د. علي خليفة - طريقة التمثيل داخل التمثيل في المسرح

توجد لطريقة التمثيل داخل التمثيل أمثلة في بعض المسرحيات منذ القرن السابع عشر، كما نرى في مسرحية "هاملت" لشكسبير، ففيها يأتي هاملت بفرقة ممثلين، ويتفق معها على أداء مشهد معين، يتشابه مع ما عرفه من شبح والده حين حدثه عن الطريقة التي تم اغتياله بها من قبل زوجته وأخيه، وتقدم هذه الفرقة من الممثلين هذا المشهد، ويشاهد هاملت انفعالات والدته وعمه حينذاك؛ ليتأكد من صدق كلام شبح والده له، ويرى هاملت خلال أداء تلك الفرقة من الممثلين لهذا المشهد ما يدل بالفعل على تورط عمه ووالدته في قتل والده.
وأيضًا وظف موليير في القرن السابع عشر تلك الطريقة في التمثيل داخل التمثيل في مسرحية "مرتجلة فرساي"، وفي هذه المسرحية ذات الفصل الواحد نرى موليير يقوم مع فرقته بعمل بروفة على عرض مسرحي يُنْتَظَرُ أن يقدمه أمام الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، ويقدم موليير توجيهات كثيرة للممثلين في فرقته في تلك المسرحية، وكذلك ينتقد فيها موليير كثيرًا من خصومه الذين نالوا منه بعد عرضه مسرحية "مدرسة الزوجات"، ومنهم الكاتب الكبير كورني.
وإذا كنّا قد رأينا بعض المسرحيات القديمة قد وُظِّفت فيها تلك الطريقة في التمثيل داخل التمثيل– فإننا نرى أنها أصبحت أسلوبًا يتبعه بعض كتاب المسرح في العصر الحديث، وعلى رأسهم الكاتب الإيطالي الكبير لويجي بيرانديللو، كما نرى في مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، ومسرحية "الليلة نرتجل التمثيل"، ومسرحية "كل شيخ وله طريقة" ومسرحية "لويس الرابع".
وفي هذه المسرحيات يستخدم بيرانديللو هذه الطريقة من أجل التجديد في شكل المسرحية من ناحية ومن أجل عرض أفكاره عن الفن والحياة من ناحية أخرى، وبيرانديللو يؤكد خلال الحوارات والنقاشات في هذه المسرحيات أن الفن أرقى وأبقى من الحياة.
ويعيب بعض مسرحيات بيرانديللو التي فيها هذه الطريقة، مثل مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، ومسرحية "الليلة نرتجل التمثيل"– أننا نرى النقاشات الذهنية تطغى على الحركة الدرامية فيها، وأيضًا نرى في كل مسرحية من هاتين المسرحيتين حدثين يتداخلان، ولكن التداخل بينهما يبدو غير قوي، ففي مسرحية "الليلة نرتجل التمثيل" نرى الفصل الأول منها عن علاقة المخرج بالمؤلف والممثلين، وفيه نقاش عن سمو الفن عن الحياة، والحس الفكاهي يغلب على هذا الحدث، ثم ندخل في حدث آخر يتم تمثيله من خلال هؤلاء الممثلين الذين كان المخرج يتحاور معهم، ويكلمهم عن النص الذي ألفه بيرانديللو، وسيقومون بتمثيله، ونرى المخرج يتابع تمثيلهم لهذا الحدث، وينزعج الممثلون من كثرة تدخله وتعليقاته، فيخرجونه خارج المسرح، ويؤدون الحدث الذي يمثلونه بالطريقة التي تحلو لهم دون تدخل من المخرج، والحدث الذي يمثلونه عن أسرة مات الوالد فيها، فعانت من أعباء الحياة، واضطرت الأم أن تستقبل بعض الرجال في بيتها ليلهوا مع بناتها؛ وبهذا ساءت سمعتهن، وتتزوج إحدى بنات هذه الأم من شخص يعرف هذا الماضي لها، ويحاصرها به، ويضيق عليها، حتى تتمنى الموت وتسعى له.
وكما نرى فالحدث الثاني الذي يتم تمثيله في هذه المسرحية فيه قدر كبير من المأساة، وهويتعارض مع الحدث الأول الذي به فكاهة عالية، والأمر كذلك في مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، فالحدث الأول فيها نرى فيه قدرًا من الفكاهة من خلال هجوم ستة أشخاص من أسرة واحدة على مخرج خلال عمله بروفة عن مسرحية مع فرقة من الممثلين، وتتحاور هذه الأسرة عن مشاكلها مع المخرج والممثلين، وترغب في أن تمثل مآساتها أمام الجمهور، وتقترح هذا على المخرج، ثم نرى الحدث الثاني الذي يتداخل مع الحدث الأول، وفيه يقوم أفراد هذه الأسرة بعرض مأساتهم، وتتلخص في وجود أب تزوج من امرأة فقيرة، وأنجب منها ولدًا، ثم شعر أن مساعده الفقير أنسب لهذه المرأة، فطلقها، وزوجها له، وظل يتتبع أحوالها هي وزوجها وأولادها، ثم اختفت هذه الأسرة عن عينيه لسنوات، ويموت فيها ذلك الشخص الفقير، وتمر زوجته وأولاده منها بظروف صعبة؛ حتى إن ابنته الكبرى تضطر أن تعمل بالدعارة، وقبل أن يصطحب الأب ابنة زوجته بعد أن اتفق معها على ذلك–تأتي الأمفي اللحظة المناسبة، وتكشف عن علاقتها بابنتها، ويصدم هذا الرجل، ويأخذ هذه الأسرة لبيته، ولا يحدث أي انسجام بينه وابنه من ناحية وبين باقي هذه الأسرة من ناحية أخرى خاصة الابنة الكبرى.
ومن الواضح أن الحدث الثاني الذي يتداخل مع الحدث الأول في هذه المسرحية فيه جو من الكآبة والحزن بخلاف الحدث الأول الذي فيه قدر من الفكاهة، كما رأينا الأمر نفسه في مسرحية "الليلة نرتجل التمثيل"، ولعل بيرانديللو قصد هذا، وأراد من ذلك أن يقول: هذه هي طبيعة الحياة تجمع بين الضحك والمرارة، ولعله قصد شيئًا آخر، وهو أنه يرى أن الفن فيه الجمال والسعادة، وهكذا حال المخرج مع الممثلين، وهم يستعدون لعمل بروفة لمسرحية، فالجو الغالب عليهم السرور والانبساط، ولكن الحياة عند بيرانديللو تعني في واقعها التعاسة والألم؛ ولهذا رأينا الحدث الثاني في هاتين المسرحيتين– وفيه يتم عرض قطاع من الحياة –ممتلئًا بالمآسي والأحزان.
وكما قلت: فربما قصد بيرانديللو هذا أو ذاك، ولكن مما لا شك فيه أن هذا التداخل بين هذين الحدثين مع اختلافهما يؤدي –من وجهة نظري –لقدر من الاضطراب في المسرحيتين.
ورأينا في مسرحية "لويس الرابع" لبيرانديللو–وهي من روائع مسرحياته–شكلاً مختلفًا للتمثيل داخل التمثيل، ففي هذه المسرحية يصاب شخص بالجنون إثر وقوعه على الأرض خلال كرنفال كان يتنكر فيه في شخصية لويس الرابع إمبراطور ألمانيا، وتكون صورة جنون ذلك الشخص في اعتقاده أنه بالفعل لويس الرابع، وكمحاولة لإرضائه وللسعي في شفائه توفر له أخته في بيته كل السبل التي تجعله يشعر أنه ذلك الإمبراطور، وتستأجر له ممثلين يقومون بأدوار حراسه وبعض بطانته، وبعد أن تموت هذه الأخت يستمر ابنها في رعايته بنفس الشكل، ثم يشفى ذلك الشخص من جنونه، ولكنه يعجبه أن يستمر في تمثيل تلك الشخصية في الواقع، ومن خلال مواجهته –بعد شفائه –لبعض من خانوه وضايقوه في حياته يكشف لهم وهو في شخصية ذلك الإمبراطور الخيانات والمضايقات التي قاموا بها نحوه.
ففي هذه المسرحية نرى تمثيلاً داخل تمثيل، ولكنهما يتداخلان بقوة، وتكون هناك إثارة كبيرة من وراء ذلك.
وفي بعض مسرحيات بريشت نرى الممثلين يقدمون أنفسهم في أولها، وينبهون المشاهدين إلى أهمية ألا يندمجوا مع تمثيلهم، وأن يكون لهم موقف من القضايا التي يعرضونها فيها، ثم يقوم الممثلون بتمثيل أحداث هذه المسرحيات، وفي ختامها يعودون لطبيعتهم التي رأيناهم عليها في بدايتها، ويسألون المشاهدين عن مواقفهم مما رأوه،كما نرى ذلك في مسرحية "القائل نعم والقائل لا"، ومسرحية "الاستثناء والقاعدة".
ونرى في بعض المسرحيات الحديثة طريقة التمثيل داخل التمثيل هذه من خلال حديث المؤلف مع المخرج، وهما يستعرضان المسرحية التي يعتزمان تقديمها، ويبدو اختلافهما على بعض المشاهد والمواقف فيها، وخلال حديثهما يتم عرض أجزاء منها، ثم يتم القطع عليها بالعودة لنقاش المخرج والمؤلف فيها، كما نرى ذلك في مسرحية "القرين" لفريدريش دورينمات التي يريد أن يقول فيها: إن كل إنسان هو قاتل بالفعل، سواء أكان قتله للآخرين بطريقة ملموسة واضحةأم من خلال تفكيره في هذا القتل.
ونجد هذه الطريقة نفسها من خلال حديث المخرج مع أحد الممثلين، ثم يتم القطع لهذا الحديث بعرض مشاهد من الحدث الثاني الذي يمثل فيه ذلك الممثل، كما نرى ذلك في مسرحية "المترف ومشعلو الحرائق" لماكس فريش.
وأحيانًا نرى هذه الطريقة بحوار اثنين يشتركان في تأليف مسرحية، ويتم القطع على حوارهما عن هذه المسرحية التي يشتركان في تأليفها بعرض مشاهد منها، كما نرى ذلك في مسرحية "الحمار يفكر" ومسرحية "الحمار يؤلف" لتوفيق الحكيم، ففي هاتين المسرحيتين يتشاور المؤلف مع صديقه الحمار بشأن مسرحية يشتركان في تأليفها، ويتم قطع حوارهما بعرض مشاهد من هذه المسرحية التي يؤلفانها، ويعودان للتعليق عليها من جديد، ثم يعرض جزء آخر منها، وهكذا الأمر في المزج بين هذين الحدثين على مدار هاتين المسرحيتين لتوفيق الحكيم.
وتوفيق الحكيم كتب هاتين المسرحيتين القصيرتين في أواخر الستينيات أو أوائل السبعينيات، وفيهما ينتقد الناصرية، ويرى أنها قدمت تجربة اشتراكية فاشلة خدعت بها بسطاء الناس، وطغى العرض السياسي على البناء الدرامي المحكم في هاتين المسرحيتين، فظهرتا أقرب ما تكونان لشكل الاسكتش الكوميدي، الذي يهتم بالإضحاك على حساب جودة البناء ومنطقية الأحداث.
وتوفيق الحكيم في هاتين المسرحيتين وباقي المسرحيات الأربع التي نشرها في كتاب "الحمير" – وللحمار دور مهم فيها – يهتم بالإضحاك والنقد السياسي الواضح، بخلاف مسرحياته السابقة التي كان يهتم ببنائها بشكل أقوى، ويقدم النقد السياسي من طرف خفي فيها، كما نرى ذلك في مسرحية "السلطان الحائر" ومسرحية "الملك أوديب" ومسرحية "شمس النهار"، وغيرها من مسرحياته الجيدة.
ومما يدخل في طريقة التمثيل داخل التمثيل أن نرى راوية يتحدث إلى أناس عن حدث ما، ثم يبدأ في روايته لهم، ويسمع تعليقهم عليه، وبعد ذلك يتم عرض مشاهد لهذا الحدث، ويتم قطعه بتعليق الراوي والمستمعين له طوال عرض ذلك الحدث الثاني، كما نرى ذلك في مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" لسعد الله ونوس.
ونرى شكلاً أقرب للتمثيل داخل التمثيل في المسرح الحديث، وفيه نرى الممثلين لا يمثلون على المسرح فقط ، بل إنهم أيضًا يمارسون حياتهم العادية عليه، كما نرى في مسرحية "الحب وعلاجه" للكاتب الأمريكي ثورنتون وايلدر، ففيها نرى مجموعة من الممثلين يقومون بعمل بروفات وتدريبات على خشبة المسرح، وفي الوقت نفسه نراهم يأكلون ويتناقشون في أمور حياتهم العادية فوقها، فالمسرح هنا يعني الحياة بمعناها الكامل.


د. علي خليفة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى