سعيد گنيش - "وعد إلهي" أم وعد استعماري استيطاني.. 5/5

1- وعد إلهي أم وعد استعماري استيطاني
القسم [1]

وعد استعماري تمت صباغته باسم "وعد إلهي" يعد أكبر سرقة لوطن في التاريخ المعاصر، وتأسيس مشروع كيان صهيوني استيطاني على أرض فلسطين العربية وتشريد شعبها واحلال مستوطنين من شتى القوميات في العالم مكانه، بدعم الاستعمار الغربي وتواطؤ أنظمة الحكم الرجعية العربية. بدأ بحماية ودعم مباشر بريطاني فرنسي تم أخدت مكانهما أمريكا مع كل الغرب بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956.
هناك من لا زال يدعي إلى اليوم، أن لليهود الصهاينة حق تاريخي في فلسطين بناء على و"عد إلهي"، يعني أن الرب اصطفاهم من بين سكان الأرض "كشعب مختار" ليستوطنوا وطنا على حساب شعب فلسطين العربي الذي ظل مرتبطا بأرضه بدون انقطاع، وتم سرقة أرضه وتشريده.
هذه الخرافة تعد من ركائز التحالف الصهيو أمريكي الغربي وبالطبع العرب الصهاينة ذيول الامريكان، كخلفية لإعطاء شرعية مزيفة رغم كونها تتناقض مع التاريخ البشري. وصار ينتعلها أيضا اليسار الغربي والبعض من الشيوعي والترو تسكي وحتى الفلسطيني المنبطح والخائن، والحداثي وما بعد الحداثي... إلخ، باسم "الواقعية" السياسية.
التذكير بهذه الحقائق اليوم هو سببه ما يحاك من مؤامرات ضد القضية الفلسطينية، بعد الانتصار التاريخي للمقاومة الم س ل ح ة يوم السابع من أكتوبر/ طوفان الأقصى. فخارج نطاق جغرافيا ومجازر الابادة في غزة والضفة الغربية الصهيو أمريكية؛ وبالتوازي معها، تجري حرب سياسية شرسة في أكثر من ساحة (العربي ، الأوربي، الأمريكي) عنوانه التسوية وحل الدولتين المزعوم مع كيان صهيوأمريكي اجرامي.
حل الدولتين المزعوم هو أولا، التفكيك والالتفاف على الموقف العالمي للشعوب عبر العالم المتجسد في الايمان المتصاعد بعدالة القضية الفلسطينية بماهي قضية تحرر ومقاومة الاحتلال، وعودة اللاجئين وتقرير مصير وإقامة دولة فلسطين العربية، وانفتاح العقول على طبيعة الكيان وسرديته المزيفة وجرائمه وضرورة أن تتوقف مجازر الإبادة الصهيو أمريكية فورا وطرده من المنتظم الدولي وحصاره. وهو انجاز حصري للمقاومة وتضحيات الشعب الفلسطيني، يراد اختطافه وسرقته. فقد رأينا كيف عاد الأمريكي والأوربي وذيولهما العربية إلى طرح مخطط التسوية تحت الهيمنة الأمريكية من جديد. فقبل السابع من أكتوبر كانت الاحتفالات جارية في المنطقة لتدشين مرحلة الصهينة الشاملة والمشاريع الاقتصادية والحديث عن البزنس والأرباح بين العرب الصهاينة والكيان الغاصب بإشراف أمريكي، يقود إلى التشطيب على الصراع العربي الصهيوني وفي القلب منه فلسطين المحتلة، تماما لمصلحة هيمنته في الوطن العربي.فأمريكا تريد تأبيد وجودها وهيمنتها على الوطن العربي كمنطقة تدر الثروات وتتحكم في مفاصل التجارة العالمية وموارد الطاقة وغيرها، في صراعها مع خصومها.

***

2- وعد إلهي أم وعد استعماري استيطاني
القسم 2

حل الدولتين تانيا، قبل أن يتحول لقرار أممي رقم 242 بعد هزيمة يونيو 1967، سبقه قرار تقسيم فلسطين – قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947-والاعتراف بالكيان في 1948. وكلهم يستندون على التسليم بالوعد الخرافي "الشعب المختار" ووجود "قومية يهودية" تتصارع ضد قومية عربية في فلسطين على أراضي متنازع عليها.
وللعار فإن الاتحاد السوفياتي قام بدعم هذا الاختيار واعترف بالكيان الغاصب رغم وضوح المشروع الاستعماري في غاياته ومخططاته في إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين خدمة للمصالح الاقتصادية للدول الامبريالية التي تعتبر عدوا وجوديا للاتحاد السوفياتي؛ وذلك في تناقض صارخ مع مبادئ الأممية الشيوعية التي أكدّت دوماً على دعمها لكفاح الشعوب المستعمَرة من أجل التحرير والاستقلال، ناهيك عن أنه ينافي القيم الأخلاقية من حيث أنه يدعو لإنشاء “وطن قومي” لليهود على حساب الشعب الفلسطيني. لقد كان لهذا الموقف تداعيات جسيمة على مصلحة الشعب الفلسطيني والأمة العربية استمرت لمرحلة كاملة، بمعنى أن الحق الفلسطيني العربي تم الدوس عليه من طرف ما يسمى بالمنتظم الدولي. إن موقف الاتحاد السوفياتي آنذاك لا يعفي الأحزاب الشيوعية العربية والعمالية من المسؤولية، فقد ظلت أغلبيتها ذيلية لهذا الموقف، رغم تناقضه مع مصالح شعوبها.
هكذا تحول الوعد الخرافي إلى ما يسمى اليوم قرارات الشرعية الدولية، التي لا تعني إطلاقا انها قرارات عادلة ومنصفة، وتعبر فقط على موازين قوى، وتتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بمبدأ حق تقرير مصير الشعوب. والشعب الفلسطيني تم استثناءه إلى اليوم من هذا الحق، وهو حق أصيل غير قابل للتصرف.
بعد نشوء منظمة التحرير الفلسطينية على أساس ميثاق التحرير في بداية الستينات من القرن الماضي، بدأت مرحلة جديدة من الصراع العربي ضد المشروع الصهيو أمريكي الغربي؛ ضمن مرحلة المد التحرري لشعوب الجنوب (أفريقيا، آسيا، أمريكا الجنوبية) وخوض المقاومة الم س ل ح ة الشعبية لنيل استقلال جدري، واستشراف آفاق جديدة في التنمية وفك الارتباط من التبعية للأسواق الامبريالية الغربية، سواء من خلال تجارب البناء الاشتراكي أو في إطار عدم الانحياز الايجابي.

***

3- وعد إلهي أم وعد استعماري استيطاني
القسم الثالث

المد التحرري لشعوب الجنوب بدأت طلائعه في بداية الخمسينات من القرن الماضي، لكن رياحه على الشعوب العربية كانت ضعيفة ومتعثرة في غياب قوى ثورية وتشرذم حركات التحرر العربية و دور قوى الثورة المضادة المتصاعد. هذا إذا استثنينا الثورة في مصر والجزائر وجنوب اليمن. بل سرعان ما انقضت الامبريالية الغربية بزعامة أمريكا بواسطة قاعدتها المتقدمة، (الكيان الصهيوني) والموثوقة فيها، بالعدوان على مصر وسوريا في يونيو 1967. وتؤكد الوثائق والوقائع التاريخية أن أمريكا كانت تخطط منذ منتصف الستينات لضرب رأس مصر الناصرية وإذلالها في المنطقة العربية، ومحو آثار الانتصار على العدوان في حرب السويس 1956، وفتح الطريق للتوسع أمام الكيان الصهيوني؛ وذلك لتوطيد هيمنتها على المنطقة وتعويض خسائرها السياسية والعسكرية في جنوب شرق آسيا، وأيضا بدور تحريضي ودعم سعودي مكشوف كزعيمة لقوى الثورة المضادة العربية. من أجل احتلال أراضي مصرية وسورية حتى يتوقف المد القومي الوحدوي الذي كانت تقوده الناصرية، وانسحاب الجيش المصري من اليمن من حربه الداعمة للشعب اليمني ضد نظام الإمامة التي تدعمه السعودية.
لقد سبق تأكيدي في بداية هذا المقال عن دور الأنظمة العربية الرجعية في دورها الثابت مع الغرب الاستعماري فيما يتعلق بنشأة وتوسع الكيان الصهيوني في جميع مراحل تطور الصراع العربي الصهيو -أمريكي. فوعد بلفور الإنجليزي لسنة 2017 مثلا، كان قد سبقه وعد عربي من طرف الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1916، في رسالة بخط يده يتعهد لداعمته بريطانيا بأن الصهاينة اليهود لهم الحق في وطن على أرض فلسطين (وردت الرسالة مصورة في كتاب الشهيد العروبي ناصر السعيد في كتابه "تاريخ آل سعود"). وتمثل هذه الأنظمة الضلع الثالث لحلف الأعداء، وهو ما يعطي للصراع بعده الطبقي والقومي التحرري والوحدوي.
إن معظم الوقائع التي غيرت الوطن العربي حدثت وتمت بمشيئة القوى الاستعمارية الغربية وتدخلها العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، على الأقل لمدة 200 سنة الأخيرة. فقد توالى إنشاء الكيانات السياسية العربية من خمس أو سبعة أقطار في بداية القرن العشرين إلى 22 قطرا وكيانا وفق مصالح القوى الاستعمارية الاستراتيجية (يتجاوز التقسيم الذي خضع له الوطن العربي في فترة الاستعمار العثماني الذي قام على تقسيم إداري، نظام الولايات والأقضية) أغلبها أصبح مرتبط الوجود بحبل الصرة السري مع وجود الكيان الصهيوني وتوسعه. لذلك يمكن القول، أن أغلبيتها تخضع مباشرة لحماية الاستعمار الإنجليزي والفرنسي تم الأمريكي. وترأس أنظمتها طبقات كمبرادورية وريعية. ظلت تستند على هذه الحماية في بقائها في الحكم، و تمسك بأعناق شعوبها ولا تترك لها أية فرصة في التحرر والديمقراطية والتنمية والوحدة. وتعتبر معادية لأي تقارب يخدم مصالح الشعوب العربية، مصلحتها تقوم على تكريس سلطة القطرية المرتبطة بالعمالة للغرب الامبريالي والكيان الصهيوني.
هذا هو الوضع العربي والنظام الرسمي الذي يحكمه ويهيمن عليه، وهو الوضع الذي وجدته الثور الفلسطينية أمامها عندما انطلقت مباشرة بعد العدوان الذي قاد إلى هزيمة 1967.

(يتبع)

***

4- وعد إلهي أم وعد استعماري استيطاني
القسم الرابع

أول مواجهة للثورة بعد هزيمة 1967، حدثت في الأردن حيث أصبحت الضفة الشرقية لنهر الأردن، مركز وقاعدة العمل السياسي والعسكري الوطني الفلسطيني المتجدد والموجه لداخل الأرض المحتلة في غزة والضفة الغربية والمحتل في 48؛ وذلك لحماية ظهر الثورة ولإعطاء بعدا قوميا عربيا في الصراع مع العدو.
كما أن النظام الأردني الذي كان مسيطرا على الضفة الغربية قبل الهزيمة، سبق وقام بتوجيه ضربة قاسية للأحزاب الوطنية والتقدمية المتواجدة بها في أبريل 1966. وعندما احتلت قوات الكيان الضفة الغربية وجدت الساحة قد تم تشطيبها من قوى المقاومة (راجع كتاب "الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين" للدكتور عبد القادر ياسين ص 425 مركز دراسات الوحدة العربية – لبنان).
تواجد العمل الفدائي المسلح في الأردن رغم أنها منطقة غير آمنة، لم يقد في البداية إلى المواجهة مع النظام لأن هذا الأخير كان يعيش آثار الهزيمة والخوف من اقتلاعه، كما أن الجماهير الشعبية كانت ملتفة حول المقاومة، خاصة مع معركة الكرامة التي تصدت فيها المقاومة (بمشاركة جنود وضباط من الجيش الأردني) لعدوان قوات الاحتلال بعد اقتحامها للضفة الشرقية بداية 21/03/1968. وقد حققت المقاومة انتصارا مفاجئا أذهل حلف الأعداء، وأدى إلى استرجاع الجماهير العربية بعضا من كرامتها الجريحة في هزيمة 1967. وفي نفس الوقت كانت جبهة أخرى مشتعلة ضد الكيان من طرف الجيش المصري على طول القناة التي عرفت بحرب الاستنزاف لإعادة بناء ما دمره العدوان والاستعداد لحرب التحرير.
لكن بعد معركة الكرامة بدأت المواجهة تستعر بين المقاومة والنظام الأردني، ظاهرها الخلاف حول تنظيم الأمن والسلاح والعمل الفدائي بالمخيمات وبالعاصمة وكبرى المدن؛ لكن باطنها هو محاولة النظام الملكي إلحاق المقاومة بحساباته السياسية، قبل الانتقال إلى التهديد المباشر؛ وذلك بتحريض وضغط صهيو أمريكي مباشر وتواطؤ عربي رجعي. لقد تزايد هذا الضغط مع كل ارتفاع وتوسع لعمليات المقاومة في الأراضي المحتلة، وانتقل العمل إلى تصفية المقاومة تماما من الأردن من خلال مجازر أيلول الأسود سنة 1970. بعد موت جمال عبد الناصر كانت المقاومة الفلسطينية في الأردن قد فقدت أهم حليف لها في المنطقة العربية.
من أهم دروس هذه المواجهة مع نظام عربي عميل هو فشل فصائل المقاومة في تحقيق الوحدة الوطنية وتبديد قوتها في صراعات اعتبرت غير متبصرة وفي بيئة تعد معادية. وقد استغلت السلطة الأردنية هذه الصراعات، لتحرض على ما سمته "المقاومة الشريفة" و"الغير شريفة أو العقائدية" بهدف تلغيمها من الداخل. وهو ما مهد لمرحلة حرب الاستنزاف ضد المقاومة ومحاصرتها وتقليص حجمها تم اقتلاعها. (للمزيد من التفاصيل، راجع هيثم الأيوبي" عشرة أعوام من عمر الكفاح المسلح الفلسطيني «شؤون فلسطينية، العدد 41 و42 يناير/فبراير 1975 ص237-255).
كما أن المقاومة الفلسطينية عجزت عن بناء تحالف مع القوى الوطنية والتقدمية الأردنية وتعزيز هذا التحالف بتحديد وظائف ومهام كل واحد أثناء المواجهة مع النظام الأردني.
المواجهة الثانية للثورة الفلسطينية انعقدت في لبنان، فقد اتخذ وجود المقاومة في لبنان مسارا مختلفا عن الأردن. لا يمكن القول بأن لبنان آنذاك يعتبر بيئة شبه آمنة. فبلد عربي يحكمه نظام طائفي أرصاه الاستعمار الفرنسي يظل نظاما تبعي وعميل للغرب. لقد حدد وظيفته كملتقى للسياحة الخليجية وممر تجاري للبضائع، ومصرف بنكي وشركات للتأمين ووكرا لشبكات التجسس العالمي.
بعد أن انتقل مركز العمل الفدائي الفلسطيني إلى لبنان في1971، وأصبحت المنطقة العربية تواجه وضع أفول المد التحرري القومي بعد سرقة منجزات حرب أكتوبر 1973 وسقوط الناصرية. بدأت الأوهام تعقد على إمكانية تسوية الصراع مع العدو الصهيوني تحث مظلة أمريكا بعد حرب أكتوبر. فقد تبني المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالقاهرة سنة 1974 برنامج العشر نقاط، وتخليه عن ميثاق الثورة التحرري. ويمكن أيضا القول أن المرحلة كانت تعبيرا عن بداية صعود زعامة السعودية للنظام العربي الرسمي لمصلحة أمريكا.
سرعان ما انفجرت الأوضاع السياسية والأمنية في وجه المقاومة، بين القوى الانعزالية اللبنانية حليفة الصهيونية والرجعية العربية وبين القوى الوطنية اللبنانية حليفة المقاومة الفلسطينية. اندلعت الحرب الأهلية في لبنان ابتداء من 1975 لتستمر إلى بداية التسعينات، وكان الهدف هو اقتلاع المقاومة بعد استنزافها في حروب الدفاع عن المخيمات الفلسطينية. وهو ما تم بعد غزو لبنان من طرف الكيان وحصار بيروت، حتى خروج المقاومة وقياداتها السياسية والعسكرية ومقاتليها من لبنان صيف 1982 وارتكاب العدو الصهيوني والانعزاليين الفاشيست مجازر صبرا وشتيلا.
فقدت المقاومة الفلسطينية على التوالي أهم مركزين لإسناد ظهرها في العمل الفدائي داخل فلسطين المحتلة في الأردن ولبنان، وفقدت تواجدها بين جماهير المخيمات كحاضنة وسواعد مناضلة. وأصبحت الثورة مثل طائر في مهب الريح فاقدة للبوصلة، خاصة بعد هزيمة المشروع القومي التحرري وتغول قوى الثورة المضادة على امتداد الوطن العربي.
توال التخبط السياسي في صفوف حركة المقاومة بعد الخروج من لبنان وتفاقمت أزمة العمل الوطني الموحد بين الفصائل بعد تبني القيادة المتنفذة في م.ت.ف. مشاريع التسوية وحل الدولتين المزعوم بدل طريق التحرير. ولعب التمويل الخليجي المتدفق على المقاومة دورا كبيرا في إفساد قيادات م.ت.ف. وشراء الولاءات والمثقفين والإعلاميين لتسويغ مشاريع التسوية/ التصفية. إنها مرحلة سوداء في تاريخ المقاومة، لم تسلم منها انفجار الانتفاضة الأولى في 1987، التي أشرت على انتقال مركز المقاومة إلى داخل الأرض المحتلة وسط حاضنتها الشعبية الفلسطينية.

***

5- وعد إلهي أم وعد استعماري استيطاني
القسم الخامس والأخير


مرحلة التيه أو فقدان البوصلة في تاريخ المقاومة الفلسطينية ممثلة في م.ت.ف. كما قلت، انطلقت من الاقتلاع من لبنان صيف 1982 وقادت إلى سقوط المنظمة في وهم حل التسوية الأمريكي بمختلف تسمياته (مؤتمر جنيف الدولي، خيار الفدرالية مع الأردن، الأرض مقابل السلام في مؤتمر مدريد، اتفاق أوسلو. إلخ ) والابتعاد المتزايد عن خيار التحرير. الأمر الذي أحدث انشقاقا في صف المقاومة وانعكس على الساحة داخل الأرض المحتلة بعد أن تصاعدت داخلها المقاومة الشعبية، خصوصا بعد العدوان الاجرامي على المخيمات ومحاصرتها من طرف حركة أمل في لبنان 1985. ويمكن القول أن القيادة المتنفذة في المنظمة أصبحت تتماهى وتتفاعل مع سياسات ومواقف النظام العربي الرسمي الذي تقوده السعودية.
شكل حصار و غزو واحتلال العراق (1991/2003) بداية تحول النظام العربي الرسمي إلى أداة للعدوان الأمريكي وتدخل عسكري مباشر في بلدان عربية ذات توجه قومي نيابة عنها وخدمة لمصالحها، في ليبيا وسوريا واليمن؛ وبذلك تدق الأنظمة الرجعية العربية آخر مسمار في نعش ما سمي "التضامن العربي الرسمي" كشعار طالما دوخت وتلاعبت به لتخدير وعي الشعوب والإبقاء على تبعيتها. فهل يمكن الاستغراب اليوم من تجمع 57 دولة عربية وإسلامية ومجازر الإبادة الجماعية في غزة تنقل على الهواء مباشرة بلا أي تحرك ولو ديبلوماسي.
لعل أكبر عدوان تعرضت له القضية الفلسطينية من طرف الأنظمة العربية في هذه المرحلة قبل السابع من أكتوبر العظيم، هو موجة الصهينة / التطبيع ( ، وهو أشد إيلاما وخطرا مما تعرضت له المقاومة في الأردن 1970 ، واتفاق الخيانة مع مصر/ السادات في كامب دايفيد، و اقتلاع المقاومة من لبنان 1982 ،وحصار وقتل ابناء المخيمات من أجل اقتلاعها في لبنان 1985. إن التطبيع هو وأد كامل لقضية فلسطين وإدماج للكيان في الوطن العربي كقوة مهيمنة. وقد انطلقت هذه الموجة مع تطبيع منظمة التحرير/ السلطة في أوسلو مع العدو، حيث أضحت جسرا لتبرير خيانة الأنظمة ؛ وبلغت أوجها مع الخريف العربي المسمى غربيا بالربيع تحت راية تصدير "الديمقراطية" . وكانت إعادة تفكيك الوطن العربي على أسس عرقية وطائفية هي أرضية العدوان الأطلنطي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوة انتصار أمريكا. فالقاعدة الاستعمارية منذ القدم هي تفكيك الأوطان من أجل إنجاح وتأبيد السيطرة.
نجح ثلاثي العدوان إلى حد بعيد في تفكيك الوطن العربي وكان ما أرادوه من فك فلسطين عن عمقها وظهيرها الشعوب العربية، وهذا الأمر لهه بدايته السياسية من مؤتمر القمة في الرباط بالاعتراف بالمنظمة ممثلا للشعب الفلسطيني في 1974، ترجمة لمقولة القرآن الكريم: " اذهب وربك وقاتلا... إن هنا لقاعدون". ولم يكن الاعتراف بالمنظمة يعني حقيقة استقلال القرار الفلسطيني بعد أن تم اختراق منظمة التحرير عن طريق المال الخليجي بتخطيط أمريكي واحتواء قياداتها المتنفذة.
وإذا كان التحليل التاريخي يدور هنا عن دور الأنظمة العربية المتصهينة، فلا يمكن أن نتغاضى عن التضليل الذي قامت به أحزاب وتجمعات يسارية متأمركة وقوى الدين السياسي، وأشباه مثقفين واعلاميين عرب في نشر التضليل وتسويغه، بأن العدوان على الشعب الفلسطيني هو فقط من طرف الكيان الغاصب وليس من طرف أمريكا والحلف الأطلنطي وذيوله العربية في المنطقة. ولا زال هذا الدور التضليلي مستمرا حتى بعد موجة تطبيع الصهاينة العرب الرسمي وإلى ما بعد يوم سبعة أكتوبر 2023. وهذا التضليل المستمر يساعد عن عدم تحرر الوعي الشعبي وتبعيته للأنظمة، وتحجيم دور الشعوب في الصراع، والحكم عليها بدور المتفرج المتباكي، وكأن قدر الشعب الفلسطيني أن يظل وحده حاملا الصخرة والمواجهة بصمود.
الدور التضليلي للوسائط من أحزاب ومثقفين وإعلاميين المحسوبين على المعارضة المتأمركة، يدفع بنا إلى الوقوف على الوضعية في بلدنا بعد طوفان الأقصى يوم 07 أكتوبر، وطرح الأسئلة الحارقة الضرورية كمدخل إلى تقييم عمل الجبهة التي مركزت العمل في الساحات لدعم مقاومة الشعب الفلسطيني ومناهضة التطبيع واسقاطه.
أولا : تشكلت الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع مباشرة بعد توقيع النظام المغربي رسميا على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني بتاريخ 22/11/2020. وظلت الجبهة تحمل كل مسببات العجز والانقسام الفئوي والعمل النخبوي الفوقي الموروثة، وهي تسعى كإطار للتنسيق من أجل تنظيم وتأطير الاحتجاجات والمسيرات الشعبية بالمدن. وهي أسباب بنيوية عند أغلب مكوناتها تحكم على العمل الجبهوي بالعجز في خلق امتداد شعبي، حيث هي في واقع الحال تجميع لقصب مجوف. دون استفادة من دروس تجربة "الجبهة الاجتماعية"، بعد اندثارها، وذلك في عز الحراك الاجتماعي لرجال ونساء التعليم.
تانيا: هذا الوضع الذاتي لأغلب مكونات الجبهة يحول دون الاضطلاع ببلورة برنامج للتحالف يدمج السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي في تصور موحد للصراع، من أجل استنهاض الطبقات الشعبية وتنظيم مواجهتها لمخطط الصهينة واجتثاثه. هذا بالرغم من التحول الذي تم التعبير عنه من خلال المشاركة الشعبية الواسعة في المسيرات ضد العدوان على غزة وانهاء التطبيع وتجريمه، والذي لم يتم تأطيره وترسيخه. إلى نضال يومي يكون مدخله المقاطعة الاقتصادية الشعبية لمصالح العدو ورموزها التجارية.
لماذا التحالف على أساس برنامج وليس تنسيق عمل يقوم على خطوات محددة في مناسبات؟ لأن اتفاقية التطبيع ليست حدثا طارئا بل تعتبر مستوى في تطور العلاقة بين الكيان والنظام المغربي، مرتبط كما أوضحت سابقا بمسلسل الصهينة الجديد بمدخل ديني " اتفاقيات إبراهيم"، تقوده أمريكا في المنطقة. كما أن علاقة النظام بالكيان ممتدة جدورها منذ ما قبل الاستقلال الشكلي. ويعد المخطط شاملا، ويطال الجانب الأمني والعسكري والاقتصادي والثقافي والإعلامي (حتى اليوم أزيد من 30 اتفاقية وقعت، وهو ما يشكل تحالفا من موقع التبعية للكيان الصهيوني). والمستهدف من أجل إنجاحه هو تهشيم الوعي الشعبي وتفكيك ارتباطه المقدس والوجداني بقضية فلسطين المحتلة، وهو السد المنيع الذي ظل عصيا عن الاختراق.
كما أن برنامج الجبهة يقوم على رؤيا واهداف للصراع ومهامه، وفرز للقوى المتحالفة ودينامية لتوسيع دائرة التحالف باعتبار أن الصراع يرتبط بما هو وطني تحرري وقومي مرتبط بحركة التحرر العربي، وأيضا دو طابع اممي يوحدنا بنضال شعوب العالم ضد الاستعمار والعدوان والصهيونية والعنصرية.


سعيد كنيش في 18/01/2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى