سعيد فرحاوي - ماهية الراوي في رواية (بيني وبين إستير) لبديعة الراضي.. قراءة في أجزاء. ج3.

ج3.

بعد قراءتي المتعددة لرواية بديعة الراضي (بيني وبين إستير) تبين لي ضرورة تقطيعها إلى مقاطع، حسب الآليات الإجرائية المعتمدة في علم السرد. كل مقطع تتحكم فيه خصائص وشروط معينة، سنكشف عنها كلما انتقلنا من مقطع إلى آخر. يبتدئ المقطع الأول منذ أول عتبة/العنوان، هذا الأخير يمكن إعتباره المقطع الأول سنسميه المركز المنظم للرواية ككلc entre organisateur. يتميز بوظيفتين:
_أولا هو العتبة العنوان للرواية ككل. لهذا سيكون دالا بصفته المركز المحوري والعنصر الأساسي الذي سيجعل من الرواية نسقا منظما تنظيما محكما، تربطه بالرواية علاقة كهربائية لا يمكن تغييب أحد العنصرين وإلا لن تظهر الإنارة الدلالية التي ستنير وتشرق في طريق الدلالات الروائية التي تخفيها الأنساق البنائية للرواية ككل.

1.jpg

_الوظيفة الثانية يشكل العنوان مقطعا مستقلا بذاته، يتضمن حكاية مضمرة لكل أفعالها الحكائية. إلى جانب ذلك يشكل المركز المنظم لكل الأفعال السردية في رواية بيني وبين إستير.
المقطع الأول /العنوان يحدد عناصر التواصل المهمة في عنصرين رئيسين :
_عنصر التواصل الأول /المرسل الأول : يشكل العنصر المتكلم (بيني انا). هو سارد وفي نفس الوقت عنصر تواصل أول، لأنه تلقى تفويضا من المؤلف الضمني ليقوم بوظيفة السرد. من جهة هو سارد ومن جهة أخرى هو عامل تواصل أول. يتميز بكونه أشرك عنصرا آخر في فعل الحكاية ليصبح العمل كله مبني بناء تشاركيا (وبين إستير) فتصبح بذلك عملية الحكي مشروطة بوجود عاملين ، إن غاب أحدهما غاب السرد برمته، وبالتالي لن تكن هناك رواية. هي عتبة مهمة جعلت الساردة تتنازل بعض الشيء عن وظيفتها المركزية فأدخلت معها عنصرا آخر يساهم بدرجات متعددة في نسيج الفعل الحكائي كله.
- كما نجد عنصر تواصل ثاني/إستير. شخصية محورية ستشكل العامل الثاني في عملية التواصل، ستظهر بمهمة المرسل إليه وله في نفس الوقت. تسهم في الفعل وتشكل موضوع الفعل. لهذا هي مرسل اليه و مرسله له في نفس الوقت.
هكذا يظهر الخطاب الروائي متنفصلا ببناء دينامي تشاركي تحضر فيه عناصر التواصل الفاعلة بأشكال مختلفة، فتقدم لنا مدخلا مهما يحدد طبيعة التفاعل البنائي المنظم والمنسجم.
مهمه عامل التواصل الأول/، السارد ومهمة عامل التواصل الثاني المسرود له/إستير مهمة تكشف عن لعبة البناء الإقناعي الذي تمارسه الشخصيتان بدرجات حكائية منظمة لفعل إقناع القارئ بفكرة أن ما سيحكى هو واقعي. هذا من جهة، من جهة أخرى تهدف هذه الوظيفة إلى خلق نسيج روائي مبني على الصراع الفكري والايديولوجي بين الشخصيتين في الفعل الروائي ككل لتقدم لنا عملا منظما على الانسجام والصراع في نفس الوقت، موضوعها قضية تهم الإنسان في تاريخ منفلت مبني على الخطأ ونقل فعل الوهم بصيغ متعددة.
مباشرة بعد تقديم المقطع الأول بشكل تناحري بين شخصيتين مهمتين في فعل السرد يطرح الموضوع المحوري أن الرابط بين السارد وبين المسرود له وعنه/ إستير هو رواية عنيفة فكريا وتقنيا تبدأ ملامحها تنجلي من خلال المقطع الثاني الموالي الذي يبتدئ من الصفحة رقم 7.
تقول فيه :(كل شطحاتي وانرياحي عن الواقع..) وينتهي عند الصفحة رقم 11:( هي الحكاية التي أعدت قراءتها إذن.... وتركتها في الخزانة، إلى حين.).

2.jpg

الآليات المعتمدة في عملية التقطيع والتي أهلتنا ان نخصص هذا الحيز المعماري للمقطع الأول سنحددها حسب الإجراءات التالية:
-خصصت عنوانا خاصا لهذا المقطع سمته:انزياحات نحو الخيال.
هنا اعتمدت طريقة تقطيع تقليدية، نجدها في جل الكتابات الروائية التي تشتغل على نفس الخاصية، وهي. ماتسمى بالتوقف اعتمادا على تقنية الفصول التي تمكن من الانتقال من جزء إلى آخر، وهذه الإمكانية نجدها في رواية حميد بركي (كراسي فارغة)، كما نجدها عند روائيين آخرين لكن بطريقة أخرى، تقريبا تعتمد نفس الخاصية، منها رواية فاطمة المعيزي(ماتبقى من ذاكرة الرماد) التي تنتقل من مقطع إلى آخر باعتماد ورود صغيرة كرمز أيقوني توضح من خلاله للقارئ الانتقال من حكاية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، كما نجدها عند حسن الكامح في روايته(ليتني لازلت منسيا) التي اعتمد فيها تقنية المقاطع الشعرية التي تحدد شكلا خاصا بها للانتقال من حكاية إلى أخرى. إذن تقنية التوقف والانتقال من مقطع إلى آخر هي تقنية تتنوع وفي تنوعها تسهم في تبرير الانتقال والتوقف السردي والتحول الحكائي. والحال مع المبدعة بديعة الراضي التي اشتغلت على خاصية الفصل المسمى بعنوان محدد ومحول لكل فصول الرواية.
-إلى جانب تقنية التقطيع بالفصول اشتغلت بديعة على خاصية الموضوع كمحدد للانتقال من مقطع إلى آخر، لهذا وجدتها في هذا المقطع تتكلم عن حال الساردة بشكل عام، هو حال متسم بالقلق و الارتباك، حال جعلها في وضعية قد نقول عنها ما سماه فلاديمير بروب ان الشخصية الساردة توجد في وضعية الشعور بالنقصetat de manque ، لذلك ستحاول تجاوز هذالشعور لتنتقل إلى وضعية أخرى تقيض تشكل حلمها، سماها وضعية تجاوز الشعور بالنقص liquidation le manque, هذا الحال تحيل عليه ماقالت عنه الساردة منذ استهلال خطابها قائلة:
_ص7 (كل شطحات وانرياحي عن الواقع لم تشبع رغباتي في محو الصور الأليمة..).
وضعية الساردة في مستهل الحكي تحدد طبيعة هذه الكائن التي ستحكي لنا سردا متسما بطابع محدد نفسيا، قالت عنه:
:انهض أبها الضمير، لا الشمس ستشرق، ولا القمر سيضيئ الجوار، وحدها البندقية موجهة صوب مقدمة الرأس وخلفه..) ص7.
هكذا سيظهر الموضوع متسما بروائح الاغتراب ومشاعر القلق اتجاه حال قادم، اختارت له الرواية مجالا مليئا بمقومات البحث عن مكامن الضعف وأسباب التدني والسقوط.
هذا الاختيار المعنوي سيشكل مقومات قوية مؤهلة بأن يجعل من هذا الخطاب متمظهرا في صفحات محددة ستبتدئ من الصفحة 7وتنتهي عند الصفحة 11. هي إجراءات علمية مقنعة بأن تجعل منه مقطعا تاما ومستقلا بذاته ،، محتوياته تتحدد باحترام كل مقومات الحكي.
قلنا مقطع دلالي لأنه مميز بكل الخصائص التي تجعل منه مستقلا بذاته، فيه كل الخصائص السردية، بكل شخوصها وأحداثها وزمنها ، لتجعل منه دالا بشكل كامل، منسجما مع باقي المقاطع و مستقبلا عنها مرة اخرى، اي يتحدد بكونه يكون قادرا ان ينعزل عن باقي مقاطع الرواية، وفي نفس الوقت له من الامكانيات ما تجعل منه نصا يمكنه ان يندمج في باقي المقاطع ليشكل النص المتكامل. وظيفة المقطع تتجلى في إمكانية تقطيع النص للتحكم فيه، كما يمكن من خلال التقطيع التمكن من كل العوامل الفاعلة وضبط الممثلين الذين يؤدون أدوارا تيماتيكية متنوعة على مستوى السوسي_ ثقافي، كما يسهم في المعرفة والتمييز بين عوامل التواصل وعوامل السرد. لهذا جاء هذا المقطع حاملا كل هذه السمات التي سنوضحها في التحليل التالي، باعتماد تقنيات وآليات اشتغال علم السرد الحديث، طبعا باعتماد، كلما تأهلنا لذلك، بتوضيف ماتوصلت إليه علم السميوطيقا الحديثة من نتائج تساعد وتسهم في فهم والتحكم في النص السردي من كل جوانبه، كما سنشتغل على تقنيات أخرى وظغتها البويطيقا الحديثة مع روادها المتميزين، منهم جيرار جينيت وتيزفيطان تودوروف، طبعا في حدود الممكن،. تجنبا الاطناب والتعميم، حتى لا نثقل ذهن القارئ بقراءة خشبية إطنابية إسقاطية، تقل ما لم يقله النص أو الرواية.
في منطلق الرواية نجد الساردة هي الشخصية المحورية في هذا المقطع، ركزت على الذات كثيرا، تحضر بقوة في كل جملة، السبب من وراء ذلك هو طبيعة الموضوع بعنفه الذي جعل الساردة لم تتنازل عن بعض وظائفها السردية لشخصيات أخرى، لأن قوة الموضوع وعنف الحكاية جعلت من محور هذا المقطع قويا على مستوى العبارات، لهذا حضر الزمن مبهما كما تقول 🙁 ذلك اليوم)، المكان هو الجبل /هو البحر الميت/ هو الواقع.. تتفاعل كلها لتؤسس ملامح الحكاية في هذا المقطع، الذي يتحكم فيها خطاب موجه إلى الضمير البشري موضوع الحكاية:
-البندقية.
-الآلم.
-الضمير.
_ أما الزمن جاء مجردا ومفتوحا: (ذلك اليوم) .
الشخصيات المحورية في هذا المقطع هي :
- الأنا الساردة: تنجلي صفاتهاعلى الشكل التالي :
-صامتة رغم أنها تحكي لنا، والصمت دلالة على الاحتجاج والتمرد والرفض.
-الاستسلام للنوم : علامة تحيل على التعب.
نوم ليس بعميق: دلالة على الحذر.
جليسي: شخصية تتبع أثر الساردة: دورها هو المراقبة.
شخصية تبحث في كل الانجاهات: علامة على التيه.
شخصية تظهر بمحدد أساسه الاعتقاد: يؤسس معنى بمقوم عمقه الحقيقة المجهولة.
تظهر شخصية إستير بملامح دالة : هي شخصية عجوز: إحالة على الضعف.
محاور وشكل بناء المعنى وتمفصلها يتحكم فيها زمن حاضر بكل مقوماته:
_(الزمن الذي أفقدنا قدرتنا على المشي في النور وأدخلنا في المنعطف المظلم). ص 9.
تتحول الذات الساردة من الكائن المفرد إلى الموضوع المتعدد والجماعي العام/نا.، وهي إشارة إلى هوية واقع وشعوب محددة المواصفات، بملاحم تتجلى في الانتقال من النور إلى الظلام، لتصبح خاصية المساءلة خاصية محورية لازمة في تاريخ مازال في طور التجلي والبيان، لتخرج من دائرة الزمن المعمم:( ذلك اليوم) ، إلى الزمن المعرف هو ماستأتي المقاطع الأخرى لتزيد من الكشف عنه وتعريته بشكل أكثر وضوحا.
حال الواقع الذي تكلمت عنه الساردة المتسم بالغرابة، محددا الشطحات بانزياحات لا تشبع رغبات الذات المتكلمة المتأملة والمتألمة في نفس الوقت ، تبعدها عن رغباتها وأحلامها مسافات مفروضة مصنوعة سنتكلم عنها لاحقا، ليصبح الموضوع حسب هذا المعطى محددا حسب الخطاطة التالية:
الشخصية الساردة بصفتها عامل ذات في علاقتها بموضوع قيمتها توجد في حال انفصام على الشكل التالي:
عا. ذات (الساردة).... حالمة.بواقع جميل. موضوع قيمتها: الألم في واقع لم يشبع رغباتها.
هكذا يصيح موضوع المقطع الأول متسما على الشكل التالي:
كم انت سجان ايها الزمن الرديء.. ص، 9.
كلما تعمقنا في هذا المقطع إلا ويزداد موضوع الذات أكثر بيانا ووضوحا، تقول في نفس الصفحة:
من أسقط المزهرية: رمز البهاء والجمال. الأمل. الضياء والنور. الورد. الحياة.
تتساؤل:
_هل هي الرياح العاتية: القدر.
ام هي: النوافذ المفتوحة عن آخرها للغرباء:سبب التسيب. غياب المسؤولية. التهور. البلادة. الطيش. اللهو. غياب القدرة على حماية الوطن. الذات المريضة الغارقة في سباتها. في السذاجة. في البلادة.
أسئلة تكشف عن عمق الجرح و مكامن الألم وموطن الضعف المكسو بالسذاجة التي تستدعي المحاسبة والمكاشفة والنقد.
إنها حكاية قرون طويلة كما تقول الساردة وفكر بدائي فطري تحدد طبيعة الكائن البشري السالب والمسلوب في تاريخ لا يرحم. تكشف وتتكلم وتعري عن ماهية الفكر المبني على خاصية فلسفة الملكية والفردانية والاسلوب المادي الماكر، التي تجعل من مذاهب البشرية الميال إلى الاختلاف والتميز والفردانية التي تهدف جميعها إلى الاستحواذ والانتزاع. فتضعنا أمام أسئلة صيانة الذات المفردة والفردانية المغلقة، على أساس تحديد إطار الانفتاح و الانغلاق اللذان يقودان إلى العبودية والتملك.
مقطع يحدد موضوع الانزياحات بكل أشكالها الذاتية عند الشخصية الساردة و المسرود عنها ولها، اللواتي تحدد طبيعة الفكرة المبنية على اساس التداعيات المقبلة بكل انعكاساتها التي تتكلم عن ماهية القناعة في كون أساسه الافتقاد، التي تدخلنا، بصيغتها في عالم التحكم، في عمق الملكية بكل أشكالها.:الارض.التراب.الأشياء،الصغيرة والكبيرة، سواء المعتنى بها أو المهملة في قصص شكلت حكايات سال مدادها ولم يجف بعد. لتتحول القصة برمتها إلى موضوع عمقه فلسفة النسيان والتخلي.
كل هذه المقومات شكلت ملامح مقطع ظهر حارقا وعتيفا بمقومات مركبة ومتحولة تحاول الساردة ان تدخلها في تيه المقاطع الأخرى بصيغ مغايرة وأشكال متنوعة . ذاك ما سنراه في مواكبتنا القادمة لباقي تمفصلات مقاطع رواية(بيني بين إستير) للروائية بديعة الراضي.
-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى