كتب الأستاذ على الطنطاوي في العدد (236) من (الرسالة) بمناسبة إظلال العيد الألفي للجامع الأزهر يقترح على أبناء جامع القرويين والزيتونة والنجف أن يتحدثوا لقراء (الرسالة) عن شيء من تاريخ هذه المعاهد وما ساهمت به في خدمة الثقافة الإسلامية وفنون المعارف الأخرى، كما سيتحدث أبناء الأزهر في ذلك العيد القريب عن أزهرهم ويقومون بإحياء ذكراه الخالدة المحفوظة في ضمير الزمان ما بقي من يراعي الجميل من بني الإنسان. وذلك لأن كثيراً من الناس يتشوقون إلى معرفة أحوال هذه المعاهد والأطوار التي اجتازتها منذ تأسيسها إلى الآن، وسيبلون عطشهم بالنسبة إلى الأزهر؛ أما بالنسبة إليها فسيبقون أعطش مما كانوا، لأن الذكرى تبعث الذكرى. فلا أقل من أن يحظوا ببلالة من العلم في كلمة أو كلمتين عن تلك الجامعات التي غيرت هي والأزهر مدى أجيال تشع على العالم أنوار العلم والمعرفة وتتدرج بالفكر الإنساني في مدارج النمو والارتقاء.
وقد استحسنا اقتراح الأستاذ ولبثنا مدة ننتظر من يستجيب له ويمتعنا بالحديث عن أي جامع كان من تلك الجوامع فما ظفرنا إلا بالخيبة والملل، وأخيراً تكلم بعض أفاضل النجف عن جامعه وهو ثالث الثلاثة الأحق ببسط الكلام فيه والتوسع في الحديث عنه، ولكن ذلك الفاضل اقتضب القول فيه اقتضاباً ووعد بالتبسط مرة أخرى وإنا لوعده لمنتظرون. وقد حبب إلينا لما بقي الميدان خالياً بل رأينا من الواجب أن نتقدم بكليمات عن جامعنا القروي العامر يتعرف بها الجمهور العربي من قراء (الرسالة) عظمة تاريخ ذلك المعهد وما قام به من خدمات جلى للعلم والمعرفة طوق بها المدنية الغربية في فجر نهضتها بأياد بيضاء:
فأولى الميزات التي تبعث على الفخر والازدهار، وهي مما أختص به هذا الجامع، أن مؤسسه امرأة، وامرأة من صميم الشعب، لا ملكة ولا أميرة. وفي هذا ما يكفي لرد ما يتقوله المتقولون على المرأة المسلمة ويصمونها به من الجهل والتأخر عن مجاراة سنن الحياة؛ إذ ما عهدنا في تاريخ أمة من الأمم وفي العصر الحاضر أن يكون مؤسسو الجامعات العلمية العالمية من النساء. ولكن الإسلام الذي رفع من شأن المرأة وأعلى قدرها إلى ما لم تبلغه في أية شريعة أخرى سواء كانت سماوية أو وضعية هو الذي سما بنفس السيدة أم البنين فاطمة بنت محمد الفهري - إلى هذا المقصد النبيل وبعث فيها الرغبة الملحة إلى بناء جامع القرويين بمالها الحلال الذي ورثته من أبيها وزوجها، لم تنفق فيه سواه احتياطياً منها وتحرجاً من الشبهة؛ وذلك عام (245) وكانت لم تزل صائمة منذ شرعت في بنائه إلى أن تم وصلت فيه شكراً لله تعالى الذي وفقها لذلك العمل المبرور.
وهذا التاريخ الذي بنى فيه جامع القرويين لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة (359). فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف: (إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدمته بأكثر من أربعة قرون) غير صحيح، لا بالنسبة للقرويين كما رأيت، ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة لأن تأسيسها إنما كان سنة (1119م) أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف. إذ أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي (970) وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القرويين فالأزهر فجامعة بولونيا
ومن المعلوم أن القرويين لأول بنائها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها كثير، وجدد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة (307)، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تجديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة (345)، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة (388). ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كله وزيدت فيه زيادة مهمة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته إلى الغاية وكمل ذلك سنة (538) أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بسنة.
ولما ملك الموحدون فاس سنة (540) خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد عليهم الموحدون النقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقلل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمامون الجامع تلك الليلة وغطوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق لمحراب وحوله بالورق ولبسوا عليه بالجص ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلا البياض ونلاحظ هنا أن فقهاء المدينة وأشياخها إنما خافوا انتقاد الموحين عليهم لما كانوا هم المباشرين لبناء المسجد وزخرفته ولم يكن ذلك من عمل المرابطين الذين قام عليهم الموحدون؛ وكذلك كان هذا المسجد منذ تأسيسه من الشعب وإليه. فمعظم هذه الزيادات - إن لم نقل كلها - كانت مما قام به أفراد من الشعب فقهاء وأئمة وغيرهم، بعد استئذان الحاكم طبعاً. ولشد ما كانوا يتحرون في المال الذي ينفق على ذلك، بل في الآجر والماء والتراب الذي كان يدخل في البناء فلا يصرفون فيه إلا ما كان من أصل طيب؛ وربما اشتبه عليهم مال أحدهم فأدى الأيمان الغليظة على أنه من الحلال الخالص الموروث عن آبائه الذين صار إليهم من عمل شريف إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً عند ابن أبي زرع في القرطاس والجزنائي في زهرة الآس وابن القاضي في جذور الاقتباس
هنا كان قد بلغ الجامع كماله فأتى دور المصالح والمنافع والمرافق الملحقة به من فسقيات وميضآت ومستودعات وخزانات ومقاصير ومدارس وما إليها. وأهم ذلك خزانة الكتب التي أسسها به السلطان أبو عنان فارس المريني وأودعها كما يقول الجزنائي: (من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان وغير ذلك من العلوم على اختلافها وتنوع ضروبها وأجناسها ووقفها ابتغاء الزلفي ورجاء ثواب الله الأوفى، وعين لها قيما لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جراية مؤبدة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى سنة 750)
وأسس أبو عنان كذلك مصاحف احتفل في بناها وتشييدها بما لم يسبق إليه، وأعد فيها جملة كثيرة من المصاحف الحسنة الخطوط وكلف بها من يتولى أمرها على أحسن الشروط. ثم لم تزل الملوك والسوقة تقف الكتب على خزانة القرويين بعد ذلك حتى اجتمع بها من المجلدات العلمية والأدبية والدينية ما لا يدخل تحت حصر ولا يستوفيه عد ولا حساب
وأما المدارس وهي بيوت الطلبة الملحقة بالقرويين، فإن من أقدم ما بني منها مدرسة الصابرين التي أسسها أمير المسلمين ابن تاشفين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري (450) والمرينيون هم سباق هذه الحلبة الذين خلفوا لنا أكبر عدد من المدارس المتقنة الصنع المحكمة الوضع، لا حول القرويين فقط بل في جميع أنحاء المغرب ولما كان كلامنا هنا إنما يساق إلى القرويين فلنذكر بالخصوص مدرسة العطارين التي بناها السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. ومدرسة أبي عنان اللتين تعدان قطعتين خالدتين من فن العمارة والنقش والتخريم والتزويق المغربي. وقد تلحق بهما مدرسة الشراطين التي بناها مولاي رشيد من ملوك دولتنا العلوية العلية. أما غير هذه المدارس فإنها وإن لم تكن مثلها في بداعة الشكل وجمال الصنعة إلا أنها لا تقل عنها فخامة بناء ورحابة فناء
هذه العناية الفائقة بالقرويين والاهتمام البالغ النهاية بأمره من الشعب ثم من الحكومة في كل عصر وفي كل دولة - تدلنا على ما كان له من مكانة سامية في النفوس منذ عهد تأسيسه وما كان يخص به من الاحتفال والاهتمام دون بقية المساجد الأخرى. وإلا فأخوه وشقيقه جامع الأندلس الذي بنته السيدة مريم أخت أم البنين وشقيقتها لم يظفر بعشر مما ظفر به هو من ذلك، بل إنه ما لبث أن غطى على جامع الأشراف الذي أسسه المولى إدريس ثاني ملوك الدولة الإدريسية ومختط فاس وبانيها سنة (192) فنقلت خطبة العدوة القروية من مسجد الأشراف المذكور إلى القرويين وأصبح هو المسجد الجامع في تلك العدوة كلها
وأبتدأ نجم القرويين يلمع في سماء العلم منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، وما كاد القرن الرابع يبلغ النصف حتى كان مثل عبد الله بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة والنوادر والذي يعرف بمالك الصغير يشد الرحلة إلى أحد رجاله وهو دراس بن إسماعيل المتوفى سنة 357هـ وفي هذا العهد كان أيضاً أبو جيدة ابن أحمد وهو فقيه فاس ومحررها من سطوة عامل المنصور بن أبي عامر. ولا شك انه كان أحد أساطين هذه الكلية وممن عملوا على رفعة شأنها وعلو قدرها
وتتوالى حلقات السلسلة حتى تصل إلى العصر الحاضر مؤلفة من رجال وقفوا حياتهم على خدمة التشريع الإسلامي تحت راية مالك وأصحابه فبلغوا به الغاية التي ما بعدها غاية في الكمال، وطارت لهم شهرة مطبقة في أرجاء العالمين الشرقي والغربي. فما منهم إلا إمام فتوى ومجتهد مذهب مثل الفقيه ابن عمران الفاسي المتوفى سنة 430 والفقيه ابن محمد صالح المتوفى سنة 631 والفقيه راشد الفاسي المتوفى سنة 675 والفقيه أبي الحسن الصغير المتوفى سنة 719 والفقيه أبي عمران العبدوسي المتوفى سنة 776 والفقيه القوري المتوفى سنة 872 والفقيه المشارك أبي عبد لله بن غازي المتوفى سنة 917 والفقيه أبي علي بن رحال المتوفى سنة 1140 والفقيه الرهوني المتوفى سنة 1230 وغيرهم
وفي الحقيقة إن اكثر الجهود في الكلية في كل عصر كانت موجهة إلى هذه الناحية من التعليم، ومعظم إنتاج رجالها كان في هذا العلم: علم الفقه وما إليه على مذهب مالك رحمه الله حتى ليصح القول إن أهل كل بلاد لم يخدموا مذهبهم بقدر ما خدمه أهل المغرب، وإن المذهب المالكي لم يصل إلى ما وصل إليه من الخصب والنماء والنضوج - حتى أن أتباع غيره من المذاهب ربما اضطروا إلى الأخذ عنه والاقتباس منه كما في بعض قوانين المحاكم الشرعية بمصر - إلا بفضل القرويين وما أبدوه من الهمة الصادقة في هذا السبيل.
(يتبع)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
مجلة الرسالة - العدد 261
بتاريخ: 04 - 07 - 1938
وقد استحسنا اقتراح الأستاذ ولبثنا مدة ننتظر من يستجيب له ويمتعنا بالحديث عن أي جامع كان من تلك الجوامع فما ظفرنا إلا بالخيبة والملل، وأخيراً تكلم بعض أفاضل النجف عن جامعه وهو ثالث الثلاثة الأحق ببسط الكلام فيه والتوسع في الحديث عنه، ولكن ذلك الفاضل اقتضب القول فيه اقتضاباً ووعد بالتبسط مرة أخرى وإنا لوعده لمنتظرون. وقد حبب إلينا لما بقي الميدان خالياً بل رأينا من الواجب أن نتقدم بكليمات عن جامعنا القروي العامر يتعرف بها الجمهور العربي من قراء (الرسالة) عظمة تاريخ ذلك المعهد وما قام به من خدمات جلى للعلم والمعرفة طوق بها المدنية الغربية في فجر نهضتها بأياد بيضاء:
فأولى الميزات التي تبعث على الفخر والازدهار، وهي مما أختص به هذا الجامع، أن مؤسسه امرأة، وامرأة من صميم الشعب، لا ملكة ولا أميرة. وفي هذا ما يكفي لرد ما يتقوله المتقولون على المرأة المسلمة ويصمونها به من الجهل والتأخر عن مجاراة سنن الحياة؛ إذ ما عهدنا في تاريخ أمة من الأمم وفي العصر الحاضر أن يكون مؤسسو الجامعات العلمية العالمية من النساء. ولكن الإسلام الذي رفع من شأن المرأة وأعلى قدرها إلى ما لم تبلغه في أية شريعة أخرى سواء كانت سماوية أو وضعية هو الذي سما بنفس السيدة أم البنين فاطمة بنت محمد الفهري - إلى هذا المقصد النبيل وبعث فيها الرغبة الملحة إلى بناء جامع القرويين بمالها الحلال الذي ورثته من أبيها وزوجها، لم تنفق فيه سواه احتياطياً منها وتحرجاً من الشبهة؛ وذلك عام (245) وكانت لم تزل صائمة منذ شرعت في بنائه إلى أن تم وصلت فيه شكراً لله تعالى الذي وفقها لذلك العمل المبرور.
وهذا التاريخ الذي بنى فيه جامع القرويين لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة (359). فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف: (إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدمته بأكثر من أربعة قرون) غير صحيح، لا بالنسبة للقرويين كما رأيت، ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة لأن تأسيسها إنما كان سنة (1119م) أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف. إذ أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي (970) وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القرويين فالأزهر فجامعة بولونيا
ومن المعلوم أن القرويين لأول بنائها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها كثير، وجدد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة (307)، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تجديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة (345)، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة (388). ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كله وزيدت فيه زيادة مهمة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته إلى الغاية وكمل ذلك سنة (538) أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بسنة.
ولما ملك الموحدون فاس سنة (540) خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد عليهم الموحدون النقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقلل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمامون الجامع تلك الليلة وغطوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق لمحراب وحوله بالورق ولبسوا عليه بالجص ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلا البياض ونلاحظ هنا أن فقهاء المدينة وأشياخها إنما خافوا انتقاد الموحين عليهم لما كانوا هم المباشرين لبناء المسجد وزخرفته ولم يكن ذلك من عمل المرابطين الذين قام عليهم الموحدون؛ وكذلك كان هذا المسجد منذ تأسيسه من الشعب وإليه. فمعظم هذه الزيادات - إن لم نقل كلها - كانت مما قام به أفراد من الشعب فقهاء وأئمة وغيرهم، بعد استئذان الحاكم طبعاً. ولشد ما كانوا يتحرون في المال الذي ينفق على ذلك، بل في الآجر والماء والتراب الذي كان يدخل في البناء فلا يصرفون فيه إلا ما كان من أصل طيب؛ وربما اشتبه عليهم مال أحدهم فأدى الأيمان الغليظة على أنه من الحلال الخالص الموروث عن آبائه الذين صار إليهم من عمل شريف إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً عند ابن أبي زرع في القرطاس والجزنائي في زهرة الآس وابن القاضي في جذور الاقتباس
هنا كان قد بلغ الجامع كماله فأتى دور المصالح والمنافع والمرافق الملحقة به من فسقيات وميضآت ومستودعات وخزانات ومقاصير ومدارس وما إليها. وأهم ذلك خزانة الكتب التي أسسها به السلطان أبو عنان فارس المريني وأودعها كما يقول الجزنائي: (من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان وغير ذلك من العلوم على اختلافها وتنوع ضروبها وأجناسها ووقفها ابتغاء الزلفي ورجاء ثواب الله الأوفى، وعين لها قيما لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جراية مؤبدة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى سنة 750)
وأسس أبو عنان كذلك مصاحف احتفل في بناها وتشييدها بما لم يسبق إليه، وأعد فيها جملة كثيرة من المصاحف الحسنة الخطوط وكلف بها من يتولى أمرها على أحسن الشروط. ثم لم تزل الملوك والسوقة تقف الكتب على خزانة القرويين بعد ذلك حتى اجتمع بها من المجلدات العلمية والأدبية والدينية ما لا يدخل تحت حصر ولا يستوفيه عد ولا حساب
وأما المدارس وهي بيوت الطلبة الملحقة بالقرويين، فإن من أقدم ما بني منها مدرسة الصابرين التي أسسها أمير المسلمين ابن تاشفين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري (450) والمرينيون هم سباق هذه الحلبة الذين خلفوا لنا أكبر عدد من المدارس المتقنة الصنع المحكمة الوضع، لا حول القرويين فقط بل في جميع أنحاء المغرب ولما كان كلامنا هنا إنما يساق إلى القرويين فلنذكر بالخصوص مدرسة العطارين التي بناها السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. ومدرسة أبي عنان اللتين تعدان قطعتين خالدتين من فن العمارة والنقش والتخريم والتزويق المغربي. وقد تلحق بهما مدرسة الشراطين التي بناها مولاي رشيد من ملوك دولتنا العلوية العلية. أما غير هذه المدارس فإنها وإن لم تكن مثلها في بداعة الشكل وجمال الصنعة إلا أنها لا تقل عنها فخامة بناء ورحابة فناء
هذه العناية الفائقة بالقرويين والاهتمام البالغ النهاية بأمره من الشعب ثم من الحكومة في كل عصر وفي كل دولة - تدلنا على ما كان له من مكانة سامية في النفوس منذ عهد تأسيسه وما كان يخص به من الاحتفال والاهتمام دون بقية المساجد الأخرى. وإلا فأخوه وشقيقه جامع الأندلس الذي بنته السيدة مريم أخت أم البنين وشقيقتها لم يظفر بعشر مما ظفر به هو من ذلك، بل إنه ما لبث أن غطى على جامع الأشراف الذي أسسه المولى إدريس ثاني ملوك الدولة الإدريسية ومختط فاس وبانيها سنة (192) فنقلت خطبة العدوة القروية من مسجد الأشراف المذكور إلى القرويين وأصبح هو المسجد الجامع في تلك العدوة كلها
وأبتدأ نجم القرويين يلمع في سماء العلم منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، وما كاد القرن الرابع يبلغ النصف حتى كان مثل عبد الله بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة والنوادر والذي يعرف بمالك الصغير يشد الرحلة إلى أحد رجاله وهو دراس بن إسماعيل المتوفى سنة 357هـ وفي هذا العهد كان أيضاً أبو جيدة ابن أحمد وهو فقيه فاس ومحررها من سطوة عامل المنصور بن أبي عامر. ولا شك انه كان أحد أساطين هذه الكلية وممن عملوا على رفعة شأنها وعلو قدرها
وتتوالى حلقات السلسلة حتى تصل إلى العصر الحاضر مؤلفة من رجال وقفوا حياتهم على خدمة التشريع الإسلامي تحت راية مالك وأصحابه فبلغوا به الغاية التي ما بعدها غاية في الكمال، وطارت لهم شهرة مطبقة في أرجاء العالمين الشرقي والغربي. فما منهم إلا إمام فتوى ومجتهد مذهب مثل الفقيه ابن عمران الفاسي المتوفى سنة 430 والفقيه ابن محمد صالح المتوفى سنة 631 والفقيه راشد الفاسي المتوفى سنة 675 والفقيه أبي الحسن الصغير المتوفى سنة 719 والفقيه أبي عمران العبدوسي المتوفى سنة 776 والفقيه القوري المتوفى سنة 872 والفقيه المشارك أبي عبد لله بن غازي المتوفى سنة 917 والفقيه أبي علي بن رحال المتوفى سنة 1140 والفقيه الرهوني المتوفى سنة 1230 وغيرهم
وفي الحقيقة إن اكثر الجهود في الكلية في كل عصر كانت موجهة إلى هذه الناحية من التعليم، ومعظم إنتاج رجالها كان في هذا العلم: علم الفقه وما إليه على مذهب مالك رحمه الله حتى ليصح القول إن أهل كل بلاد لم يخدموا مذهبهم بقدر ما خدمه أهل المغرب، وإن المذهب المالكي لم يصل إلى ما وصل إليه من الخصب والنماء والنضوج - حتى أن أتباع غيره من المذاهب ربما اضطروا إلى الأخذ عنه والاقتباس منه كما في بعض قوانين المحاكم الشرعية بمصر - إلا بفضل القرويين وما أبدوه من الهمة الصادقة في هذا السبيل.
(يتبع)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
مجلة الرسالة - العدد 261
بتاريخ: 04 - 07 - 1938