لحسن أيوبي - بداية تشكل الوعي بالقضية الفلسطينية لدى جيل مغربي: ذكريات مقاتل مغربي في صفوف الثورة الفلسطينية.. حرب يونيه 1967 في ذاكرة جيل

حرب يونيه 1967 في ذاكرة جيل

الخامس من يونيو 1967، الساعة الثانية عشرة زوالا، قرع حارس المدرسة الابتدائية جرس الخروج، وبغابة الأوكليبتوس المجاورة، تناولنا وجبة الغذاء المكونة من شاي وخبز حاف، وهي الوجبة التي لم تتغير كل يوم وبالنسبة لجميع التلاميذ الذين يفدون إلى المدرسة من مناطق بعيدة تصل بالنسبة إلى الأكثرية إلى عشر كيلومترات…

ثم توجهنا بفرح طفولي عارم نحو نهر أبي رقراق القريب من المدرسة لنملأه بشقاوتنا وضجيجنا. فمياهه الزرقاء الصافية تغري بالسباحة وإنعاش أجسادنا النحيفة من حَر أصبح يرتفع يوما عن يوم، منبئ عن صيف حار على الأبواب… أغلبنا أصبح يتراخى في التعاطي مع دروسه أمام تراخي مُعلمينا الصارمين مع بداية الاستعدادات لحف آخر السنة الدراسية بالمدرسة.

الساعة الثانية زوالا كانت ساحة المدرسة قد امتلأت بالتلاميذ استعدادا لحصة المساء لكن شيئا غير عادي كان يخيم على المدرسة، حيث يجتمع المعلمون الواجمون المنصرفون إلى نقاشات في حلقة تضم كل المعلمين، “نشيد المكي”، “باعطي إدريس”، “بفلس عريشت”، “بابا حمو أحمد”، “العلوي”… والمدير “السي أحمد الدغيمر”… فات وقت الدخول إلى الأقسام والمعلمون منصرفون إلى نقاش لا سابق له. أثار التلاميذ انشغال معلميهم الصارمين الجادين عنهم… وبعد وقت خلناه طويلا بدأ المعلمون يُدخلوننا إلى الأقسام، كانت الحيرة والذهول بادية على مُحيا كل المعلمين.

أدخلَنا مُعلم القسم الرابع ابتدائي السيد “بابا حمو أحمد” معلم اللغة العربية إلى القسم، كان قد أحضر جهاز راديو من الحجم المتوسط إلى القسم، أثار إحضاره من طرف المعلم حيرة التلاميذ، خاصة وأن معلمنا كان معروفا بجديته وصرامته، وعدم تضييعه أية دقيقة خارج ما هو مسطر من مواد وبرامج مدرسية…. خاصة مادتي النحو والصرف والشكل، كيف به اليوم يُحضر جهاز راديو إلى القسم يلهيه عنا ؟

توجه المعلم نحو مكتب الفصل وجلس على الكرسي كان أول مرة جلس على الكرسي وعلامات الغضب بادية عليه، قرّب إليه جهاز الراديو وهو ينظر إلينا بصمت، كانت نظراته إلينا مملوءةبكثير من العطف الأبوي، وكثير من الألم والغضب والحسرة… نظرات لم نعهدها في معلمنا، كمن يريد أن يزُف إلينا خبرا، كمن يريد أن يشركنا في أمر، كمن يريد أن يطلعنا على شيء غير عادي.

بعد صمت طويل وطويل خرج صوت معلمنا متحشرجا متقطعا كأنه يأتينا من بعيد، ليعلن لنا أن إسرائيل قد هاجمت العرب، وأنه تم تحطيم المطارات والطائرات الحربية لمصر وسوريا وهي رابضة في هذه المطارات، وأن المعارك مشتعلة على كل الجبهات المحاذية لإسرائيل.

وبهذا البلاغ المختصر فهمنا الحالة غير الطبيعية التي وجدنا عليها معلمينا ومدرستنا… وانصرف عنا المعلم في البحث عن إذاعات عربية تبث أخبارا عن المعركة. كثرت التعليقات وهم يتابعون ويذيعون تطورات المعركة، كانت بعض الإذاعات تقطع تعليقاتها وأخبارها بإذاعة أغاني حماسية وثورية، أغاني لم نسمع بها في قبل في الإذاعات.

وفي المساء، عدت إلى منزلنا الذي يبعد عن مدرستنا بثماني كيلومترات. وبمنزل عمي المجاور لمسكننا كان والدي وعمي واثنان من أإخوالي يتابعون عبر الراديو أخبار المعركة بنفس الوجوم ونفس الحسرة والغضب التي كان عليها معلمونا. أصبحت جلسات الاستماع هذه تتم كل ليلة وكل مساء وستظل لأسابيع، ومع الأيام كانت مصاحبة بتعليقات ممزوجة بالغضب على الجيوش العربية والأنظمة العربية وإسرائيل وأمريكا والدول الأوربية.

وبعد أيام أخذ يتردد على السوق الأسبوعي لمنطقتنا رجل يضع طاولة تُطوى، ويَعرض في حلقته مجموعة من الصور الشفافة عبر جهاز بلاستيكي يوضع على العينين…

كان وهو يغير الصور يعلق على مضامينها التي تُبين فظاعات الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين من ذبح وبقر بطون النساء الحوامل وإذلال وقتل الجنود العرب الأسرى في حرب 1967.

كانت تعليقاته ونبرات صوته تشبه أصوات وتعليقات المذيعين في الإذاعات، وكأنه خارج لتوه من إحداها. كنا نتسابق كل أسبوع على حلقة هذا الوافد، لمشاهدة ما جاء به من صور جديدة لفظاعات المعركة/ الهزيمة ووحشية الجيش الإسرائيلي، مقابل سنتيمات.

صوت المعلم المتحشرج، وجه أبي الواجم، وحلقات الاستماع العائلية التي استطالت لعدة أسابيع، تعليقات صاحب الحلقة الحانقة.. بكل هذا هاجمتنا نكسة يونيو 1967… لتبدأ أسئلتنا الصغيرة في التراكم لماذا انهزمت جيوشنا العربية الكبيرة والكبيرة، لماذا انهزمت الأنظمة العربية التي يثير ملوكها ورؤساؤها الرهبة بجيوشهم الكثيرة، وخطاباتهم الطويلة والرنانة؟

لتدخلنا هذه الحرب وهذه الهزيمة في أسئلة كثيرة وكبيرة ألغت طفولتنا لننخرط مبكرا في مسارات البحث عن أجوبة لهذه الهزيمة ضمت مشاريع الثورة الشعبية العربية. وعدم التعويل على هذه الجيوش وهذه الأنظمة في مواجهة العدو… لنجد في الثورة الفلسطينية بعد معركة الكرامة في الأردن سنة 1969 بداية معانقة هذا المشروع.

بداية تشكل الوعي بالقضية الفلسطينية لدى جيل الستينات

تحكمت كثير من العوامل في تشكل الوعي بالقضية الفلسطينية لدى الجيل الذي أنتمي إليه، باعتبارها قضية شعب اغتصبت أرضه وتعرض للتشريد والتقتيل من طرف العصابات الصهيونية مدعومة من قوى الاستعمار الامبريالي، وتواطؤ الرجعية العربية المهزومة والمتآمرة على الكفاح المسلح الفلسطيني، وقد شكلت معركة الكرامة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في مواجهة اجتياح الصهاينة للأردن يوم 21 مارس سنة 1968 انعطافة كبرى في تأكيد هذا الوعي بأن الكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني هو النهج الصحيح في التصدي لهذا الكيان الاستعماري الاستيطاني المدعوم من الامبريالية العالمية.

حيث استطاع الفلسطينيون خلال معركة الكرامة هزم نخبة الجيش الإسرائيلي المزهو بانتصاره على الجيوش العربية في حرب 1948 وحرب يونيه 1967 والسيطرة على قطاع غزة والضفة العربية وشبه جزيرة سيناء المصرية، والجولان السوري.

وقد أكد انتصار المقاتلين الفلسطينيين في معركة الكرامة، أن حرب التحرير الشعبية وعدم التعويل على الجيوش العربية المتخاذلة، هو السبيل الوحيد للمواجهة والتحرير، وقد شكلت هذه المعركة بداية انعتاق الأمل في مواجهة واقع الهزيمة واليأس اللذان خلفتهما نكبة 1948 ونكسة 1967.

وترسخ وعينا أكثر بالعلاقة القوية بين الصهيونية والامبريالية العالمية والرجعية العربية المتخاذلة والمتآمرة عندما طرح مشروع “وليام روجرز” وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية بعد صدى معركة الكرامة التي أكدت أن عهد التعويل على الأنظمة العربية وجيوشها المهزومة قد ولى، وأن تعبئة الجماهير العربية ونخبها الواعية في التصدي للمشروع الصهيوني ممكنة عبر الكفاح المسلح وحرب الشعب الطويلة.

وقد أظهر لنا مخطط روجرز سنة 1970 كيف سعت الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة إلى إجهاض نهج الكفاح المسلح وإقباره في بداياته ودخولها كفاعل لصالح إسرائيل عبر الدعوة إلى توقيف كل أشكال الكفاح المسلح ضد إسرائيل وتنفيذ جزء من القرار الأممي رقم 242، عبر انسحاب إسرائيل من بعض المناطق التي احتلتها في حرب يونيه 1967.

وأمام فشل مشروع روجرز اتجه المخطط الجديد للإمبريالية والصهيونية إلى البحث عن وكيل عربي للقضاء على الثورة الفلسطينية عبر دفع النظام الأردني بقيادة الملك حسين بن عبد الله إلى مواجهة المنظمات الفلسطينية والقضاء على قواعدها العسكرية في الأردن، خاصة وأن الحاضنة الشعبية للثورة الفلسطينية تزايد إشعاعها وسط الشعوب العربية والشعب الأردني بعد معركة الكرامة، مما أخاف الكيان الصهيوني والامبريالية العالمية والأنظمة العربية، خاصة وأن المناخ العام عالميا كان يتميز بتزايد حركات التحرير في العالم ضد الاستعمار والامبريالية.

بعد نجاح الثورة الكوبية والثورة في الجزائر، واشتداد المواجهة ضد الاستعمار والامبريالية في آسيا وإفريقيا وتزايد انتصارات الثورة الفيتنامية ضد الإمبرالية الأمريكية.

وقد أظهر العنف الذي استعمله النظام الأردني للقضاء على الثورة الفلسطينية في صيف 1970. وقصف مخيمات الفلسطينيين في جرش وعجلون مدى إصرار الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية ممثلة في النظام الأردني على اجتثاث الثورة الفلسطينية العظيمة والقضاء عليها في بدايات انطلاقها وفي عز الانتصار العظيم للثورة المسلحة الفلسطينية في معركة الكرامة سنة 1968 التي أبانت على أن قوة الإيمان بالقضية واعتماد الجماهير الشعبية في الثورة هو السبيل الوحيد لمواجهة الاستعمار الامبريالي والأنظمة العربية المتآمرة.

هكذا شكلت صدمة الهزيمة المرة في حرب يونيه 1967، والأمل الكبير الذي خلفته معركة الكرامة في مواجهة إسرائيل باعتماد الثورة المسلحة، وما تبعها من مؤامرات امبريالية كمخطط روجرز سنة 1970، وتآمر النظام الأردني ضد الثورة الفلسطينية سنة 1970-1971 في تجذر وعينا بأهمية دعم الثورة الفلسطينية باعتبارها رأس الرمح في مواجهة الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية.

أصبحت القضية الفلسطينية في سبعينيات القرن العشرين قضية محورية في تفكير ونقاشات الجيل الذي أنتمي إليه حيث التحق كثير من المتطوعين بصفوف الثورة الفلسطينية.

ولعب الدور البارز للإعلام الفلسطيني من خلال إذاعة الثورة الفلسطينية التي كان تبث برامجها انطلاقا من الجزائر الملتقطة بوضوح في المغرب، زيادة على دور المجلات الفلسطينية التي كانت تصلنا وخاصة مجلة “الثورة الفلسطينية” لمنظمة التحرير الفلسطينية ومجلة “الهدف” للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والدور البارز الذي كان يطّلع به قسم الإعلام لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط، من خلال الدور التعبوي للراحل الكبير الأستاذ واصف منصور في التعريف بالقضية الفلسطينية، زيادة على دور الجمعيات المغربية الجادة التي جعلت في القضية الفلسطينية قضية محورية في نشاطاتها بالمغرب حيث أصبحت القضية الفلسطينية قضية وطنية لدى عموم المغاربة.

وزاد تعلقنا بالقضية الفلسطينية ما تعرضت له الثورة الفلسطينية من مؤامرة جديدة هذه المرة في لبنان بعد انتقال قوات الثورة الفلسطينية وقياداتها من الأردن بعد مذابح أيلول الأسود سنة 1970، في اتجاه لبنان حيث وجدت الدعم من الشعب اللبناني والقوى الوطنية اللبنانية وعلى رأسها الزعيم الوطني”كمال جنبلاط”.

وما كادت تمر خمس سنوات على تواجد قوات الثورة الفلسطينية في لبنان حتى تفجرت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 بهدف ضرب الثورة الفلسطينية والحركة التقدمية اللبنانية وضرب التلاحم بينهما لإضعافهما وإلهائهما عن مواجهة إسرائيل ومخططها الاستعماري الاستيطاني، فكنا نتابع بألم المجازر الدموية التي تعرض لها الفلسطينيون واللبنانيون في المخيمات الفلسطينية في لبنان على رأسهم مخيم “تل الزعتر”.

وزاد حنقنا على الأنظمة العربية عندما دخل الجيش السوري إلى لبنان بإيعاز من الأنظمة العربية المتآمرة في إطار قوات الردع العربية، التي دخلت لبنان حيث تحالف نظام حافظ الأسد مع القوات اللبنانية والكتائب بقيادة “بشير الجميل” لمواجهة الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية، خاصة عندما سيطرت قوات الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية على جميع المناطق اللبنانية ودحرت ميليشيا “القوات اللبنانية” و”الكتائب”، باستثناء مدينتي”زحلة” و”جونيه”.

فجاء تدخل الجيش السوري لصالح القوات اللبنانية والكتائب، خاصة وأن النظام السوري قد أصبح ينظر إلى القوى الوطنية اللبنانية بقيادة “كمال جنبلاط”، وقوات الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات نظرة مُريبة، كونهما أصبحا عصيين عليه ولا يستطيع احتوائهما،كما أصبح يخاف من انتقال تأثيرهما الثوري إلى الساحة السورية، حيث تم اغتيال الزعيم كمال جنبلاط واستشرى العداء ضد ياسر عرفات وقوات الثورة الفلسطينية.

هكذا شكلت العوامل السابقة كلها عوامل عمقت وعينا بأهمية دعم قضية شعب اغتصبت أرضه وتعرض للاضطهاد والتشرد، وتتعرض ثورته لمؤامرة صهيونية امبريالية، يساهم في تعميقها تآمر الأنظمة العربية، فكنا نرى في الثورة الفلسطينية رأس الرمح في مواجهة الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية.

في بداية السبعينات ساهم أيضا تشكل اليسار الجذري بالمغرب (إلى الأمام، 23 مارس، لنخدم الشعب) في جعل القضية الفلسطينية قضية محورية في نشاط هذه المنظمات وأطرها ومناضليها. وقد ساهم اهتمامي بالقضية الفلسطينية بشكل كبير داخل المؤسسة التي كنت أدرس بها بمدينة سلا “ثانوية النهضة” عاملا أساسيا في التحاقي بتنظيم “لنخدم الشعب” حيث كنت كثير الاهتمام بالقضية الفلسطينية داخل الثانوية من خلال بيع المواد الفلسطينية من مجلات وكوفيات وأشرطة لأغاني الثورة الفلسطينية.

ناهيك عن تنظيم محاضرات ونقاشات حول القضية الفلسطينية إلى جانب أصدقائي في الفصل خاصة الصديق العزيز “عبد العزيز الداسر” الذي استشهد في لبنان سنة 1981 حيث توجه للدراسة في العراق سنة 1979-1980 قبل التحاقه بمعسكرات الثورة الفلسطينية ومن تم التوجه نحو لبنان حيث استشهد هناك بفعل تفجير سيارة مفخخة من طرف الميليشيات العميلة لإسرائيل.

فكنا نبيع المواد الفلسطينية كشكل من أشكال الدعم للقضية الفلسطينية ونحضر الأنشطة الخاصة بالقضية الفلسطينية كشكل من أشكال التوعية والدعم لنضالات الشعب الفلسطيني.

لكن كل هذا لم يكن ليرضيني حيث قررت الالتحاق بالثورة الفلسطينية في سنة 1972 حيث توجهت نحو مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بزنقة الجبلي بالرباط وطلبت الالتحاق بالثورة الفلسطينية وسني لا يتجاوز ستة عشر سنة. لكن الإخوة في مكتب منظمة التحرير صدوني بلطاف ربما لصغر سني.

وكانت أهم مرحلة في علاقتي بالقضية الفلسطينية، وقد زادت نضجا وعطاء، في مدينة المحمدية حيث أصبحت أشتغل سنة 1978. حيث أسسنا جمعية “الإشعاع الثقافي” التي كانت ذات إشعاع كبير من خلال أنشطتها ضمن الجامعة الوطنية للأندية السينمائية.

ومن خلال جعل القضية الفلسطينية قضية محورية في أنشطتها واهتماماتها. حيث كانت الأيام الفلسطينية التي تنظمها الجمعية في مدينة المحمدية بدار الشباب تجلب مئات الشباب ومختلف فئات الشعب في المدينة خاصة الطلبة والعمال والأساتذة.

وقد عمقت أنشطة الجمعية بالمحمدية علاقاتي كفاعل أساسي في الجمعية كرئيس لها بمكتب منظمة التحرير الفلسطينية والاتحاد العام لطلبة فلسطين فرع المغرب، وجمعيات الدار البيضاء التي دخلنا معها في عمليات تنسيق لتنظيم أنشطة داعمة للقضية الفلسطينية، خاصة نادي العمل السينمائي بالدار البيضاء.

وقد لعب في عمليات التنسيق هذه مع جمعيات البيضاء المناضل اليساري البارز”منتصر البريبري” الذي استشهد في ظروف غامضة بالدار البيضاء يوم 7 فبراير 1983 حيث كان يعيش حياة السريةبعد اعتقالات مناضلي اليسار ومناضلي”لنخدم الشعب” في أبريل 1976، ليشكل استشهاده قصة أخرى تستحق أن تُروى.

صورة نادرة للمجموعة المقاومة التي جاءت من المغرب والتحقت بصفوف الثورة الفلسطينية في قواعدها بسوريا وبعدها إلى لبنان. وتضم الصورة:

من اليمين إلى اليسار وقوفا: خالد أبو ظن (طنجة)، خليل (طنجة) ، لحسن أيوبي، كمال بلحسن(الدار البيضاء) ، فؤاد منصور (شقيق واصف منصور)، وعبد العالي المعلمي (المتكئ على ظهره في المقدمة من الحاجب) والباقون هم من الشباب الفلسطيني الذي كان مقيما في المغرب واتجه لقواعد المقاومة في لبنان وسوريا.

الحسم في الالتحاق بالثورة الفلسطينية

أصبح تعاظم قوة الثورة الفلسطينية بلبنان يقلق الكيان الصهيوني خاصة عندما مُنيت نخبة قواته وهي قوات “غولاني” بهزيمة كبرى انضافت إلى الضربة التي تلقاها الكيان الصهيوني بعد عملية الشهيدة “دلال المغربي” سنة 1978، إثر عملية عسكرية كبيرة، مما دفع إسرائيل إلى تنفيذ عملية اكتساح عسكري كبيرة بواسطة قوات “غولاني”لجنوب لبنان للقضاء على قواعد الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية الداعمة لها.

لكن هذه القوات منيت بهزيمة كبرى بفعل صلابة المواجهة من طرف المقاومة بقيادة “أبو موسى” و”عزمي الصغير” و”الشبل حسن”و”بلال”، وهم قادة كانت أسماؤهم تثير الرعب لدى قادة الصهاينة.

ومنذ تلك الفترة ظلت إسرائيل تخطط لاجتثاث قوات المقاومة في الجنوب اللبناني حيث فبركت قصة محاولة اغتيال سفيرها في لندن في ربيع 1982، لإعطائها الشرعية والغطاء للتدخل العسكري والقضاء على المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية المساندة لها، حيث بدأ الاجتياح الإسرائيلي في جنوب لبنان في السادس من يونيه 1982، أمام صمت عربي ودعم دولي لإسرائيل.

وكان تأثير هذا الاجتياح كبيرا علينا في المغرب، وبحكم علاقتي بمكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط وعلاقتي القوية بطلبة فلسطين في “الاتحاد العام لطلبة فلسطين” بالرباط، وخاصة رئيس الاتحاد “تميم” الذي حل بالمغرب طالبا بعد تجربة فظيعة في الأسر بإسرائيل.

حيث دخل السجن وهو مراهق بعد أن اهتدت إليه المخابرات الإسرائيلية عقب عملية “فيردان” التي نفذها كومندو إسرائيل في بيروت وأدت إلى اغتيال ثلاثة من قادة فتح وهم الشهداء “كمال ناصر” و”كمالعدوان”و”أبو يوسف النجار” وذلك بقيادة المجرم “إيهود باراك”، وقد وجد اسم “تميم” ضمن لائحة من مناضلي وأشبال الثورة في داخل الأرض المحتلة في مكتب أبو يوسف النجار المكلف بالتنظيم الداخلي لفتح، واعتبارا لعلاقتي مع “تميم” تطوعت في صفوف الثورة الفلسطينية حيث كانت الثقة كبيرة بيننا بحكم زياراته لي في المحمدية لتأطير وحضور أنشطة “جمعية الإشعاع الثقافي” بالمدينة.

ورغم أنني كنت متزوجا ولي ابن “غسان” في سنته الأولى وبعض الشهور، وزوجتي حامل، فقد حسمت في السفر إلى لبنان، حيث أخبرت زوجتي ثلاثة أيام قبل السفر وبدون مقدمات قلت لها “سوف تكونين زوجة شهيد، وسيكون ابني، ابن شهيد، وسوف تكونان فخورين بذلك..”.

لم تتفاجأ زوجتي بالخبر، فقد كانت تعرف قناعاتي وارتباطاتي الثقافية والسياسية وعلاقاتي في إطار “لنخدم الشعب” أو جمعية الإشعاع الثقافي بالمحمدية، كانت تعرف عشقي الكبير لقضية فلسطين، هل فعلتها ؟ كان هذا هو جوابها، قلت لها أفضل أن أموت وسط الرجال الحقيقيين الأبطال وبيدي بندقية على أن أموت هنا غيظا وكمدا كالجيفة.

وفي الغد ذهبت إلى البيضاء لتوديع أصدقائي في البيضاء ولحضور لقاء تنسيقي أنا و”منتصر البريبري” مع جمعيات البيضاء في دار الشباب بوشنتوف لدعم القضية الفلسطينية، حيث كان اكتساح جنوب لبنان يزداد ضراوة، وفي المساء ذهبت أنا ومنتصر البريبري إلى أحد الشوارع المتفرعة عن ساحة السراغنة لتأطير مظاهرة لدعم القضية الفلسطينية جمعت كثيرا من المناضلين وفئات شعبية.

يوم الأربعاء 7 يونيه 1982 نزلت بنا الطائرة في مطار دمشق الدولي، وبعد أن أوصيت زوجتي بأن تسمي مولودتنا إذا كانت بنتا “دلال” تخليدا لذكرى الشهيدة الفلسطينية “دلال المغربي”.

وفي الطائرة إلى دمشق عبر مطار أثينا كنا مجموعة من الفلسطينيين وهم “عبد العزيز لبسايطة” أستاذ في البيضاء، وسالم العطاونة المدعو بأبو خليل وأسعد الأستاذ بمكناس وحسن عيس شقيق أبو طارق الموظف في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الرباط، وفؤاد منصور أخ واصف منصور المكلف بالإعلام بنفس المكتب بالرباط، وشابين فلسطينيين يدرسان في تارودانت و”تميم” رئيس فرع الاتحاد العام لطلبة فلسطين في المغرب، و”كمال” وهو شاب لبناني، ينتمي للحزب الاشتراكي التقدمي الذي يقوده”كمال جنبلاط”، والطالب الفلسطيني في الطب “خليل أبو الحصين”، وأربعة من المغاربة وهم “كمال بلحسن”، و”عبد العالي المعلمي”، ويشتغلان بالتعليم وطالبين من طنجة وهما “خالد أبوظن” و”خليل” ، لم أكن أعرف من الجميع سوى “تميم”، وقد كان “تميم” هو منسق المجموعة.

أخذنا حافلة صغيرة من مطار دمشق ليلا، إلى دمشق، وبعد المرور على مكتب التعبئة والتنظيم التابع لفتح في دمشق والقيام بإجراءات إدارية، انطلق الباص بسرعة كبيرة ودخل في منطقة فاجأتني بكثرة أشجارها وبساتينها، كان السائق شابا يسوق الباص كأنه في سباق “رالي” ورغم أنه كان بارعا في السياقة ويحفظ المنطقة بشكل كبير.

وفي لحظة، دخل بنا الباص إلى معسكر “صلاح الدين الأيوبي” في الغوطة، فالْتفَت إليّ “تميم” ضاحكا وهو يقول:”انزل أيها الفدائي إنك في ضيافة جدك صلاح الدين الأيوبي”كان المعسكر عبارة عن ساحة كبيرة مغبرة ومضاءة بأنوار كاشفة، وسطها عمود ترفرف عليه راية فلسطين وتحيط به خيام وبعض المباني عبارة عن مخازن للأسلحة والذخيرة للتدريب والحراسة وإدارة وقاعة للاجتماعات والحفلات وصهريج مياه إسمنتي بطبقتين، ومرفق للاستحمام والغسيل حيث بدأنا ترتيبات تسلم بطانياتنا والألبسة العسكرية، وتم توزيعنا على الخيام…

كنت مشدودا بين المكان والإجراءات والعالم الجديد، والناس الجدد، الذين استقبلونا، فكنت أستطلع المكان والشخوص والأجواء؛ حلم جديد.. حلم رائع …

وأول من شد انتباهي هو ذلك الطفل الصغير لكنه كرجل كبير يلبس بذلة عسكرية ويتمنطق بندقية كلاشينكوف ويوزعنا على الخيام، يتكلم بصرامة، ويعطي الأوامر كالكبار وسنه لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره، كنت فضوليا وسألته، بهدف التقرب منه، أبوك في المعسكر معنا، رمقني بقسوة وأجابني على الفور : هنا أبوك وأمك هي الثورة، والبندقية… حياة الضيعة انتهت.

وفي الغد الذي كان يوم خميس ( 8 يونيه 1982) بعد الفطور، بدأت الإجراءات الإدارية والتسجيل في لوائح المعسكر، حيث كانت هناك مجموعة أخرى بالمعسكر للتدريب وشباب من ليبيا وتونس، ومن الكويت، وأهم مجموعة كانت من الأكراد الأتراك المنتمين إلى تنظيم الطريق الثوري اليساري.

كان يوم الجمعة 9 يونيه يوم عطلة التحقنا فيه بدمشق حيث صادفنا الصديق الفلسطيني “أبو النجا” الذي كان يدرس في مدرسة المعلمين بالرباط، فرح ورحب بنا كثيرا. لقد كان “أبو النجا” يزورني في المحمدية هو وزوجته عندما يحضر لتأطير نشاط فلسطيني تنظمه الجمعية..

ورفض أن يفارقنا حيث رجع معنا إلى المعسكر في المساء، وأصر على أن يوصي بنا قائد المعسكر والمدربين.

ويوم السبت 10 يونيه بدأنا التداريب العسكرية على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقنابل اليدوية والمتفجرات، كان مدربنا السيد أبو سلمى وهو رجل طيب، طويل القامة، هادئ الطبع…
فرضت مجموعة المغرب؛ فلسطينيون ومغاربة، احترام الجميع في ظرف وجيز نظرا لانضباطها وما يميزها من مستوى تعليمي ووعي، وكانت مجموعة الأتراك أكثر انضباطا وصرامة في التداريب إلا أنها كانت منغلقة على نفسها، بإجراءات سرية صارمة.

وشيئا فشيئا انفتح عنصران من مجموعة الأتراك علينا وهما “بيمال” و”بدري” قائد المجموعة، أما مجموعة الشباب الفلسطيني القادمين من الكويت والذين فروا من عائلاتهم للالتحاق بالثورة، فكانوا مشاكسين، كثيري المشاكل والصدامات فيما بينهم، مشاكلهم لم ترق إلى مستوى العراك، كلها مشاكل مراهقين تقلق مدربهم “أبو النجا” المدير السابق للأكاديمية العسكرية الفلسطينية في ضواحي بيروت..

أبرز شباب الكويت وهو “أبو العبد” الذي كنت ألقبه بالثعلب، لكثرة مقالبه وسط مجموعته، و”رمزي” الشاب اللطيف الذي كان يصر على إلحاقه بمجموعة إقليم المغرب للهروب من مشاكل أصدقاء مجموعته.

وقد استطاع “أبو النجا” تطويع هذه المجموعة المشاكسة عبر استعمال القسوة معهم في التداريب، وقد كان يتعمد جمعهم في طابور وتزحيفهم على التراب على بطونهم وقت الظهيرة وهو يرُشّهم بالماء البارد بواسطة أنبوب ملحق بصهريج المخيم.

داخل المعسكر تعرفت على مقاتلين فلسطينيين من حراسة المعسكر، من مخيم اليرموك ومن مخيم خان الشيخ جنوب دمشق نحو القنيطرة وجبل الشيخ، وأبرزهم “علي قاسم”الطالب في كلية الطب بدمشق ، و”محمد الديب” الطالب في كلية الهندسة. توطدت علاقتي بهما إلى درجة أنهما استضافاني مرتين بمنزل أسرتيهما في مخيم خان الشيخ، ونظما لي لقاءا مع شباب المخيم لدى أسرتهما حيث الحفاوة التي استقبلني بها شباب المخيم وأسرة صديقي داخله.

بعد انتهاء التداريب في معسكر صلاح الدين دخلنا إلى لبنان والحرب في أوجها، والمقاومة صامدة حيث القتال على كل الجبهات في صيدا وصور وقلعة الشقيف والراشدية ومحيط بيروت، والجولة السريعة التي كان القادة العسكريون الإسرائيليون(على رأسهم مناحيم ببغن، وأرييل شارون) يظنون أنها مجرد فسحة تحولت إلى جحيم أمام صلابة المقاومة، وازدياد خسائر العدو.

تم توزيعنا على مجموعات في منطقة “شتورا” قرب قرية “المرج”، على الضفة اليسرى لنهر “الغزيل” أهم روافد نهر “الليطاني”، حيث تم إلحاقنا بقوات “أجنادين” (كتيبة أبو يوسف النجار)، وهي القوات التي أعطت الشهيدة “دلال المغربي”.

أول يوم في الجبهة

تزامن دخولنا لبنان يوم السبت 19 يونيه 1980 مع تزايد قصف القوات الإسرائيلية لبيروت خاصة الضاحية الجنوبية لبيروت : برج البراجنة، حي السلم، محيط المطار، المدينة الرياضية، كورنيش المزرعة، الفاكهاني، الرملة البيضاء…

وتزامن اليوم الأول لدخولنا مع قيام قوات المقاومة بعملية في جبل الباروك واحتراق آلية للعدو الإسرائيلي وتدحرجها على سفح جبل مما أشعل حريقا في الغابة والأحراش المقابلة لموقعنا… وكنا نسمع طلقات البنادق والرشاشات من طرف المقاومة، ورد الجيش الإسرائيلي عليها بالمدفعية.

كانت معنوياتنا مرتفعة، وبسرعة انسجمنا مع الواقع الجديد. وبعد ثلاثة أيام لأخذنا مواقعنا وسط أشجار التفاح بالبيارات المحاذية لنهر “الغزيل”نظمت لنا دورة تدريبية على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وفي صباح اليوم الرابع توجهوا بنا نحو منطقة جبل “النبي سْباط” في قضاء بعلبك لإجراء تدريب بالذخيرة الحية بواسطة البنادق الرشاشة، والأسلحة المتوسطة وقاذفات الأربيجي ضد الدروع.

كانت مجموعة المغاربة “من فلسطينيين مقيمين بالمغرب، أو مغاربة متطوعين”، يفرضون احتراما وتقديرا كبيرين من طرف المدربين والفلسطينيين وقادة المواقع. فقد استطعنا الانسجام بشكل سريع مع قائد موقعنا “مصلح” الذي راكم تجربة قتالية كبيرة في “غور الأردن” ضد إسرائيل وفي معارك جرش وعجلون في الأردن.

وأثناء الحصار وجد نفسه خارج بيروت بينما عائلته الصغيرة في برج البراجنة، والمتكونة من زوجة وستة أطفال جاؤوا كلهم كتوائم، حيث كانت زوجته في كل مرة تلد توأمين، ومرة وعلى سبيل المزاح معه، قلت له أن الشاي في معسكر صلاح الدين في سوريا كانوا يضيفون إليه الكافور عمدا لكبح جماحنا جنسيا، حتى لا نفكر في الجنس، وهذا له تأثير فينا مستقبلا، فثار في وجهي بلهجة الغزاويين البدوية “لو كان الكافور ينفع ما كانت زوجتي تلد التوائم في كل مرة”.

كان قائد موقعنا كل مرة يدخل في سهو وحزن على عائلته في مخيم برج البراجنة التي يتعرض باستمرار إلى القصف العنيف. وسرعان ما يرجع بسرعة إلى روح الدعابة والنكتة … وبين فسحة وأخرى كنا ندخل في نقاشات قوية، حول أوضاع المقاومة والوضع الإداري والتنظيمي لفتح … وكنت أعبر عن مواقفي اتجاه ما لمست داخل فتح من هوة عميقة بين القادة الإداريين الفاسدين والقادة العسكريين المتميزين بالصدق والنقاء الثوري وحب التضحية والوفاء للبندقية والقضية …

وهذا سوف يقرب “مصلح” مني أكثر، وسف يرفع تحفظه معي في قضايا كانوا يفضلون عدم طرحنا معنا أو أمامنا… حيث فرضت نفسي من خلال أدائي وانضباطي، ومن خلال مواقفي، وشيئا فشيئا بدأ “مصلح” يصحبني معه لنقاشات وجلسات مع مقاتلين آخرين.

كنت من خلاله ألمس مدى تذمر المقاتلين،وهم أصحاب تجربة كبيرة في القتال، من التعيينات داخل فتح للحفاظ على توازنات متحكم فيها جيدا من طرف “أبو عمار” و”أبو جهاد” وتهميش البعض.

وما أفاض الكأس بالنسبة لقوات أجنادين التي ننتمي إليها، هو تعيين “موسى عرفات” ابن أخ ياسر عرفات على رأس هذه القوات، التي واجه مقاتلوها وقادتها من أمثال “دلال المغربي” ومجموعتها، والقادة “أبو موسى” و”عزمي الصغير” ، و”الشبل حسن” و”بلال”، القوات الإسرائيلية، قوات غولاني في اجتياح ربيع 1978 بعد عملية الفدائية الشهيدة دلال المغربي، حيث واجه هؤلاء القادة القوات الإسرائيلية بشكل بطولي في وقت فر من المعركة قائد القوات المشتركة الفلسطينية – اللبنانية “الحاج إسماعيل”.

ومنذ هذه الفترة، أصبح هؤلاء القادة يرفضون التعامل مع “الحاج إسماعيل” ويتجاوزونه. فكان رد فعل “أبو عمار” و”أبو جهاد” بسحب “أبو موسى” بطل المقاومة في جنوب لبنان إلى غرفة العمليات في بيروت وإبعاده عن القوات التي كانت تكن له احتراما كبيرا، نظرا لاستماتته في مواجهة العدو الإسرائيليبخلاف “الحاج إسماعيل”، الذي كان يكن له مقاتلوا وقادة القوات في الجنوب كرها كبيرا.

وبعد الاجتياح الصهيوني للبنان في صيف 1982. واختفاء “عزمي الصغير” قائد قوات أجنادين تم تعيين “موسى عرفات” قائدا لهذه القوات ضد إرادة قادة أكثر منه تجرية وحنكة، مما أثار غضبا كبيرا داخل القوات التي كنا ننتمي إليها، زادها مرارة فرار “الحاج إسماعيل” من المعركة أثناء الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، ولجوئه إلى دمشق.

كنت تلمس رفض تعيين “موسى عرفات” على قادة وفصائل القوات التي كنا ننتمي إليها، وكنتَ تلمس الحقد الكبير لهؤلاء القادة والمقاتلين ضد “الحاج إسماعيل” فالأول في نظرهم دون مستوى قيادة قوات كبيرة ذات تجربة مهمة في مواجهة إسرائيل، والثاني في نظرهم مجرد جبان وخائن يفر عند أول معركة ويتخلى عن قواته.

منذ 19 من يونيه اجتمع وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتر وعبد الحليم خدام وسعود الفيصل، وطرحت أول مرة مسألة إيجاد مخرج لوقف الحرب في لبنان ضد الفلسطينيين عبر إيجاد صيغة لخروج المقاومين الفلسطينيين وقياداتهم من بيروت المحاصرة والتي تتعرض لقصف وتجويع رهيبين، وإيجاد بلد يوافق على استقبال المقاتلين المحاصرين في بيروت.

وأمام تزايد الضغط والقصف على بيروت برا وبحرا وجوا. وقطع الكهرباء عنها أعلن بشير الجميل يوم24 يونيو 1981، ترشحه لرئاسة الجمهورية اللبنانية؛ فهذا القط المتوحش جعله الاجتياح العسكري الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصار بيروت، ومدن وبلدات الجنوب، يستغل الفرصة للظهور كأسد.

بدأ الضغط يزداد على المقاتلين الفلسطينيين عسكريا من أجل التمهيد لفرض الشروط الأمريكية- الغربية- الإسرائيلية من أجل إخراجهم من بيروت، وتسهيل مهمة المبعوث الأمريكي ”فيليب حبيب” إلى لبنان. وكان رد المقاتلين الفلسطينيين هو الاستماتة في القتال، ومواجهة القوات الإسرائيلية على كل المحاور، وقد كانت إذاعات لبنان ودمشق و “مونتي كارلو” تذيع بالتفاصيل أخبار القتال وكانت أكبر ضربة للقوات الإسرائيلية هو اقتحام مجموعة من الشباب المقاتلين لمدرسة كانت مقر غرفة عمليات العدو وقادته حيث تم الإجهاز على مجموعة من القيادات العسكرية الإسرائيليةوعلى رأسهم الجنرال “موتشي ليفي” نائب رئيس الأركان.

الصمود الرائع لقوات الثورة الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية، التي أبهرت العالم، وأبانت عن تخاذل الأنظمة العربية المتآمرة والجبابنة.

لكن أمام تزايد الترتيبات لخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت بدأ النقاش حول خروج المقاتلين من بيروت، كما بدأنا نناقش وضعنا كمتطوعين في ظل المعطيات الجديدة، ليحسم الفلسطينيون في أمرنا، عبر طرح مسألة الرجوع بالنسبة للمتطوعين الذين ليست لهم مشاكل أمنية في بلدانهم، أما الذين لا يستطيعون الرجوع مثل اليمنيين والعراقيين، فيمكن لقيادة الثورة تدبر أمرهم في لبنان أو سوريا أو خروجهم مع المقاتلين الخارجين نحو بعض الدول العربية.

ثم نقلنا إلى مخيم التجميع في معسكر قرب “مارإلياس” يشرف عليه القائد الفتحاوي “أبو خَلَوي” ومنه تم ترتيب خروجنا إلى دمشق ثم الرجوع من حيث أتينا عبر فيينا ومدريد لتجنب رجوعنا مباشرة من دمشق لأن الظرف كان جد حساس أمنيا بالنسبة لنا.

ولازالت مسألة دعم القضية الفلسطينية مطروحة بشكل كبير من طرف الجماهير العربية والقوى الواعية والمثقفة، كون الأنظمة العربية قد محت من أجندتها قضية فلسطين في الوقت الذي تتزايد فيه سياسة التهويد (عبر طرح قانون يهودية الكيان العنصري) وبناء المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة وتزايد سياسة القتل والتدمير والتجويع والحصار في غزة والضفة الغربية… مع ما يقابلها من تزايد دعوات التطبيع مع الكيان الصهيوني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى