الحياة رحلة نتمتع بها قبل الموت، وكانت حياة جبرا رحلة واسعة متشابكة في القدرة على الإنتاج في مختلف النواحي التي تطرق لها في كتبه ورسومه. وكان يؤمن ان البشرية تصبح أكثر خيراً عندما تصبح أكثر حباً.
لم تسلم حتى داره من الدمار، ففي عام 2010 نفّذ أحد الانتحاريين تفجيراً بالقرب من داره، ولم يبقى شيء منه، بل أصبح ركاماً، واحترقت معظم رسائله وبعض رسومه. وتدمير دار جبرا يمثل الحقبة التي يمّر بها العراق اليوم من تدمير آثاره.