وضع مدير مؤسستنا الجديد يده الضخمة على إطار الباب الخارجي للمؤسسة مُعترضًا طريقي أنا الكاتب القصص المتطوّع المُزمن هناك:
-إلى أين إن شاء الله؟
أرسلت إليه نظرة مستغربة فتابع يقول: النهار ما زال في أوله.
أرسلت أليه نظرة أخرى مستغربة، فأنا هنا في هذه المؤسسة أعمل متطوّعًا منذ حوالي الثلاثين عامًا ولا أحد يسألني من أين أتيت أو إلى أين أنت ذاهب.
أنزل المدير يده عن إطار الباب ووضعها على كتفي:
-أريدك أن تبقى هنا.. بعد قليل ستأتي الفنانة زهرة العمر.. أريد أن نستقبلها معًا. هي أيضًا أحبت أن تراك.
مضى المدير ومضيت وراءه في الاتجاه المعاكس لبّوابة المؤسسة.. كنّا ندخل إلى هناك وكأنما لا يوجد هناك آخر في الدنيا. هو على ما بدا كان يفكّر في احراز إنجازات تؤكد له سيطرته الراقصة المهزوزة على المؤسسة.. باستقباله تلك الفنانة، وأنا كنت أطير أو أكاد لاعتقادي أن زهرة العمر قرّرت أخيرًا أن تأتي من تلك البلاد البعيدة إلى بلدتي القريبة. ورحت أتصوّر اللحظة التي ستدخل فيها زهرتي إلى المؤسسة وبأية طريقة سأستقبلها وفي الكلمات التي سأهمس لها بها في أذنها. لقد مضى دهر من الغياب والبُعد، وها هي تقرّر أخيرًا أن تعود وأن تطرق بابي بعد خبوّ أمل وانطفاء نار. قبل حوالي الثلاثين عامًا كنت أتردّد على مرسم والدها.. كانت حينها في العاشرة من عمرها، كانت تربط ضفيرتيها بأشرطة ملوّنة بلون عُمق بلدتنا المشتركة.. حبيبة الكلّ. وتدخل إلينا، والدها المرحوم وأنا، دون أن تحيّينا. كانت تكتفي بأن تقف وراء الباب الداخلي وعلى ظهرها حقيبتها المدرسية، وتتعمّد أن ترسل نظرة حالمة نحوي صابةً كلَّ ما ادخرت أحلامها من فرح وهيام بالحياة، ومشدّدة على ألا يراها والدها لئلا تكون الطامة الكبرى وينقطع ما بين عينينا من أحلام، أمان ووعود مُضمرة لا نسأل ما إذا كانت ستتحقّق باللقاء الابدي أم لا.. لأننا، أنا على الاقل، لم نكن نتصوّر أن يكون بإمكان ما جمعه الله في مَرسم بريء أن يفرّقه بشر في فضاء دنيء. التقت عيوننا في ذلك المرسم مرة أو مرتين وانقطعت، كما ينقطع حبل الوتين أو يكاد. كان ذلك عندما دخلت الصورة صديقة لها لا أريد أن اذكر اسمها لئلا تصيبني غصة اعتدت على أن تحلّ ضيفة ثقيلة على حلقي كلّما لاح اسمُها.. أو أطلّت صورتها.. يومها دخلت زهرتي ودخلت وراءها تلك الما تتسمّى.
كنت جالسًا أنا ووالد حسناء نتحدّث في الفن والابداع.. فاتت حسناء من جنبنا مرسلة نحوي نظرة استباقية اكتشافية، وبدا أن رفيقتها انتبهت إلى تلك النظرة فهزّت رأسها وبدا أنها أضمرت أمرًا. بعدها لم يتوقّف تلفوني عن الرنين كانت صديقتها تلك رغم حداثة سنّها تتصل بي في النهار الواحد ثلاث أو أربع مرّات. وكنت أردُّ عليها بجفاء وهو على ما بدا جذبها أكثر فأكثر فأصرّت على الانتصار في معركتها الوجودية الضارية. بعد فترة قاربت العشرة أعوام.. أخبرني والدها أن قريبًا لهم ارتبط بابنته زهرة بسرعة المسافرين المهرولين.. وأنها سافرت إلى بلاد الغُربة برفقته للتوّ.. يومها لاحت دمعة في عيني.. وقف وراءها أكثر من سبب.. فلماذا خرقت حسناء كل الاتفاقات المضمرة بيننا ووافقت على ذلك الارتباط؟.. هل لعبت صديقتُها تلك معها لعبتها القذرة التي ابتدأتها بعد لقائنا المشؤوم ذاك؟.. ترى ما الذي حدث لتوافق تلك الزهرة الساحرة على تركي هنا أحترق بنار شوق لا يدري به أحد في العالم سواها وسوى تلك .. مقصوفة العمر الما تتسمّى؟ لقد مضت بعدها السنون وها هو مدير المؤسسة الجديد يأتي إليّ ليخبرني أن زهرتي الغالية.. زهرة العمر قادمة فماذا عليّ أن أفعل غير الموافقة والانتظار؟
دخلت غرفة مكتبي الصغيرة، في تلك المؤسسة الكبيرة، وجلست هناك أحدّق في شاشة الغيب وأفكّر في ذلك اللقاء العُمريّ المفاجئ لزهرة العمر. تُرى هل سأوصل لها قصة تلك العاذلة اللوّامة النذلة التي دخلت على الخط في غفلة منّا، فأفسدت كلّ إحساس جميل بيننا؟ هل ستقتنع.. وهل سأتمكن من إعادة ماضي تلك النظرات التي وصلت بيننا في مرسم والدها الفنّان رحمه الله؟ طال انتظاري.. وخطرت لي هجسة.. إذا لم تأت فاتنتي زهرة العمر فإنني سأصب نار حنقي وغضبي على ذلك المدير الحائر. سأذهب إليه وسوف أصرخ في وجهه.. سأقول له أنت رجل كذّاب.. تعتقد أنني العوبة بين يديك.. وسوف أغرس عينيّ المستشرّتين المتقدتين في عينيه.. سأقول له كلامًا لم يتوقّع حتى في أعتى كوابيسه أن أقوله له.. أبسطه أنني لستُ العوبةً بيدك ولا بيد أي قدر أحمق آخر. وتصوّرت مديري يُرسل نحوي نظرة مستغربة مستفسرة وحائرة أيضًا فما الذي حدث يا قاصّنا العظيم كلّ ما في الامر.. نحن نفتخر بك لذلك نطلب منك أن تكون معنا في استقبال ضيوفنا من العيار الثقيل. استولت علىّ دوّامة من التساؤلات أشبه ما تكون بدبابيس في بيت عنكبوت مُعمّر على عين العذراء أو في سيباط الشيخ.. أو في مرسم محبوبة العمر(المقصود مرسم الفنان والد الفنانة زهرة - شِكلي صرت اخبّص)، ولم أخرج من تلك الدوامة إلا حين اهتزّت أبواب مؤسستنا العتيدة. من شِدّة الدقّ عليها.. لقد جاءت.. لقد جاءت.. لقد جاءت.. وهُرعت إلى باب المؤسسة غير عابئ بنظرات مديرنا المُستغربة المتسائلة، فتحت الباب لأتفاجأ بأقسى ما يمكن أن يتصوّره طيفي الحزين المنطوي على ذاته.. في عالم الذكريات والانين. مَن كان في الباب؟ تصوّروا.. مَن كانت.. كانت تلك الما تتسمّى.. قاتلة أحلامي ومُغتالة حبّي قبل أن تُزهر غصون شجرته الاملة.
طرقت الباب في وجهها.. لقد رأيت فيها كلّ ما يغضبني ويثير حنقي.. تلك الملعونة أعادت إليّ كلّ أسس الدمار التي عشتها منذ سفر زهرة.. وكأنما العمر لم يمض.. لقد كبرت داقّة الباب ومدمّرة حُلمي.. وكبر تدميرها لي.. أنا لا أريد أن أراها.. لكن لحظة.. تُرى هل عرف مديرنا الجديد قصة عمري مع زهرة.. فرتّب لي تلك المكيدة.. ربّما.. لكن مِن أين عرفها.. وتذكّرت أنني قدّمت إليه كلّ ما كتبته من قصص.. وأنه كوّن على ما بدا فكرة كاملة مُتكاملة عن دماري فأراد أن يستثيرني.. ويقول لي دون أن يقول.. إنه أذكى منّي وإنه جدير بالإدارة الجديدة.. أحكمت إغلاق باب المؤسسة ورائي وانطلقت متوغلًا في ردهاتها. توجّهت إلى غرفة المدير.. ناويًا أن أفرغ فيه كلّ ما اذخره العمر مِن ألم وغضب.. أن أقول له أنا لست العوبة بين يديك.. ولست ديكورًا تتباهى به أمام زوّارك مِن الضيوف الثقلاء.. لست ديكوريست (صرت أخبّص أكثر فأكثر مِن أين أتت كلمة ديكوريست هذه)، لست واحدًا من ممتلكات مؤسستك.. لست طاولة ولا كرسيًا ولا حتى حاسوبًا أو شاشة صغيرة.. توقّفت قُبالة غرفة مديرنا الجديد.. طرقتُ بابها.. بقي مُغلقًا.. طرقته مرةً ومرة ومرة.. بقي مغلقًا.. عندها توقّفت عن الدق.. وعدت إلى أحلام اليقظة.. فقد كانت كلّ ما تبقّى لي مِن آمال الماضي وأحلامه الورديات العريضات.
ناجي ظاهر
-إلى أين إن شاء الله؟
أرسلت إليه نظرة مستغربة فتابع يقول: النهار ما زال في أوله.
أرسلت أليه نظرة أخرى مستغربة، فأنا هنا في هذه المؤسسة أعمل متطوّعًا منذ حوالي الثلاثين عامًا ولا أحد يسألني من أين أتيت أو إلى أين أنت ذاهب.
أنزل المدير يده عن إطار الباب ووضعها على كتفي:
-أريدك أن تبقى هنا.. بعد قليل ستأتي الفنانة زهرة العمر.. أريد أن نستقبلها معًا. هي أيضًا أحبت أن تراك.
مضى المدير ومضيت وراءه في الاتجاه المعاكس لبّوابة المؤسسة.. كنّا ندخل إلى هناك وكأنما لا يوجد هناك آخر في الدنيا. هو على ما بدا كان يفكّر في احراز إنجازات تؤكد له سيطرته الراقصة المهزوزة على المؤسسة.. باستقباله تلك الفنانة، وأنا كنت أطير أو أكاد لاعتقادي أن زهرة العمر قرّرت أخيرًا أن تأتي من تلك البلاد البعيدة إلى بلدتي القريبة. ورحت أتصوّر اللحظة التي ستدخل فيها زهرتي إلى المؤسسة وبأية طريقة سأستقبلها وفي الكلمات التي سأهمس لها بها في أذنها. لقد مضى دهر من الغياب والبُعد، وها هي تقرّر أخيرًا أن تعود وأن تطرق بابي بعد خبوّ أمل وانطفاء نار. قبل حوالي الثلاثين عامًا كنت أتردّد على مرسم والدها.. كانت حينها في العاشرة من عمرها، كانت تربط ضفيرتيها بأشرطة ملوّنة بلون عُمق بلدتنا المشتركة.. حبيبة الكلّ. وتدخل إلينا، والدها المرحوم وأنا، دون أن تحيّينا. كانت تكتفي بأن تقف وراء الباب الداخلي وعلى ظهرها حقيبتها المدرسية، وتتعمّد أن ترسل نظرة حالمة نحوي صابةً كلَّ ما ادخرت أحلامها من فرح وهيام بالحياة، ومشدّدة على ألا يراها والدها لئلا تكون الطامة الكبرى وينقطع ما بين عينينا من أحلام، أمان ووعود مُضمرة لا نسأل ما إذا كانت ستتحقّق باللقاء الابدي أم لا.. لأننا، أنا على الاقل، لم نكن نتصوّر أن يكون بإمكان ما جمعه الله في مَرسم بريء أن يفرّقه بشر في فضاء دنيء. التقت عيوننا في ذلك المرسم مرة أو مرتين وانقطعت، كما ينقطع حبل الوتين أو يكاد. كان ذلك عندما دخلت الصورة صديقة لها لا أريد أن اذكر اسمها لئلا تصيبني غصة اعتدت على أن تحلّ ضيفة ثقيلة على حلقي كلّما لاح اسمُها.. أو أطلّت صورتها.. يومها دخلت زهرتي ودخلت وراءها تلك الما تتسمّى.
كنت جالسًا أنا ووالد حسناء نتحدّث في الفن والابداع.. فاتت حسناء من جنبنا مرسلة نحوي نظرة استباقية اكتشافية، وبدا أن رفيقتها انتبهت إلى تلك النظرة فهزّت رأسها وبدا أنها أضمرت أمرًا. بعدها لم يتوقّف تلفوني عن الرنين كانت صديقتها تلك رغم حداثة سنّها تتصل بي في النهار الواحد ثلاث أو أربع مرّات. وكنت أردُّ عليها بجفاء وهو على ما بدا جذبها أكثر فأكثر فأصرّت على الانتصار في معركتها الوجودية الضارية. بعد فترة قاربت العشرة أعوام.. أخبرني والدها أن قريبًا لهم ارتبط بابنته زهرة بسرعة المسافرين المهرولين.. وأنها سافرت إلى بلاد الغُربة برفقته للتوّ.. يومها لاحت دمعة في عيني.. وقف وراءها أكثر من سبب.. فلماذا خرقت حسناء كل الاتفاقات المضمرة بيننا ووافقت على ذلك الارتباط؟.. هل لعبت صديقتُها تلك معها لعبتها القذرة التي ابتدأتها بعد لقائنا المشؤوم ذاك؟.. ترى ما الذي حدث لتوافق تلك الزهرة الساحرة على تركي هنا أحترق بنار شوق لا يدري به أحد في العالم سواها وسوى تلك .. مقصوفة العمر الما تتسمّى؟ لقد مضت بعدها السنون وها هو مدير المؤسسة الجديد يأتي إليّ ليخبرني أن زهرتي الغالية.. زهرة العمر قادمة فماذا عليّ أن أفعل غير الموافقة والانتظار؟
دخلت غرفة مكتبي الصغيرة، في تلك المؤسسة الكبيرة، وجلست هناك أحدّق في شاشة الغيب وأفكّر في ذلك اللقاء العُمريّ المفاجئ لزهرة العمر. تُرى هل سأوصل لها قصة تلك العاذلة اللوّامة النذلة التي دخلت على الخط في غفلة منّا، فأفسدت كلّ إحساس جميل بيننا؟ هل ستقتنع.. وهل سأتمكن من إعادة ماضي تلك النظرات التي وصلت بيننا في مرسم والدها الفنّان رحمه الله؟ طال انتظاري.. وخطرت لي هجسة.. إذا لم تأت فاتنتي زهرة العمر فإنني سأصب نار حنقي وغضبي على ذلك المدير الحائر. سأذهب إليه وسوف أصرخ في وجهه.. سأقول له أنت رجل كذّاب.. تعتقد أنني العوبة بين يديك.. وسوف أغرس عينيّ المستشرّتين المتقدتين في عينيه.. سأقول له كلامًا لم يتوقّع حتى في أعتى كوابيسه أن أقوله له.. أبسطه أنني لستُ العوبةً بيدك ولا بيد أي قدر أحمق آخر. وتصوّرت مديري يُرسل نحوي نظرة مستغربة مستفسرة وحائرة أيضًا فما الذي حدث يا قاصّنا العظيم كلّ ما في الامر.. نحن نفتخر بك لذلك نطلب منك أن تكون معنا في استقبال ضيوفنا من العيار الثقيل. استولت علىّ دوّامة من التساؤلات أشبه ما تكون بدبابيس في بيت عنكبوت مُعمّر على عين العذراء أو في سيباط الشيخ.. أو في مرسم محبوبة العمر(المقصود مرسم الفنان والد الفنانة زهرة - شِكلي صرت اخبّص)، ولم أخرج من تلك الدوامة إلا حين اهتزّت أبواب مؤسستنا العتيدة. من شِدّة الدقّ عليها.. لقد جاءت.. لقد جاءت.. لقد جاءت.. وهُرعت إلى باب المؤسسة غير عابئ بنظرات مديرنا المُستغربة المتسائلة، فتحت الباب لأتفاجأ بأقسى ما يمكن أن يتصوّره طيفي الحزين المنطوي على ذاته.. في عالم الذكريات والانين. مَن كان في الباب؟ تصوّروا.. مَن كانت.. كانت تلك الما تتسمّى.. قاتلة أحلامي ومُغتالة حبّي قبل أن تُزهر غصون شجرته الاملة.
طرقت الباب في وجهها.. لقد رأيت فيها كلّ ما يغضبني ويثير حنقي.. تلك الملعونة أعادت إليّ كلّ أسس الدمار التي عشتها منذ سفر زهرة.. وكأنما العمر لم يمض.. لقد كبرت داقّة الباب ومدمّرة حُلمي.. وكبر تدميرها لي.. أنا لا أريد أن أراها.. لكن لحظة.. تُرى هل عرف مديرنا الجديد قصة عمري مع زهرة.. فرتّب لي تلك المكيدة.. ربّما.. لكن مِن أين عرفها.. وتذكّرت أنني قدّمت إليه كلّ ما كتبته من قصص.. وأنه كوّن على ما بدا فكرة كاملة مُتكاملة عن دماري فأراد أن يستثيرني.. ويقول لي دون أن يقول.. إنه أذكى منّي وإنه جدير بالإدارة الجديدة.. أحكمت إغلاق باب المؤسسة ورائي وانطلقت متوغلًا في ردهاتها. توجّهت إلى غرفة المدير.. ناويًا أن أفرغ فيه كلّ ما اذخره العمر مِن ألم وغضب.. أن أقول له أنا لست العوبة بين يديك.. ولست ديكورًا تتباهى به أمام زوّارك مِن الضيوف الثقلاء.. لست ديكوريست (صرت أخبّص أكثر فأكثر مِن أين أتت كلمة ديكوريست هذه)، لست واحدًا من ممتلكات مؤسستك.. لست طاولة ولا كرسيًا ولا حتى حاسوبًا أو شاشة صغيرة.. توقّفت قُبالة غرفة مديرنا الجديد.. طرقتُ بابها.. بقي مُغلقًا.. طرقته مرةً ومرة ومرة.. بقي مغلقًا.. عندها توقّفت عن الدق.. وعدت إلى أحلام اليقظة.. فقد كانت كلّ ما تبقّى لي مِن آمال الماضي وأحلامه الورديات العريضات.
ناجي ظاهر