مقتطف مُحمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (6)

6

حتى في يوم استلام نتيجة الامتحان، لم يسمح "أبي" بأن أذهب إلى المدرسة دون رفقة أحد من أشقائه، وسبق أن اشترى لهما بسبب هذا المشوار دراجة هوائية يتناوبان عليها في إيصالي إلى المدرسة، والعودة منها. بالرغم من أنها كانت لا تبعد عن "دربونتنا" سوى أربع أو خمس درابين(27).
هذا ما درجت عليه حياتي أن أكون متابعاً في كل شيء، ولا أخرج من دائرة متابعة "أبي" لي في كل شيء، كنت أرى توسعاً في المدينة، وتثيرني البنايات للبيوت الجديدة، فأحلم بواحد يكون لنا. كانت في المدينة درابين عدّة لم أصلها حتى بنظري. خريطةُ المدينة تمتدّ على مدّ البصر، تتشكل فيها تضاريس أتمنى أن أتحسسها. أمكنة قديمة، ولكنها جديدة عليّ. كنتُ أحفظ الطرق إليها، وأجولها في الخيال.
كان ذلك الشأن يكلفني كثيرا من تبصري في الأشياء، وحدّ من تجربتي في الحياة. وقد جعلني لا أقوى على الذهاب لوحدي إلى أي مكان حتى ولو كان قريباً.. بقيتُ أبحثُ عن منفذ يفلتني من هذه الضائقة، حيث لا يمكنني مصاحبة أي زميل لي إلى أي مكان، بحجة خوف والديّ عليّ. حتى وجدتُ الفكرة الأمينة، وهي أن أتشبث بحاجتي الدائمة للذهاب إلى المكتبة العامة بعد ان نصحنا معلمونا في المدرسة بمعاودة القراءة في العطلة الصيفية؛ ولا بد أن نكون قد قرأنا بعض الكتب الخارجية قبل دخولنا العام الدراسي في المرحلة المتوسطة، وكانت تلك الحاجة قد ولدت عندي أول الأمر بعض التحرر، والعزم للدخول إلى عالم جديد طالما كنت أحلم به، بأن ألامسه عن قرب. إذ كانت مكتبة "يهوده" في السابق أشبه بحلم رأيته، وكنت على يقينٍ بأني لم أدخل إلى تفاصيله الحقيقية، وهذه "المكتبة العامة" ستوصلني إلى بعض تلك التفاصيل، والتي صارت من الماضي المُندثر..
كنت أنظر إلى خزانة الكتب المليئة، المتراصّة، فأشاهد فرسان العصور الوسطى، وأبطال العزّ التاريخي تتقاطر من أمامي، بخيولها البيض والسود، محملة بالصولجانات الفولاذية، وسيوفهم اللامعة ذوات النصال الحادة، وهم يتبارزون خلف صفوف الكتب، وأكاد أسمع من شغفي حتى قعقعة دروعهم الرهيبة.
بعد أن تعلمتُ نظام الاستعارة الخارجية، صرت كل يوم، أو أكثر أنتهي من قراءة كتاب، ثم أعود إلى كتاب غيره، أما الكتب الغالية التي كانت لا تخرج إلى الاستعارة الخارجية، فهي التي علمتني كيفية قراءتها والاستمتاع بها في داخل قاعة القراءة، وكم كان ذلك يسبب مللا لمن يرافقني، ويضطر إلى الخروج ويتركني بعد تأكده باني لن أتأخر في درب العودة.
كان في البيت فرح خالص بأنني أخذت القراءة وتركت صعود الشجرة، وأنزلت منها الآلة الكاتبة، ووضعتها إلى جانبي في مكان أجلس فيه تحتها، وأصبح كل من حولي يتركني لحالي أجلس على كرسي في ظلها، بقرب الكلب الذي تعود "أبي" أن يربطه بسلسلة حديدية إلى الشجرة في النهار، ويطلقه أثناء الليل في البيت المهجور. ليبعد عنه التقاء الآثمين، وما شابههم. أحيانا وأنا أغرق في تفاصيل أي كتاب كان يلامسني، ثم يأخذ بي بعيداً إلى مدن كبيرة، وقلاع حصينة، عوالم بكل ألوان الطيف الشمسي. وعندما أعود من رحلتي أبدأ سرد بعض محتواه إلى الكلب الذي تعود الإصغاء إليّ بمحبة..
يومها كانت كتب لا تتجاوز الحكايات الملونة، ولم أكن قد بدأت بقصص التاريخ التي كنت أراها أقرب لي من كل شيء لأنها كانت قصصا أستطيع أن أحكيها لمن حولي فألفت انتباههم..
كنت في ذلك اليوم أودع فيه المدرسة الابتدائية، وبعده ستبتدئ العطلة الصيفية، ثم ألتحق بالمرحلة المتوسطة، فقد كانت نتيجتي الامتحانية متفوقة بعض الشيء. تراصفنا واحداً خلف الآخر، ورحنا نسلم بالمصافحة كرجال على معلمينا الذين كانوا حاضرين يودعوننا بفرح، وعيون مليئة بالودّ.. حتى المعاون، والمدير، و"الفراش".. ثم خرجنا نحمل "كارتات". عهدت "عمي" الأصغر الذي يكبرني بخمس عشرة سنة.. ينتظرني قرب باب المدرسة، كأني نظرت إلى الزمكان كله، المهيب.. أفارق إشراقته وعتمته.
لم يطلْ ذلك المشوار كله أكثر من ربع ساعة، والعودة إلى البيت حيث ينتظرنا الأهل في لهفة لمعرفة نتيجة الامتحان. تجولت سريعاً حول بناية المدرسة، وبقيت أودع الحيطان، والساحة، أودّع الصفوف صفّاً صفّاً، كان أغلب أقراني يفعلون ذلك، فأفعل مثلهم.
جلّنا في الأمكنة كلها التي قضينا فيها سنوات متواصلة بالدراسة الجادة، واللعب العفوي وما لحقهما من عبث طفولي، ونزاعات طفيفة قد ذابت يومها، ولهوّ في حكايات عبرت بنا كأبطالٍّ مفترضين، ومتوّجين بالنصر.. ما دمنا نحمل علامات النجاح بفرح، وناظرين بقلق إلى المكان المجهول في العام الجديد القادم الذي سيحتوينا في ساحة مدرسته كما كنا نقف فيها كل يوم، ننتظر عقوبتنا عن مقترف، نحن اقترفتاه أو ألحق بنا.
هذه هي ساحة الاصطفاف الصباحي اليومي التي كانت تأتي لنا بمختلف المفاجآت.
***** ***** *****
- "هاكم مأثوركم واعطوني تاريخي"...
تدوين الأحداث اليومية محاولة لتدوين التاريخ القريب، بما يحمل من فرح أو حزن. "تدوّين قد اتحكم فيه، فيعني أنى انتخبت من احداث اليوم قسما نزيراً منها، وليس كلها. وفق مأثور "نرسيس" صارم يتحكم بما انتخب من الأحداث، ولن تكون من الدقّة. ولن أستطع التدوّين بدقّة وإلا لاحتاجت الساعة الواحدة إلى صفحات بعدد دقائقها، فكل ساعة تكون ممتلئة بالتفاصيل الدقيقة.. وسوف تحتاج الساعة الواحدة المكتوبة إلى ساعات عدة لتقرأ"..
***** ***** *****
صرتُ أقود الدراجة و"عمي" معي على مقعدها الخلفي. عندما وصلنا البيت، وجدنا جنب بابنا سيارة "دوج" زرقاء قد جاء بها من بغداد العم "حسقيال"، وقد ترك فيها رجلاً ينتظره، ويقرأ في مجموعة أوراق.. في كل حين ينظر إلى الساعة التي في معصمه.
قبل أن ندخل سلم عليه "عمي" باحترام بالغ، وقال همساً بعد أن ابتعدنا عنه قليلا بأنه المحامي "حسن قلق". ثم ركن دراجته داخل البيت قلت له لماذا "قلق"؟ فقال "لأنه في كل دقيقة ينظر إلى ساعته". وتصاعدت ضحكتنا بعدها صار أمامي "أبي" يسألني عن نتيجة الامتحان:
- "سبع لو ضبع"؟
فسبقني عمي دون تردد:
- "ما شاء الله سبع"..
أردت أن أدخل إلى غرفة "أمي" وأبشرها بنجاحي..
- "تعال سلم على عمك حسقيال"..
كان الرجل يغسل يديه بعد خروجه من دورة المياه، قائلا:
- "قل له أنا لست سبعا ولا ضبعاً.. انا البطلُ الذي سوف يغلبهما"..
ثم جلجلت ضحكة "أبي"، بينما انحنى "حسقيال" إلي ليقبلني ويحضنني برفق قائلاً:
- "حتماً تستحق مني هدية"..
فتح "حسقيال" ورقة درجات الامتحان، وقرأها بتمعّن:
- "ما شاء الله ذكي"
فقال بعده "أبي":
- "وأخرى هديّة مني غير التي وعدتك أمك بها"..
بقيت مبتهجاً، ومراعياً لابتسامة لم تفارقني..
بدأت أمي وعمتي وجدتي يفرشن المنضدة بصحون الطعام. أثارني أن "حسقيال".. قد وضع "غُترة"(28) على رأسه. بينما كان أيامها يلبس "السدارة"(29) ولدينا له صور عدة يظهر مع أخيه "يهوده" بصحبة "أبي" يلبس بدلة أنيقة من سترة وبنطال مكوي في غاية الدقة أردت السؤال.. كأن الرجل أحس بأسئلتي وأراد أن يوضح بابتسامة عريضة عذبة..
لم أستطع الصبر فذهبت إلى الصور التي تحتفظ بها "أمي" في دولاب ملابسها. وأخرجت الألبوم ورحت أتصفح الصور.. وجدت في الألبوم صور عدة لمختلف مراحل طفولتي وأغلبها أظهر فيها مقرباً وجهه يقبلني "يهوده" أو يحملني ومعه "أبي" يرسم ضحكة عريضة..
كان أبي يفضل عدموضع أي شيء على رأسه، وبذلكيختلف عن بقية عمومتي الذين أغلبهم يضعون تلك الغترة، والاعتناء بلفّها لتدلّ على أنهم من "أبناء الولاية". أما "حسقيال"، و"يهوده"، وبقية بعض الناس الذين يسمونهم بالأفندية، فهم يحرصون على السدارة، ويكملّون بها أناقتهم.
- صرت أعرف كيفية الكتابة على تلك الآلة.. مُرني إن كنت تحتاج أن أكتب لك شيئاً؟
***** ***** *****
بعد الطعام تشاور "حسقيال" تارة منفرداً مع "أبي" في بداية الأمر، وتارة مع المحامي الذي أصرَّ على العودة بعد أن تناول الغذاء، إلى الجلوس في السيارة، ويراجع بعض الأوراق التي يتطلبها عمله..
دار الموضوع همسّاً شديداً بينهما، تضمّن خصوصية شيء هام، لم أفهم منه شيئا.. تطرّقا إلى اسم "يهوده" أكثر من مرة، ولأول مرة (عن المرحومة زوجة يهوده وابنهما).
كان أبي في أسوأ حالاته. أراه يدخن السيجارة تلو الأخرى، ويسحقها بقدمه على الأرض. وكان توتراً خفيًّا شاخصاً بينهما، ويبدو أن "حسقيال" يحاول أن يقنعه بما لا يقدر عليه..
- الوحيد القادر على إقناعك "يهودا" وفي أيّ أمرٍ يُريد..
- "لا أريد اية مكافأة على واجبي"!.
***** ***** *****
كانت يدُ "حسقيال" طيّبة وناعمة، لم تفارق يدي، ومعنا "أبي" يتقدمنا، نتخطى بحميميّة باتجاه الشارع العام الذي يقع عليه الباب الرئيس للبيت الذي بات مهجوراً، ولا يسكنه أحد. كان لا يبعد سوى مسافة عشرين متراً تفصل ما بين بيتنا وبيتهم، ولم أكن أعرف ما يدور بذهنيهما، طلب مني "أبي" أن أكون بصحبتهما.. كنت أظن أنه سيحتاجانني لأمر، أو لآخر.."حسقيال" أصرّ علينا الدخول من الباب الرئيس.
كان العنكبوت قد ترك خيوطه على زواياه المتينة، المتسخة، بقيّ يتابع بدقة سور البيت من الخارج. أخرج مفتاحه من جيبه، وأدخله في مكانه وأداره دورتين إلى اليمين، ففتح الباب. كأنه أحدث صريراً كأنه عويل لامرأة مفجوعة..
تراجع الرجل خطوتين، وتمْتَم ببضع كلمات لم أفهمها، ثم عادت يده إلى الامساكبيدي، ثم تقدمنا الثلاثة نحو عمق الدار، وصارت أمامنا تلال الأوساخ.. حيطان جرداء، ألوانها كئيبة، وأبواب الغرف مفتوحة على الآخر. وكلها تعطّ بروائح البراز، والعفونة.. بقيت الغرف فارغة، معتمة، مليئة بالأتربة والأوساخ، وبقايا أوراق ممّزقة عليها آثار بُراز، كنت أرى وجه "أبي" منقبضاً، وقد تعكّر، بينما كان "حسقيال" يشدّ على يدي بحنان ويده لا تودّ مفارقة يدي. ثمة انكسار عظيم راح يدور كروح شريرة قد قلبت الموازين، وعصفت بالمكان وحولته إلى عصفٍ مأكول، بعد أن ابتلعت كل حيواته، كأنما بقيَّ الصديد مخزوناً تحت الجلد، فالوباء هَجَمَ، وراح يزيد بصخبه.
تفرد الانسان ككائن وحيد بين كائنات الأرض انه من يعرف التدمير بأبشع صوره، وان هياجه أعظم من أية كارثة طبيعية..
كنتُ أتطلع إلى شمالي ويميني، اذ تأتيني شحنات ارتجاف لا أعرف مصدرها.. لم تكن من خوف؟ بل من هزيمة؟ حيث لم يستطع أن يحمي لهم البيت الذي عاش فيه وبينهم كريما معززاً. كنت أنقل النظرة مرة إلى "أبي"، وأخرى إلى "حسقيال".. ثمة انكسار عميق كان يجمعهما في صمتهما المحتدم بالكلام، والذي حوّط عينيهما، وجعلهما لا يلتقيان. كي لا يتحدثان أمامي بما لا يريدان أن أعرفه..
تمتم "حسقيال" بصوت مُحتقنٍ:
- "أمر مقدّر من الله"..
أحسست أن ارتجافي قد اشتدّ أكثر، فقرّبني الرجل منه أكثر، وتوجه بنا إلى غرفة الكتب.. نظر "ابي" مبتسماً كأنه قد كشف لي بأنه يعرف بي يوم دخلتها مع "فؤاد"..
لكني كنت متأكدا أنَّ أحد الأسرار التي لم تعرف بها "العمة أمينة" ومن المستحيل أن تكون قد باحت بها لأحد من أهلي، وإلا لحدث يوما ما حدث. أطرقت رأسي إلى الأرض، وبقيت أبتسم.. فواصل القول:
- "لاحظ يا بني حتى القطة سنونة لم تغادر بيتها"!..
التفت إلى ناحية الدرج، فكانت القطة البيضاء تنزل تتهادى بعد أن نظرت إلينا وعادت إلى السطح..
-"عمتك سناء تزوجت من "صموئيل بن راكاح" استاذُ التاريخ زميل "يهوده" في وظيفته.. أما أنا فسأبقى في "بغداد" ولن أغادرها حتى أسلمها الى الله"..
فقال أبي: - "الله يطول عمرك ونشوف أحفادك"..
دفعنا الباب فدخلنا إلى غرفة المكتبة الفارغة.. اختار الزاوية الشمال من جهة الغرفة، وراح يُشبر بأصابعه خمسة أو ستة أشبار باتجاه الباب، ومثلها باتجاه الأرض، حتى صار من الأرض خمسة ومن الحائط إلى تلك النقطة.
كنت أجول بعيني إلى الرفوف الفارغة، وألتقي بعيني "أبي" فاخفضهما. كان المكان في عمق أحد الرفوف الفارغة.. طرقَ عليه بظهر يده، وكان صوته يَدلّ على أن تجويفا فارغاً خلفه.
كان "أبي" يتابع الرجل في خطواته، وكنت أنا أسرح في خيالى أن يكون وراء هذا المكان المنتخب بابٌ سري تأخذني إلى قصص ألف ليلة وليلة.
أخرج الرجل سكينة مطويّة من جيبه، احضرها معه لهذا الغرض. ثم طعن فيها المكان المحدد، ولم يكن هشّاً، فلم يتهشّم بسهولة، إلا بعد ضربة أو ضربتين قويتين، وطلب منه "أبي" أن يقوم بذلك الأمر بدلا عنه إلا أن "حسقيال" رفض وواصل التهشيم، حتى تبينت فتحة بحجم نصف متر مربعة كخزنة لا يمكن الاستدلال إليها.
كان ينظر إلي، ويبتسم كأنه يشرح لي متفاخرا بالمكان السريّ..
بعد ذلك أخرج كيساً من القماش اسمَرَّ لونه.. كان فيه قرن "كبش" مبروم على شكل بوق، وملفوفٌ بشكل معتنى به للغاية. كما أخرج كرّاسة صغيرة حوت قائمة المدينون لهم ووضعها في جيب سترته.. وأخرج خاتما نحاسيا سلمهُ إلى "أبي"، ولم يقل له شيئاً كأنهما قد اتفقا عليه من قبل.
كما اخرج مجموعة من الأختام معها مفتاح باب. كنت أتصور بأنه سيخرج من المخبأ السري ألماساً أو ياقوتاً، ولم يكن شيء من ذلك القبيل...
***** ***** *****
عينٌ دائرية تسجل.. نصف قطرها المسافة بين كل الأشياء والسرد. عينٌ تعترف بأنها رصدت شخوصاً حقيقية، كانت وما زالت تعيش بيننا، وما حدث لها لن يستطع المؤلف نكرانها، ولن يقدم تبريرا بأنه نسجٌ من الخيال، وتطابق الأحداث فيها مع الواقع محض صدفة لا غير.عينٌ تصرّ على أن هذا الواقع خيالٌ استند إلى واقعٍ قد حدث، وهذا الواقع المدوّن كان نسجاً من الخيال، وليس أكثر. سوف لن ينكره أحد بأنه بعيد كل البعد عن النبل الإنساني الرفيع، اذ كان عظيما بخلقه، وعظيماً بدينه، وكبيراً، له أسماء أن أحصيتها لا تسدّها.. أسماء دقيقة المعنى، واوسع من تفكير أهل الأرض، أسماء تحجّم المعنى.. كلمة الله لمتكن لها صورة حتى يتخيلها الإنسان. كلمة أكمل وأشمل وأعظم، من كل كلمة مهما كانت لها من المتانة والحلاوة بمعناها القاموسي،كلمة أشمل من أي تداول بشري.
***** ***** *****
وبعد ذلك طلب من "أبي" أن يعزلَ له جزءاً من الحديقة الأمامية، مساحة تزيد واجهتها على عشرة أمتار، وبعمق عشرين متراً، وطلب من المحامي أن يأتي في اليوم التالي، حتى يسجلها في دائرة العقاري باسم "أبي". وجدته يرفض ذلك الأمر بصورة قاطعة. ولم يقبل بالأمر أبدا.. حتى وإن كانت بتوصية "يهوده". إلا أن "أبي" قَبل أن تكون هذه القطعة أمانة، وليست ملكاً صرفاً مسجلاً في دائرة العقاري.
***** ***** *****
"لماذا أبدلَ سدارته بغترةٍ بعقوبيةٍ، اذ وضعها على رأسه بطريقة من هو غير متعوّدِ عليها. كالمتنكر، لا يريد أن يعرفه أحد"؟.
أردتُ السؤال، ولكني شاهدت لأول مرة دموعاً في عيني "أبي". بقيّ الرجل متوتراً، ونظر بقلق في ساعة معصمه، ثم قبّلَ "أبي" مرات عدة، مودعاً وقائلاً:
- "عنواني تعرفه جيدا. لا تتأخر في طلب أي شيء فالمال مال الله"؟..
ثم انحنى إلي وقبلني، قائلاً بدون مقدمات، وكأنه كان يريدني أن أحفظ ما قاله:
- ("يهودا ابن متاثياس" لقبه "مَكابيوس" ثم صار الاسم لجميع الأسرة، ولما أتى الناس المرسلون من قبل "انطيوخسابيفانيس" إلى "مودين" وأمروا الشعب بأن يقدموا ذبائح وثنية. قام "متاثياس" كاهن فرقة "يهوياريب" بقتل اليهودي الأول الذي اقترب إلى المذبح لكي يمتثل لهذا الأمر ثم قتل معه المرسلون، وهرب إلى الجبال مع بنيه سنة 168ق.م. حيث هناك اتحدَّ معه عدد من أهل وطنه المتمسكين بديانته. وهكذا ابتدأ العصيان حتى مات "متاثيس" سنة 166ق.م، فخلفه يهوذا، الذي ظفر بأعدائهم في بيت "حورون"، و"عمواس" ثم أخذ منهم "أورشليم" وطهّر الهيكل ثلاث سنين بعد تدنيسه) (30).
***** ***** *****
تمّ اقتطاع تلك المساحة من واجهة الحديقة، وعُزِلَتْ بسياج من الخشب عن بقية الحديقة. أنشأ بجانب منها مطعمه الصغير، الذي لم يَزد على أربعة أمتار مربعة، شيده من الخشب المتين الأنيق. ثم أسس في الركن الذي يقابله مثله لبيع الشاي، ونشر في مساحتها الباقية مقاعد خشبية ومناضد وهكذا صارت صالة مطعم ومقهى، متميزة.. ثم اشترى لها "مسجل صوت" يعرض فيه أغاني ريفية صباحاً، وعصرا أغاني "أم كلثوم" الطويلة، وصار للمطعم والمقهى رواد، و"كبة مخائيل" حظيّت من شهرة المكان. وأصبح يُزار من زبائن مرموقين، ومن أقاصي المدينة.. لأجل أن يستمتعوا بالأغاني ويلعبون الدومينو، والطاولة، ويدخنوا الشيشة العثمانية..أما الحديقة الخلفية للبيت فقد سيّجت بسورٍ جديد لا يمكن لأحد أن يعبره، حيث بقيَّ الكلب الذي ربيناه في بيتنا، حارساً فيه.
كنت اشعر بالغيرة من "فؤاد" كلما كرر "أبي" ذلك القول: - "لن يُخيف البشر إلا البشر، وأنا لا أخاف من أحد".







ــــــــــــــــــــــــــــــ
27 * (هامش مضاف) :تعني زقاق: مفردها دربونة، من درب بين البيوت..
28* غطاء رأس يستخدمه الفلاحون في الريف العراقي
29* غطاء راس
30 * يستخدم هذا الكلام للتلقين.









7

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى