مقتطف مُحمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (5)

5

كان يقول في كل مرة هازئاً:
- "مَنْ أَعطى ثُقْبهُ لا يُوثقُّ بهِ"(25) ..
كنتُ أعرف أنه لا يشير إلى ثقب التاريخ الذي تشبَّث بعروته، وجعل منه مهمازا يهمزُ حصانه الطائر. بل كان يشير إلى حالة أخلاقية. هل يذهب بقصده الى المؤرخ الذي لم يقل سوى الحقيقة التي أراد ان يفرضها علينا، وأهمل الحقيقة التي تناساها تحت ظرفه المسمى بالتاريخ، يبقى متضمناً مع حق النسيان، ولكن النسيان المؤقت، ليوم أو لسنة، ولكن لن يبقى أبداً، يأتي مؤرخ آخر، فيفضح كل ما اخفاه عن عَمْدٍ المؤرخ السابق..
***** ***** *****
في اليوم الذي سكنت عائلة "حسنة الخبّازة" مستأجرة لبيت متواضع في محلتنا، تزامن معها بنفس اليوم الذي اشترت فيه عائلة "بطرس" بيتاً، وبالمصادفة صارت العائلتان جنب بعض.
تبيّن فيما بعد بأن "نديم البيروتي" أول من ساعدها في الحصول على بيت لتسكن فيه، وهو أيضا من دفع من جيبه أجرة ثلاثة أشهر مقدماً لتسكن في بيت "رمضان" شبه المتداع.. بعد أن كانت تنام على قارعة الطريق. التقى بها مصادفة فحكت له حكايتها التي جعلته يرأف لحالها، ويتعاطف معها كثيراً، إلى الحدّ أنه لم يتركها إلا وقد عزم أن يساعدها في إصلاح حالها، فاصطحبها إلى بيت أهله الذي تقطنه شقيقاته الثلاث العازبات، بجانب بناية السينما. وجعلها تنتظر عندهنّ هناك لأقلّ من ساعة واحدة حتى جاء بموافقة قريبه، فتمَّ تسليمها المفتاح في ساعتها، وكأن الأمر مقدّر، بتسهيلٍ من الله. سألته العمة "نجمة" شقيقته الكبرى من أين جاء بهذه المرأة الطيبة وبناتها، فأخبرها عنها "مسكينة ترجو المساعدة" صادفته في طريق عودته من الصيد، وقد اقتنع بكل ما أخبرته من قصتها، وصممّ بمعيّة زوجته على مساعدتها بقدرِ ما يستطيعان. كان يختار في كل مرة مكاناً، غير محددٍ من البراري التي تحيط بالمدينة، يصطاد فيها الطيور. فالصيدُ مهنتهُ التي تؤمن معيشته. بعدها يبيعُ مما يصطاده من غزلان، أو درّاج. سواء بواسطة البندقية، أو بطيور العقبان المُدربَّة.
صادف ان تكون عودته الميمونة بخيرٍ وافرٍ. وجد المرأة أمامه تستحق العطف، ليس لها مكان تستقر فيه، يسترها من أقدار قد لا تُحمد عقباها.. وجدها تستحق، وبما يستطع. فبقيت المرأة تدعوَّ له بطولِ العمر، ولأهله بالاستقرار، والستر، والرزق، بعد أن أمَّنَ لها البيت الذي يملكه قريبه، واقنعه بأن يسلمها مفتاح البيت، وعلى ضمانته. راحت المرأة تكرر له دعواها بالرزق، وراحة البال.. مثلما هو فرّجَ عن كربتِها، وأزالَ عنها ضيقتها، بكل هذا الكرم الكبير..
منذ ذلك اليوم قد حظيت باهتمام أكثر من الجيران كونها كَشَفتْ أخبارها لأهل المحلة.. عن عوزِها وفقرِها، ووحدتِها، ورغبتها أنها تودّ العمل، لتربية بناتها الأربع بشرف. بعدها تنافست أغلب عوائل المحلة، في مساعدتها وتجاوز محنتها، واقترحوا أن تبيع الخبز. بعد ذلك اليوم أكرمتها "أمينة المحبوبة" تنوراً فخارياً، وأهدتها جارة أخرى مجموعة من الأواني الكبيرة، وأخرى بعض الحاجيات التي تتمكن بها من عجنِ طحينها، وتباشر عملها.
أما "أبي" وبقية الرجال.. فقد اتفقوا فيما بينهم.. كل مرة وبالتناوب، أن يتبرع أحدهم من جيبه لشراء كيسٍ كبيرٍ من الطحين، فتؤمن بداية عملها، دون حاجتها إلى أحد. حيث دامت "حسنة" محطِّ عطفّ من الأغلب، وباتت تطوف قصتها على ألسنة نساء المحلة "بأنها امرأة فقدت مُعيلها في حادثٍ عابرٍ"، وبقيت لا تمتلك أي سبيل للعيش به، ولم يكن أمامها سوى أن تبيع الخبز جاهزاً لأهل زقاقنا، والأزقة المجاورة، وتعيل بنفسها بناتها الأربع.
أما عائلة "بطرس" المكونة من أربعة أولاد وبنتين، وأمهما. فقد نزحت هذه العائلة إلى محلتنا وراء أقربائهم بحثاً عن الرزق الحلال، ومرافقة لعائلة "ميخائيل"، إذ كان الرجل ابن عمّه.. بينما زوجتاهما شقيقتان. فقد تكفلت العائلتان ببعضهما كأقرباء، وسرعان ما تآلف أولادهم مع أولاد المحلة، واستعدّوا ليكونوا زملاءهم في المدرسة الابتدائية، والمرحلة المتوسطة.
تظافرت العائلة الأولى مع الثانية فكلّ منهم، الصغير والكبير، يساعد أباه، ويساعد عمه.. ولأن عائلة "ميخائيل" ميسورة الحال، قديمة في سكنها؛ عرفت كعائلة طيّبة متزاورة مع أهل المحلة بيتاً بيتاً، وتسأل عن مريضها وتفتقد غائبها، كما تحزن لأي مصاب، وكأنه مصابها.. كذلك تفرح في الأعراس، وكأنها أعراسها.
حَظِيَّتْ باحترامِ كلّ الجيران، وصارت نسوة الجيرة تتعلم منها تفاصيل صنع بعض الحلويات البيتية غير المألوفة، والتي تذوّقوها في مناسبات عدة، منهم. فبعد أن وصلت عائلة "بطرس" في سيارة حمل، تساعد معهم أولاد المحلة فيما بينهم مع أولادهم في إنزال، وتوزيع ما حملوه من "عفش" على غرف البيت.. صار الجميع يكنّون لها الاحترام كذلك تقديراً لـ"ميخائيل" الذي يحبهم فرداً فردا.
استدعى قريبه من "الموصل" لتسليمه مطعم الكبّة الصغير، خصوصا بعد أن افتتح لنفسه مشرباً يقدم فيه العرق المُقَطَّرْ المَعْمول من مختلفِ فواكهالبساتين، والمُصَنَّعْ في باحات البساتين القريبة.
- "رمانتان في يد واحدة لا تُمسك"..
بعد أن صار له زبائنه الكُثرُ في المطعمِ والمشربِ، تتطلب منه المتابعة المستمرة، وليس معه أحد يثقُّ به في أمور المطعم سوى ابن عمه، وأولادهِ أبناءُ خالةَ أولاده.. فلم يغير "بطرس" أسم المطعم المكتوب بخطّ رقعة توسطت الواجهة.. لكنهُ أدخل عليها تغييرا في أسلوب صناعتها بدلا من حجم واحد بسيط إلى "الصغيرة، والكبيرة، العريضة الصغيرة، والعريضة الكبيرة"، ولكون امرأته كانت تعدّها في البيت، بمهارة عالية، وتعتني كثيراً بتفاصيلها من اللحم الممتاز الذي تشترطه على اللحام "حمدان"، وباعة الخضار، صارت زبونتهم الأهم، تحرص على التسوق بنفسها وتنتقي لها أفضل المواد الأولية، فازدادت ثقة زبائن المطعم، وصارت "كبة ميخائيل" علامة بين الناس، وتلفظها باسم مختصر "كبة ميخا".. إذ ذاعت شهرتها إلى أبعد مكان في المدينة.
قالت ذات مرة "زوجة ميخائيل" مُفاخرة، بأن زوجها في أول تعارفهما قد أرسل لها "كبّة" كانت مليئة باللحم، واللوز، والكشمش، وبداخلها خاتم الزواج.. هكذا؛ تم قبوله زوجا لها. حتى جاء بها من أقاصي الدنيا إلى "بعقوبة". إذ بدأت المساحات الفارغة بين البيوت تمتلئ، وتصير بيوتاً مُتراصّة، ومُتراميّة الأزقة.
صار حيّاً اسمه حي "المحطّة"، لقربه من محطة القطار وأيضاً توسع مرآب السيارات الذاهبة إلى بغداد، واختيرَ مكاناً له في بداية الزقاق الذي يفصل بيننا وبين بيت "يهوده"، وتوافد طلبة المدارس الذين يأتون من القرى ليكملوا دراستهم في الإعدادية التي كانت الوحيدة في كل اللواء، فصار الشارع العام أيضاً فيه إضافة إلى مرآب سيارات الأجرة مرآباً جديدا أنشأته الحكومة، وأسمته "مصلحة نقل الركاب".
كانت دوائر أخرى، بدأت تأخذ أماكن لها في هذه البقعة التي توسعت تدريجياً، واتصلت حلقات بنائها ببقيّة حلقات الأحياء الأخرى، صارت متصلة بالسوق، تقارب المشفى، والجامع، والبلدية، ودائرة العقاري، ومخفر الشرطة.. ما جعلها مرغوبة للسكن فيها، ومحطّ أنظار القادمين من القرى البعيدة.
***** ***** *****
كانت المرأة جميلة تبدو في الثالثةِ والثلاثين، طويلةٌ، عيناها زرقاوان، وبشرتها قمحيّة. من أصول أفغانية. تتمتع بفطنةِ وسرعة جواب.. بعذوبة لسانٍ متملّق. ولا تتنكر عن أي سؤال، مهما كان محرجاً. قالت عمتي عنها بعد أن زارتها:
- "تكبرني بعشر سنوات في الرابعة والأربعين لو حسبتها من عمر ولادتها البكر إذ ابنتها البكر في مطلع العشرينات"
قالت اخرى:
- "كل ابنة تصغر الأخرى بثلاث سنوات".
همست أمي:
- "إن صدقت معك امرأة في كل شيء فعليك ان تتوقف أمام جوابها عن عدد سنوات عمرها"!..
قالت اخرى:
- "لم تحدثنا عن فقيدها الذي ترك لها حمل تربية البنات القاصرات".
- "لم تذكر مكاناً معروفاً للناس.. كأنها لا تعرف لفظه، وليس من المعقول أن تكون نسيت مكانا قد ولدت فيه".
عادت أخرى لتهمس:
- "هي التي تعمَّدت عدم الذكر".
فعلا لم يعرف من أين قدمت "حسنة" حتى "نديم البيروتي" الذي خبر المناطق المحيطة، وخرائطها التي جال مساحاتها الواسعة على قدميه، وراء الصيد الذي يؤمن به لقمة عيشه الكريمة... أغلب الناس كانت تنظر لها بعين العطف لا الشك، وقد عاملتها وبناتها بأحسن معاملة.
***** ***** *****
- أنا من قتل "نهيّة"، بعد ان ضبطتها تزني مع الشيطان، وحمَلتْ منه، تأكدتُ يومها. سألت "سارة" ابنة "سنية الخبازة" وقالت بأنها حامل، ولم أحتمل ذلك الامر "كيف تحبل بعد أن تركها زوجها أكثر من عامين". سبق لي أن لاحظتها تنسل خارج البيت، وتعود في الصباح الباكر وتدسّ نفسها في سريرها. طلبت من والدتي أن تخبرني عن حقيقة غيابها، ولم تعطني سببًا مقنعًا كونها تنام في إحدى الغرف في حرّ صيفنا الخانق، سألتها، تجيبني وكأنها نائمة. تسيرُ في نومِها. حالمةٌ وشبه نائمة. لم أحصل على جواب شاف لغيابها، بعد أن تأكد لي بأنها تخرج ليلا بعد نومي من تعب العمل أثناء ساعات النهار الشاقة، فأنام مبكرا، وأصحو مبكراً.
ذات مرة انتبهت إلى صوت الباب تقفله بعد عودتها قبل الفجر. فحملت على نفسي وأصررت على معرفة هذا السرّ الذي أثارني، ولم أسأل عنها أحداً من الأهل حتى استطعت المعرفة بعد أن تابعتها في أول الليل تدخل إلى البيت المهجور. شاهدتها بعيني تخالط جنيّا يرتدي الأبيض.
لم أصدق ما رأيت..
أول الأمر لم أستطع إخبار أحد، حتى أخبرتني "سارة" بأن الجنيَّ سوف يفتك بالعائلة (كما فعل جنيّ في عائلة كانت قد سمعت عنها).
في اليوم التالي دخلتُ قبلها، وانتظرتها عند مدخل الباب، أمام باب الحمام، فأخذتها بسكيني أكثر من مرة، وبكل ما أملك من قوة. حتى تركتها جثة هامدة. غسلتُ عاري، وطردت عنا الشيطان الذي سيطارد عائلة. بقيَّ حالي كل يوم يسوء، وتركتني "سارة" بعد أن صرت عاجزا عن الزواج.
واليوم بعد ثلاث سنوات أقول بأن "سعدون" ليس قاتلها، فهو الذي أخرجها من عمق البيت في حين كنتم كلكم تخافون الجنيّ الذي كانت "شقيقتي" تخالطه.. فضيحةكالزيت الذي طاف على سطح الماء.
***** ***** *****
لم يكن الأمر بيدي سوى أن أشاهد، وأتعذّب.. كلما تدخل إحدى بناتها إلى البيت المهجور، وتخرج مُحمّلة بالكتب لأجل أن تكون وقوداً لتنور الخبز... حتى نفدَت الكتب.. بقيت أتلظى، وأتأسف كثيراً.
بعد ذلك صرتُ أسمع بأنهن يواعدن أغلب شباب المحلة في غفلةِ لم تغفل عنها المحلة التي كانت تراقب من خلف الشبابيك، ومن وراء الأبواب، ومن وراء الأشجار. صار ذلك البيت محطة عابرة لالتقاء عشاق عابرين، ومواعدات لنزوات عابرة..
في تلك الأثناء، صارت قصص الأم تفصح عن نفسها، عندما بدأ زوارها يدخلون، ويخرجون كالنسيان.
***** ***** *****
كان كل منهما يجادل الآخر عندما يلتقيان.
"أبي" تعود الإصغاء إليه، أما "يهوده" فقد تعود على الإدلاء إليه، وما بين الإصغاء والإدلاء مدّ وجزر.
"أبي" لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ولكن "يهوده" هو من كان يقرأ له ويلّخص بعض تلك الكتب..
"الأول" كان صاحب النظرة العملية، أما "الثاني" صاحب النظرة العميقة، فما إن يتطلب شيء يراد له الإثبات، والثبات، والتحقق.
يكون "أبي" هو من جازف بإنجازه، ويكون "يهوده من جازف بتفكيره.. ما أن يتحقق فوزٌ، فيكون الفوز لكليهما. النتيجة الخطأ له، وكذلك صحيحها..
- (في كل محلة توجد امرأة تمارس أقدم مهنة في التاريخ.. لا يراها إلا من يريدها)..
- (للتاريخ ثقب)..
يبدأ الضحك كلما يُذكِّر أحدهما الآخر بهذه العبارة، وتدور الضحكة بينهما صافية، مجلجلة. كأنها تهزّ الشجرة التي تحتها يتسامران.. تأخذني الضحكة معهما، ولا أعرف سبب ما يضحكان عليه لكني كلما أكون قريبا منهما، أكون ضاحكا معهما، ودون أن أفهم..
***** ***** *****
المثيرُ بالأمر أنه ذات يوم جاء رجلٌ بهيئة بائع متجول. أخطأ، فطرق الباب على بيت "بطرس"، ومنه أستدلَّ على بيت "حسنة".. عرف الأولاد أوصافه "موشوم الجبهة والساعد، اسنانهُ ذهبيةٌ، يحملُ في رقبته عليقة مُتسخة وكبيرة". راحوا يصفونه، ويهوِّلون في وصفه. كأن أولاد الحارة قد وجدوا ضالتهم في استمرار حكي حكايات أخرى.
يومها شاعت؛ أن رجالاً متنكرين بلباس الغجر، قاموا بخطف الأولاد من أهاليهم، خاصة الأولاد الذين يلعبون لوحدهم في الأزقة، وينقلونهم بالأقفاص ويبيعونهم الى الغجر. بقيت الصورة المُخيفة تطاردهمُ في الشارع الذي يلعبون، وخاصة في وقت الظهيرة. كذلك للنهر القريب صارت حكايات تبتلعُ الأخضر واليابس.
تكاثرت القصص، وصاروا يأتون من أماكن بعيدة. كأنهم يتابعون مسرى الحكايات الباطنة، بقيَّ الأولاد يترقبون متى سيخرج الغجري يسرق الأولاد، والبنات. باتوا ينتظرونه حتى يروه، يراقبون بيتها عن كثب.
لم يشتر أحدٌ منها الخبز. كانوا يحذّرون بعضهم بعضاً.. كما لو أن وحشاً مفترساً قد استقر في بيت "حسنة الخبازة" وحتمًا سيخرج لمهامه التي يعرفون.. بينما بنات الخبازة لم يبقيّن في البيت كالعادة، يدرنَّ بين البيوت ضيفات ثقيلات، يضيّعن أغلب ساعات النهار خارج منزلهنَّ. وكان الأولاد يسألون البنات عما يجري في البيت:
- "من هذا الذي دخل بيتهم.. ولم يخرج"؟.
فكانت أجوبتهن تضيقُ، وتتضاربُ، وتضيعْ.
صارت لهفة جميع الأولاد أن يروه، ويتعرفوا على شكله.
أما الكبار قد جزموا بأن الرجل والمرأة يختليان أثناء النهار، كذلك الليل لا يفضح الأسرار. بعد أن انقضت خمسة أيام، كانت "حسنة" فيها لم تترك ضيفها الذي بات أكبر سؤال بين أهل المحلة. هي لم تخرج لأجله من بيتها لحظة واحدة. ففي اليوم الخامس خرج صباحا، ودعتّه بسكب جردل ماء ودلقته خلفه في الشارع، كي يعود إليها سالماً. لكنه ذهب ولم يعد يراه أحد. لان الأولاد الشباب كانوا ينتظرون تلك اللحظة الحاسمة، يتربصون له بفارغ الصبر، وما أن ابتعد عن بيتها خطوات.. حتى خرجوا له من وراء الجدران، والحيطان، والأشجار، ومن كل زاوية، وركن... ساروا خلفه أول الأمر، وتحول المسير الى رجمّه بالحصى، وضربه بالعيدان.
كما تتدحرج كرة الثلج، وتكبر.. صاروا يضربونه بكل شيء، وبتواصل. عزموا ألا يدعوه يرجع سالماً، وبذلك لم يعد أحدٌ يراه يصل إلى محلتنا. بعدها شوهدت "حسنة" تعتني بملابسها، وتتعمّد إظهار مفاتنها. راحت ترتدي ملابسَ مزخرفة، بألوان زاهية.
بعد ذلك الحادث بأسبوع واحد ذهبت حسنة إلى مالك البيت، واشترت منه البيت نقداً، يومها أشهدت عليه جارها "بطرس" ورجلاً آخر. قبل أن يتمّ البيع، والتسجيل في دائرة العقارات.
بيت صغير.. مكوّن من غرفتين جنبهما مرافق صحية دون باب، وضعت عليها قطعة قماش.. لتستر من يقضي حاجته فيها. وما أن اشترت "حسنة" البيت طلبت من أحد البنائين في الحارة أن يضيف لها حماما وأن يضع بابا لمرافقها الصحية، وبعدها أجرت تغييرات واضحة في مقدمة البيت، وأضافت له غرفتين، وصار بيتها لا يقل جماله عن أي بيت في المحلة. تغيرت مشاعر الناس تجاهها بعد الذي حدث، وما سمعوه من أخبار. فصاروا يتوّخون الحذر من الأم، وبناتها خصوصاً بعد أن قضى عندها ذلك الرجل الغريب بضعة أيام.
***** ***** *****
ثمة نمائم كانت تجري بخفاء، خلف القصص التي كنّا نسمع بها.. أحياناً تتطابق هنا او هناك ببعض التفاصيل، وربما تتعارض، ولكنها تسير وكأنها الحقيقة الكاملة..
***** ***** *****
قصة الغجري الذي جاء الى بيتها وقضي فيه خمسة أيام، أنكرتها بإصرار، أنه لم يدخل أي رجل غريب الى بيتها، أنكرت ذلك أمام الجيران خصوصا الذين التفتوا إلى بقائه في بيتها، الذين شاهدوه يدخل، ولم يخرج إلا بعد خمسة أيام. بقيت تعاتب كلّ من يسألها، "مريضة خمسة أيام ولم يزرها أحد".. أما بناتها قد غيرن معها مجرى القصة، أخذن ينكرن الغجري، وأيامه الخمسة، وكل حديث عنه. سوى "أمهم كانت مريضة".. صار ما تحكيه "حسنة"، وتفرضه كما أرادت أن تفرضه كحقيقة.. وتتهم أولاد "ميخائيل"، و"بطرس" بتلفيق بقية تلك القصة المُغرضة.
بقيت تلك القصة معلقة لأيام، أو أسابيع، وربما بضعة أشهر حتى جاء اليوم الذي كشف فيه "سلام برهم" ما غمض من القصة. فالرجل كان من بين أشهر روّاد مخيمات الغجر التي كانت تخيّم على إحدى مشارف المدينة.
***** ***** *****
كان "الحاج محمود" عائدا من المقهى تبعه ولد لا يتجاوز عمره خمس عشرة سنة، وقبل أن يدخل الرجل بيته، أخرج مسدسا من بين طيّات ملابسه وأطلق عليه النار.. مستهدفا رأسه، وتناثر دماغ "الحاج محمود"..
مات الرجل الذي كان يقارب السبعين، والذي كان يتكئ على عصا في مشيته، ولم يكن له أولاد. ويعيش وحيداً مع زوجته. بعد ذلك لم تستطع المرأة العيش وحيدة في بيتها. اضطرت الى بيع البيت لتسكن مع أهلها. فاشترته منها "حسنة"، لأنه كان خلف بيتها، وقامت بهدمِ الجدار الفاصل بين البيتين، وصارا بيتاً واحدا له بابان مشرعان على شارعين مختلفين.. (ويكون بإمكان الداخل، ألا يخرج من الباب التي دخلها، ولا من الشارع الذي جاء منه)..
***** ***** *****
يبدو لي بأني أحدثتُ مشكلة كبيرة، دون تعمّد، وبكلّ براءة.. ذلك التصرّف الذي تصيَّر حوله لغط كبير، وصل بجدله وتبعاته الى إدارة المدرسة، ومن ثم إلى أهل الطلبة، وأهلي..
بقيتُ خائفاً منكمشاً ومحتاراً، لا أدري كيف أواجه عواقب الأمر مع أبي عندما يخبره أحد بكل ما جرى.
صار حديث الجميع من الذين حولي يسألوني عما رأيت، وكان الأمر محرجا لي. لم أستطع أن أحكي عنه بوضوح إلى كلّ من كان يريد صورة واضحة عما حدث. خاصة الأولاد كانوا يريدون مني أن اروي تفاصيل لم أكن قد رأيتها.
الذي حدث أني كنت لحظتها، قد استأذنت معلمي "مهدي القصير" بالخروج من الدرس، للذهاب إلى الحمام، بسبب وعكة إسهال، تطلَّبت مني تكرار الذهاب إلى الحمام والعودة منه الى غرفة الدرس، مراتعدّة، وفي آخر مرة أثناء دخولي الحمام، سمعت بكاء واستعطاف "نصر" الذي كان يبكي من شدة الألم الذي يحدثهُ له "هيثم حسنة" في الحمام، لم أفهم ماذا يحدث وراء الباب المُقفلة، فدفعني فضولي، لمعرفة ما يجري، فاستطعتُ أن أضع قدمي فوق الباب، وأصعد الحائط الفاصل بين الحمام والآخر، ليتسنى لي رؤية ما يحدث، إذ شاهدت "هيثم": (الذي سمي بالوسخ بعد ذلك الحادث)، يحاول تنزيل سروال "نصر" بالقوة، بعد أن كان سرواله مفتوحاً، وكان الصغير يبكي ألماً، ويحاول الثاني أن يضع يده على فمه ليسكته قائلاً: - "اصبر قليلاً، ها قد انتهيت"..
بعد ذلك لم أتمكن لحظتها من تفسير ما يحدث؟، إذ صارت عيني في عين "هيثم الوسخ"، وحدثت بي رعدة خوف، لم أفهمها، افلتت قدمي للركض، وسقطت على الأرض، وانطلقت أركض عائداً إلى غرفة الدرس، وأنا أتلفت رعباً، إذ تبيّن لي بأن "هيثم الوسخ" ركض خلفي، محاولاً اللحاق بي ولكنه لم يستطع.
فدخلت مضطرباً وبي ارتجاف شديد، خوفاً منه أن يفعلها معي لو أمسكني، كنتُ أراه وحشاً كبيراً. فوجدتني أقول بصوت عال للمعلم كل ما حدث، وأمام التلاميذ. بعدها ركض المعلم إلى الحمام، ووجد "نصر" على حالته مثلما رأيت، بينما قد فرّ "هيثم الوسخ" إلى خارج المدرسة، متسلقاً سورها. وقد سأل الصغير عما جرى، فتطابقت أقواله مع اقوالي، فاستنفرت المدرسة وصار كل الأولاد يعرفون بما جرى بين "نصر"، والملقب بالوسخ.
وصارت بعدها سيرة "هيثم" على كل لسان، والمنقول إلى مدرستنا حديثاً من مدرسة بعيدة، بعد انتقاله للسكن مع أمه وإخوته في بيت خالته "حسنة الخبازة". وكان الأولاد يقولون عنه:
- "كنا ننظر إليه كأنه فاقد لملامح الطفولة، وجهٌ فيه شارب حليق، وحاجبان مُحدّدان، وغالبا ما تفوح منه رائحة تبغ كريهة، كنا نشمّها منهُ عندما يحشر نفسه بين التلاميذ أثناء الشراء بالفرصة من حانوت المدرسة"..
ولم يسكتْ المعلِّم عن الأمر، فاشتكى لإدارة المدرسة، واتخذت به أمراً حازماً بفصله، وجعله عبرة لغيره. يومها عدّتُ إلى البيت منكمشاً خائفاً لا أقوى على أن أجيب بكلمة واحدة، مرعوباً مترقّباً أن "هيثم الوسخ" سوف يوقع بيّ انتقامه "عاجلا أم آجلا".
***** ***** *****
للعمل التاريخي فاصلة تحددها المخيلة السردية الروائية، بحكم كونها كتابة مفتوحة تقبل التأويلات المتعددة، وليست تدويناً لتقريرٍ شفيف، بتأويل واحد.
***** ***** *****
عندما لاحظ "أبي" اضطرابي، وخوفي من الذهاب إلى المدرسة، أزداد خوفه عليّ، وشدّدَ متوعداً، كأنه يعرف ما عليه فعله، وأخذني معه إلى بيت "حسنة"، وطرق الباب بعنفٍّ شديد، ولم يجبه أحد، كأنهم كانوا يعرفون ما سيحصل، لو فتحوا له الباب، ولكنه بقيِّ متوعداً بصوته الجهور:
- " إذ اقترب أحد منكم من ابني لأي سبب كان سأحرق بيتكم بما فيه"..
وأردف: "- لا تخف يا بني من أحد أبداً.. سوف أنال منهُ ومن الذي يشفع له"..
كان عمي يردد خلفه:
- "كالماعز"
ثم وجّهَ كلامه لي:
- "إن حاول أي واحد منهم أن يقترب لأي سبب كان.. تخبرني دون تأخير.. كي أعرف التصرف اللائق بهم"..
يومها أدركت بأنه موضوع خطير، وعليّ الابتعاد عن الطلبة الأكبر مني، مهما كانت حُسن النية، فبقي "نصر" الصغير ممتناً لي، وبالرغم من أنه بقيّ كسير النظرة. ومن يومها لم أرَ "هيثم الوسخ" في طريق أو أي مكان آخر..
***** ***** *****
جاءت أم "نصر" إلى "أمي" لتسألها عن حقيقة الأمر، وصحة ما شاهدتُ. فالطفل ابنها لم يقل شيئاً من خوفه، لأن "هيثم الوسخ" هدّده، فوصفت لها حالي، وخوفي. وكيف تصرف "أبي"، على عكس تصرف أبي "نصر" الذي ضرب ابنه، محاولاً انتزاع الاعتراف منه.
وايضاً – هو الأخر - كمِنَ لـ"هيثم الوسخ"، حتى أمسك به، ثم أدخله في زقاق مظلم، منفرداً به. يضربه حتى جدع له أنفه، كما سحق له إصبع يده اليمنى، لنزع الاعتراف قبل أن ينفذ فيه عقوبته التي يرتضيها فيه، فأدخل قسراً في أسْتِ "هيثم الوسخ" مقبض عصاً غليظة، سببت له تمزقاً ونزيفاً حاداً، وأخرجه أمام الناس، ذليلا مدمى المؤخرة، دون سروال، وذهب به إلى مخفر الشرطة، وأراهم ما فعله، بكل قناعة.
تعاطف كل رجال المحلة، وبضمنهم ضابط المخفر، مع الأب الذي استطاع أن يرد الاعتبار لشرف ابنه، وعائلته بكل اقتدار. ولم يتخذ أي اجراء، وبقي مؤكداً بأن مُجمَل العقوبة التي تلقاها "هيثم الوسخ"، كانت كافية، وتعهد لـ"أبي نصر" بأنه سوف لن يقرّ بأية شكوى من الطرف الآخر، وسيتحمل المسؤولية...
ولم يصل الى مخفر الشرطة، أي رجل من بيت "حسنة الخبازة"، بل هربوه في نفس الليلة إلى مكان مجهول، خوفاً من عواقب الأمور، ولم يعد بعد ذلك الحادث إلى المحلة على الإطلاق.
***** ***** *****
دائماً تحدثني عن جدي كثيرا، وتفتخر بأنه كان يجيد الانكليزية قراءة وكتابة، وإن "أبي" تعلم منه حساب وكتابة الأرقام، وبعض الكلمات الرئيسة، لذلك كان يساعد في إدارة السينما، حال الى عدم التحاقه بأي مدرسة، كانت تؤكد على ذلك فجعلتني أرى مجموعة كبيرة من الأوراق، والوثائق، وصورة يتيمة له يرتدي فيها لباساً حكومياً مع أربعة رجال آخرين بدا فيها بينهم في كامل وجاهته. رؤوسهم معتمرة عقالاً عربياً مع اللباس العسكري، كحال أقرانه بسراويلهم الصيفية القصيرة، الأنيقة..
- "ترك عمله كموظف حكومي، وتفرغ منذ يوم بناء السينما مشرفاً على عمل عمال بناء بناية السينما والتي اكتمل بناؤها بعد تسعة أشهر متواصلة، وبقي فيها حارساً ليلياً، ومساعداً لأولاد "ناجي يعقوب" في إدارتها، وعندما مرض "ناجي يعقوب" ترك العمل تدريجيا وبقيّ بصحبته حتى تسلم ابنه "ابراهيم" بديلاً عنه. كأن الجدة تروي كل ما كانت تريدني أن أعرفه عن جدي:
- "نشأ يتيم الأب والأم، وبقي جدك يعيش كفرد بين أولاد "يعقوب"..
كان والده تاجر قماش بالأصل من مدينة "بغداد"، وله أخوال، في "بعقوبة"، وبعدها تزوج من عمتي "سليمة" بنت "عفّان بيك".. التي ماتت عقب ولادته.. كان أحد أشهر تجار القماش في "بعقوبة"، لأنه بعقله الراجح، منحه الأتراك لقب البيك، وسبق له عقد مقاولات عدةكبيرة مع "اغوات"، و"باشوات"، ولم يدم به الحال حتى جاء اليوم الذي قتل فيه في ظرف غامض، وهو لم يكمل الخامسة والثلاثين من عمره بعد أن سلب منه كل ما كان عائداً له من مال. مؤمناً ابنه الوحيد "علوان".. منذ أن كان في سن الثانية عشرة. تولوا أمره، وبقيّ في رعاية بيت والد "يعقوب"، لأنهم جيرة وصحبة عمر وبقي كواحد منهم.
***** ***** *****
رغبتُ تعلم الصلاة، مثلما تصلي "أمي" و"جدتي"، وبدون ضغط من أحد.ثم بدأتُ خلفهما أول تجربتي، ورحت أستعيد الحركات في التمام والكمال، مثلهما، وأن أحقق صلة بيني وبين الله العظيم الذي يغطي بسمائه كل هذا الكون العظيم. فأخذت تعلمني الصلاة حركة بحركة. وكنت معها أحاول أن أدخل غمار وضع الرهبة، مع إغماض العين، محاولا التشديد على مخارج الحروف، وقراءة الآيات القرآنية بتأنّ، متخذاً وضع السجود، وملامسة الأرض بكل ما أوتيت من خشوع.
كنت متحمساً، ومتيقظاً، راغباً لمعرفة ما سوف يحدث لي، كأني أريد أن ألتمس تغير الاشياء من حولي.. عندما تتحقق صلاتي، وأنتقل بعقلي الى عالم آخر، أغيب فيه عن عالمي الحالي الذي أنا فيه، وأحلّ في مكان آخر، لم يكن هناك شيء يتغير، كأني أعيد الأشياء إلى نصابها، ولم ألتمس جديداً من كل هذا الاندماج، الذي كنت ُ أريده أن يحدث، بكل تأكيد. كنت أتخيل الملائكة سوف تأتي، تحيط بي، وتنقل سجداتي الخشوع الى الله، فلابد أن يخشع قلبي أولاً، لأجل أن أحل طائفاً بين يد الله العظيمة، مباشرة.
ضغطت على نفسي بقوة، ولم أفلح. كنت أحاول أن أكون أكثر صدقاً مع نفسي، وأن ألفظ الآيات القرآنية، بمخارج حروف صحيحة.. أنطقها ببلاغة شفاه ثابتة. ولم يحصل تغيّر بذلك، قلت ذلك لجدتي، فقالت "أعد صلاتك من جديد وستجد نفسك بين يد الله عز وجل"، حاولت مرة أخرى من جديد، وهي تراقبني، فخجلت من أن يكون ذلك هو السبب بعدم حدوث الشي الذي أريده، فأخذت ذلك الكلام مَحمَل الجد، فذهبت إلى فسحة كانت قرب الشجرة، وأعدت الوضوء، وفرشت السجادة باتجاه القبلة، ولما نزلت راكعا إلى الأرض، أحسست بأن شيئاً عجيبا بدأ يحدث، ولما حاولت النظر إلى تلك اليد التي تربت على رأسي، وجدت الكلب يلحس فروة راسي، فابتعدت عنه لأجرب من جديد، ولم أنجح في أية محاولة من محاولاتي.. بالرغم من أني حاولت تغيير المكان، والتشديد على تفريغ الذهن من كل شيء، والتوحد مع كل كلمة ألفظها. لكني لم أنجح، إذ صار ينتابني الضحك كلما صارت عيني في عين الكلب، وأنا أجرب تحت الشجرة..
***** ***** *****
بقيت العلاقة متوترة بين الجيران، بسبب تلك الفعلة، وصارت الناس تتحفظ على أولادها الصغار، من لعبهم مع الأولاد الكبار، وبقيت ألعاب الأولاد، كل منهم حسب أعمارهم.. كما بقيّ الصغار يتجنبون المرور بالقرب من بيت حسنة الخبازة. كأن أهله صاروا منبوذين، من الصغار، والكبار. كما بقيت أنا في كل مرة أنظر الى جهة بيتهم، أتذكر تلك النظرة التي كانت تلاحقني، وكأنها ستخرج عليّ في يوم ما، ولكني لم أعد خائفاً من ذلك، بل كنت حذراً.. لا أشارك حتى بأية غمزة تتعلق بأي موضع جنسي، وكأني كنتُ أبتعد عنه، وأحاول أن أطمسه، لأنه موضع يثير المشاكل العويصة التي تصل مباشرة إلى الأهل، وتحدث من بعدها، صياحاً وهرجاً وأنا قد كرهت الموضوع، حسب توصية معلمنا "مهدي القصير"، وهو من أوصاني بعدم النقاش، أو إعادة الكلام في هذه السيرة..
..... "وأن نبعدها عن تفكيرنا، كونها سيرة قد تؤدي بنا إلى المزيد من المشاكل التي قد تكلف الكبار أرواحهم، لأنها مشاكل عويصة في مجتمعنا، ثم قال هذا لا يعني السكوت عن هكذا موضوع عندما نجد أحداً يتعرض له، فالذي فعله "محمد ابراهيم" بعدم سكوته عن الموضوع، وأخبرنا بما حدث ل"نصر" وإنقاذه من الاستغلال الجسدي هو بطولة، بحدّ ذاتها، وعلينا أن نصفق له، لأنه لم يقبل الشيء الذي كان يحدث في السر، وينبغي على كل واحد أن يحافظ على نفسه، من بعض الأولاد الكبار، الذين تسول لهم أنفسهم عمل مثل تلك الفاحشة، وأن نرفض لأن الرفض عمل أخلاقي، والمدرسة تعلمنا الأخلاق، وترفض أن تجري فيها هكذا أمور، وتعدّ جريمة كبيرة بحق سمعة المدرسة والناس، وأنا أقول بأن الموضوع قد انتهى بأحسن وجه، وقد نال المجرم جزاءه، وحقق الأب "بطرس" لابنه الصغير ردّ الاعتبار الصحيح، وكلنا وقفنا معه، بالرغم من أنه كاد يقتل الفاعل، ولكانت جريمة تتركب على جريمة، ولكان الأب في السجن، لحدثت كارثة، سببها عدم المعرفة.. أنصحكم أولادي، بأن ننهض ونصفق للبطل "محمد ابراهيم"، ونعاهده بأن لا نفتح لا معه، ولا مع "نصر بطرس" الموضوع، ونعتبره مغلقاً الى الأبد، ومن العيب أن نسألهما، ونجعل من هذا الموضوع عبرة، ولكننا لا نعود إليه، أبداً. وسوف يعاقب كل من يحاول التكلم في المدرسة أو خارجها عن هذا الموضوع"..
بقيت صاغي لما كان يقوله، وأشعر بدوام فخر..
***** ***** *****
جدتي دائماً تقول بأن جدك "علوان" كان يوصي أباك بأن لا يمنع أحداً من إخوته من اللعب قرب الشجرة، لأن هذه الشجرة الوارفة، دائماً مرتعاً للعصافير.
***** ***** *****
صرتُ في المدرسة الشخص البارز، وصرت أتحسس من النظرات التي يخالطها الاعجاب.
مدير المدرسة وسم الحادث بالبطولة، في ساحة رفع العلم في صباح يوم "السبت".
بعد تلك الحادثة، انزويت، منكمشا لا أتحدث بالموضوع، ولا أجيب عن سؤال أي زميل يودّ معرفة ما جرى بدقة. "العيب، العيب، ثم العيب"، فلم أكن أتحدث مع أحد بذلك، حتى مع صديقي "فالح"، الذي كان والده طبيب أسنان، والذي يجاورني في الفرص بين الدروس، وأتشارك معه ببعض ما نجلبه من طعام قليل من البيت أو ما نشتريه من الحانوت، وفيما بعد أخبرني بأنه سبق له التعرض إلى موقف مشابه، مع "هيثم" وكان ناوياً أن يخبر أباه، إلا أن الدرس البليغ الذي تلقاه من تجربته مع "نصر" جعله مزهوا بالنتيجة.
صرت أتعمّد الحديث عن "هيرودث"، فقد صرت أحفظ الاسم جيداً، وأعرف عنه معلومات سمعتها بشغف وكنت أحفظها عن ظهر قلب، ولكني صرتُ أتعمد الكلام عنه بطريقتي، خاصة عندما أجد أذناً مصغية من صديقي "فالح"، ثمة فراغات في الدروس، يصبح كل متجاورين في رحلة واحدة، متواصلَيْنِ في الكلام العابر واللعب العابر، والحزورات، حتى يأتي معلم يسد الفراغ بدرس مفيد..
***** ***** *****
سمعت "أبي"، وكأنه يتحدث مع نفسه:
"- أصحاب حضارة، أية حضارة، حضارة الكيس المثقوب، كلما تقدمنا إلى أمام خاننا الكيس، ولم يخنا أحد، ولم نخن إلا أنفسنا، ولم يسبق أننا اخترعنا كل هذه الاختراعات الهائلة، العظيمة، حسبما ندعي إلا إذا كانت قد سقطت سهواً، ومعها أشياء أخرى، أولها مصارحة النفس.. ولم يبق منها سوى قاع الكيس المهترئة... حتى أخلاقنا العظيمة بات العالم أجمع لا يحسدنا عليها أحد"..
فلما أحس بيّ أني منتبه إليه، ضحك بقوة، وأدار وجهه، ولم يكمل، كأنه لا يريدني ان اكتشف عنه انه يعرف.
بقيت أستعيد كل ما كان يثير حفيظته، واتعامل معه بحذر، أردت القول: الكتابة المثيرة التي تكون فيها كاشفاً ومقترباً من المحظورات دون الإساءة إلى أحد، أو تاريخ فئوي، فتكشفت أسباب خيبتنا العقلية السقيمة، وقد تصل بها عند مفترق الطرق مع الناشرين..





مَكابْيوسْ
1973-1978 م







ــــــــــــــــــــــــــــ
25* جملة نابية..







6

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى