آدم بشير تاور - ذاكرة الجليد

بين غفوتي واستيقاظي الناعس تأخذني ذاكرتي المخدرة بالجليد إلى أقصى النقيض، هناك حيث شمس أفريقيا الحارقة هناك حيث ترقص حبات العرق اللؤلؤية على جبيني وتسيل على كل جسمي. بلادي التي يكون لنسيم الهواء فيها طعم فريد أتلذذ به وأفتح له رئتي إلى حد توسعها فيداعب النسيم قصيباتي و أسناخي المنتشية بشهيقي المسترسل عميقاً، هناك حيث تكون للبرودة لذة جميلة وليس وجعا بشعا كالذي أعيشه؛ هنا تدثرني ليلة ثلجية موغلة في البرودة ويحاصرني الصقيع من كل جانب هنا على مرفأ كئيب لا أعرف فيه أحد ولا أعرف عنه شيء كل ما أعرفه أنني من هذا المرفأ سأنطلق إلى المجهول، حقيبة ظهري ودفتر عتيق وبعض الأمنيات هو كل زادي نحو الطرف الآخر من الدنيـا.
في غفوتي المرتعشة يهاجمني صدى الأصوات الغريبة واللغة المبهمة تجتاحني حواجزها من كل اتجاه. تحت أقدامي نتفات ثلجية تتهاوى في الهواء قبل أن تعانق الأرض ما تلبث أن تذوب تلك النتفات متجمعة لتشكل نهرا صغيرا على الأرضية المرصوفة بالحجارة، العاصفة الثلجية تستمر في هيجانها ليستمر الثلج في تجميد ذاكرتي التي طالما كانت دافئة بفعل حرارة أفريقيا وشمسها الناضجة، ذاكرتي التي تمددها الحرارة فتنسج وطنا جميلاً، رقصة أفريقية ساحرة و حتى عالم فسيح يبدع فيه الإنسان الذي يسكنني؛ إنسان أفريقيا.
نفس تلك الذاكرة الآن مجمدة كجثة هامدة لا تقوى إلاّ على التفكير في الوجبة القادمة التي تمدني بمزيد من السعرات الحرارية التي يمكن أن تدفئني أكثر.
في غفوتي تتراءى لي أزقة بلدي وبيوتها التي أفتقدها الآن أفتقد صراخ باعة أسواقها أفتقد زحامها وضجيجها وذلك العرق الذي يجف على جبيني في طريق عودتي عند الظهيرة، كل ذلك البؤس يشكل أجمل ذكرياتي فالإنسان لا يدرك حقيقة الأشياء إلا حين يفقدها إلا عندما يؤلمه فراق تلك الأشياء التافهة عينها التي كان يحتقرها و يضجر منها.
تلك الشمس بحرارتها اللاسعة حين تصقع بشرتي لتمدني بطاقتي التي تسير عبر مسامتي المتوسعة عابرة حدود أعصابي إلى كرياتي الدموية فتلهبها ثم تغلي وهي تدور في أنحاء جسدي لتزوده بوقوده اليومي ما هي إلا أنا؛ دون تلك الشمس لا أكون إلا كشرنقة لم تتفتق عنها أغشيتها بعد، فدون تلك الشموس الحارقة لا أكون سوى كائن تحت بيات سرمدي.
هنا في هذه الناحية من من الأرض الشمس لم تنضج بعد ما زالت في طور طفولتها؛ لينة، هشة و باردة الملامح، في عز نهارها المشمس تحتفظ شجيرة الصنوبر الخضراء التي كنت أجلس تحتها البارحة بفستانها الأبيض الذي توشحت به كعروس سمراء من قلب أفريقيا، يلفحها الثلج ويكسوها بياضا لا يفارق أفرعها اليانعة رغم رقيصها مع هبوب العاصفة فتزداد ألقاً وبهاءً بخضرتها وبياض ثوبها الراقص؛ إلاّ أن في ذاكرتي تلك السافانا التي لا مثيل لها في قلبي تلك الصحراء وتلك الجبال التي تأسرني. لا شيء يضاهي أشيائي التافهة، لا شيء.
هنا في هذا الجليد و في هذه الليلة الباردة تتسلل من رؤوس البيوت خيوط دخانية راقصة تلفظها المدافئ العتيقة فتتصاعد شاقة عاصفة الثلج في كبرياء. أراقب من على شرفتي تلك المدافئ بدخانها الثائر بينما خلفي غرفة باردة لا يوجد بها ما يدفئني سوى ذاكرتي المتجمدة؛ هي مدفئتي التي تذوّب جليد غربتي وتحفز قلبي المصقوع كي ينبض من جديد. هنا سأقضي ليلتي الأخيرة حيث أغادر باكراً إلى المجهول رغم مخاطر المغامرة إلا أنني وصلت نقطة اللا عودة لم يتسنى لي أن أعيد التفكير في قراري وإلا ما كنت هنا. إلاّ أنني يوما ما سوف أبحر حيث الحياة في رحلتي العكسية لن أعيش بعيدا عن بلاد الشمس في المجهول سوف أعود إلى الصحراء، إلى السافانا حيث تلحفني شموسها الحارقة، سوف أعود.

# قونيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى