أدب السيرة الذاتية عواطف عبداللطيف - محطات في رحلة العمر بين الأمس واليوم

محطة رقم (1)
كثيرة هي المحطات الحافلة في مسيرة الحياة ,, محطات فرح ومحطات حزن ,,مليئة بالقصص والأحداث ,, وهي تحتاج لمن يصورها ويكتب عنها بأمانة وموضوعية لقساوتها أو لما تحتويه من فرح,,وطالما والحمد لله إن ذاكرتنا لازالت مملوءة بما خزنت وتعمل رغم انقضاء العُمر فلماذا لا نستخرجها للنور ,,
سوف أقوم بتدوين هذه المحطات تباعاً بعون الله.
ولدت في عائلة ربانها إنساناً وطنياً كنا ونحن صغاراً نلتف حوله ليسرد لنا قصصاً عن مشاركته في حرب 1948 وحبه لوطنه وأمته فزرع داخلنا تلك البذرة,,كان إنساناً متفهماً وكانت علاقتي به مميزة منذ صغري كان يرحمه الله ينفذ لنا ما نريد ويوفر لنا كل إحتياجتنا بكل محبة وثقة . كان يتعب ويجهد من أجلنا.
لم نكن نعرف لأي طائفة ننتمي لأنه كان يصطحبنا لزيارة الأئمة في بغداد وسامراء وكربلاء والنجف بشكل مستمر ولم يجعلنا نفكر يوماً في ذلك.
وكان كلما دعا الأستاذ مصطفى جواد والأستاذ حسين أمين في برنامجهم التلفزيوني إلى تجمع من أجل الإطلاع على المعالم الأثرية لمنطقة معينة في محافظات العراق كان يسارع للذهاب بنا فكانت من أجمل وأسعد الأيام ونحن نتعرف على تاريخنا وتراثنا وحضارتنا من علماء متخصصين في ذلك الوقت يرحمهم الله.
عدد أفراد عائلتنا كبير والحمد لله والعنصر النسوي هو الغالب كنت الثانية في تسلسل العائلة بعد أختي الكبيرة ,,كان والدي سنداً لنا وركيزة لم يمانع أن نشارك في منتخبات كرة الطائرة المدرسية أنا وأخواتي ومن ثم الإنتماء إلى نادي الفتاة الرياضي فكان ينقلنا وعضوات الفريق للمباريات بسيارته الستيشن وكأن كل عضوات الفريق بناته,, كنا نشارك في مباريات النادي للكرة الطائرة في كل من بغداد والموصل والبصرة وكركوك بصحبة ورعاية سيدات محترمات هن الهيئة الإدارية للنادي في حينه (الأستاذة زكية العبايجي والأستاذة فائزة النجار والأستاذة سالمة الخفاف والأستاذة سهيلة كامل شبيب والأستاذة نهى النجار) وغيرهن وكان لهذه الهيئة دوراً كبيراً في رفد الحركة الرياضية النسوية بكل ما هو مميز ونقي وراقي فالمرأة العراقية تاريخها حافل بكل ماهو جميل في مختلف القطاعات وعلى مر السنين ,,أسماء كثيرة حفرت على تراب الوطن ذكريات لا تنسى فهي أيقونة الحياة وسر استمرارها.
وفي نكسة 1967 واحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية بدأت رحلة نزوح تاريخية للفلسطينين إلى سوريا والأردن من الذين فقدوا منازلهم ووسائل عيشهم نصفهم من الضفة الغربية وقطاع غزة سكنوا في مخيمات مؤقتة في وادي الأردن وفي بعض المدارس والقسم الآخر في مخيمات على الحدود السورية,,كانت أخبارهم ووضعهم المأساوي واحتياجتهم تتزايد والأزمة الإنسانية تكبر والخوف من تفشي الأمراض والأوبئة يتعاظم عندها قررت الهيئة الإدارية لنادي الفتاة الرياضي تلك الهيئة المحترمة المؤمنة بالوطن والعروبة المشاركة في تلبية بعض احتياجات النازحين وتم تدارس الأمر مع الجميع واتخاذ القرار وبدأنا العمل في تجمعات في المدارس لخياطة الملابس من الصباح الباكر حتى المساء دون تعب أو كلل وبجمع التبرعات من التجار في سوق السراي والشورجة ساعدني بذلك والدي لأنه كان يعمل في نفس القطاع, كنا نجمع المواد الغذائية والألبسة وكل ما تحتاجه المخيمات بسعادة ونعود مع سيارات الحمل إلى مكان تجميع تلك المواد والفرح يعتلي الوجوه.
لم يعترض والدي على قراري بالسفر معهم واصطحاب أختي الأصغر مني حنان معي لرغبتها بذلك فقد شاركتني في كل مراحل الإعداد للرحلة رغم صغر سنها ,,غادرنا بغداد كقافلة بالسيارت عضوات الهيئة الإدارية وبعض اللاعبات ,,لم نشعر بالتعب مطلقاً حتى وصلنا عمان كان يجمعنا حب الوطن وإيماننا بقضية أمتنا وما حدث لها وظروف النازحين الذين تركوا ديارهم خلفهم مجبرين وحاجتهم للعون.
كنا نزور المخيمات لتسليمهم المواد والتعرف على احتياجاتهم وكان منظر الأطفال وهم يركضون خلفنا للحصول على شيء مما حملناه لهم يُقطع أوصالنا والأهالي يتحدثون لنا عن بيوتهم التي تركوها خلفهم ومزارعهم وكيف خرجوا ووصلوا إلى هذه المخيمات ومن فقدوا من عوائلهم قصص مؤلمة جداً من الصعب سردها(لم أكن أتصور يوماً أن أرى نفس ما رأيت من معاناة للنازحين على أرض وطني وأن أقف نفس الموقف ولكني سوف أعود لذلك في محطة قادمة إن شاء الله).
كانت إحدى المهام الموكلة لي هي التصوير في المخيمات وفي المستشفيات لمن نالت منهم قنابل النابالم وسماع قصصهم وتدوينها كنت أسأل وأكتب ودموعي تتساقط والسوائل تنزل من الحروق تصاحبها تلك الرائحة الخاصة بها ولكنهم كانوا أبطالاً فعلاً رغم كل شيء .
شاركات القوات الجوية العراقية والبرية في هذه الحرب ولم تزل عالقة في ذهني لحظات لقائنا مع بعض أفراد الجيش العراقي البطل من المتواجدين هناك على طول الطريق وفي المعسكرات الخاصة بهم وكأننا نلتقي بأخوتنا بشموخهم وكبريائهم وقوتهم وقد قام قسماً منهم بتسليمنا رسائل لإيصالها ألى عوائلهم للأطمئنان عليهم لتأخر البريد...
وبعد مرور 56 عاماً على ذلك تتكرر المأساة في السابع من أكتوبر 2023 في غزة لتعيد تلك الصور والمشاهد أمامي بوجعها وألمها وكل ما فيها فلم تكن وسائل التواصل الإجتماعي الحالية موجودة في حينه كما الآن لتنقل للملأ ماذا حدث ويحدث وما هي معاناة الفلسطينين وكيف سُلبت أراضيهم وتم تهجيرهم وما حلَّ بهم,,ألمي كبير وأنا أشاهد إغتيال البراءة وصمود الرجال وإيمان النساء فقد أعطوا للعالم دروساً في الإباء والبسالة والتضحيات لأنهم كالجبال رغم تضييق الخناق عليهم وتدمير البنية التحتية وتزييف وتشويه الحقائق فهناك جرحى ينزفون حتى الموت فقد خرجت أكثر المستشفيات عن الخدمة لعدم توفر الوقود والأدوية والمستلزمات الطبية وهناك أعداداً كبيرة ما يزالون تحت الأنقاض يصعب الوصول إليهم .
أعود لعام 1967 فعندما انتهت الرحلة وعودتنا للعراق كان الفريق في استضافة الأستاذ مؤيد البدري في برنامج الرياضة في أسبوع لينقل عبر البرنامج تفاصيلها وما فيها من معاناة ووجع وألم وحب للوطن والأمة ونشرت إحدى الصحف الرسمية صورتي تحت عنوان (وجهٌ لا ينسى) والحمد لله مع صور المخيمات والمصابين بقنابل النابالم.
كنا نندفع للعمل دون مقابل غير آبهين بالمخاطر يدفعنا ما في داخلنا من حب للوطن والأمة ,,ولكن لقد اختلفت المعايير والمعطيات المطلوبة والمرغوبة في الوقت الحاضر والحُر يفهم.
ألتقيكم في محطة أخرى إن شاء الله شاكرة لكم متابعتكم
؛
عواطف عبداللطيف
8/12/202

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى