إبراهيم مشارة - حنــــين

[SIZE=3]إذا مررت في دروب الحي حي السويقة وانعطفت نحو تلة تقع عليها مقبرة الحي لفت نظرك قبر يقع على حافة الطريق – هو ليس كقبر حرب – فما أكثر القبور المتناثرة هنا وهناك غير أن خصيصتين جعلتاه متميزا عن سائر القبور أولاهما أن شجرة سرو صغيرة نبتت عند قدم صاحب القبر وهي تنمو مجتهدة لأن تكون كبيرة كأشجار المقبرة، وثانيهما لو مررت في الربيع لأدهشتك باقة من زهر النرجس نبتت عند رأسه تعطر الجو من حول القبر، أما شاهد القبر فكتبت عليه آية قرآنية ” فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم”، وقد امحت بعض أحرف هذه الآية بفعل البلل والزمن وحتى أحجار القبر تكاد تندك فلا ترى القبر مستويا بل معوجا.
كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما حين رقد الميت في قبره وكان ذلك في شهر رمضان وقد تعدى الثمانين جاهد الزمن والمرض وعسر الحياة ببسالة وصبر حتى نال منه المرض والزمن وأسلمه إلى وحشة الأجداث تاركا زوجه العجوز مع فتى صغير هو حفيد أخ الراحل، وكان الأخ يعيش في باريس لوحده بلا زوجة وقد نيف على السبعين، أما ابنه الوحيد الذي هو أبي فكان يقيم في المدينة مع أمي وبقية إخوتي يشتغل مفتشا للغة العربية ويزورنا في زمورة كل نهاية أسبوع يعود عمه الذي رحل وزوجه العجوز ويصلي الجمعة في مسجدها ويعود إلى البرج مساء.
تربى أبي في حضن العجوزين إذ لم يكن لهما أولاد فلما كبر أبي واستقل بحياته كنت أنا فتاه الأكبر فأخذني العجوزان وكان عمري ستة أشهر، بحثا لي عن مرضعة وأحاطاني بالحدب والحب حتى اشتد عودي، كنت قرة عينيهما ، دفعا بي الوحشة والملل واستعانا بي على بعض الأعمال الصغيرة.
وأنا اليوم أنظر إلى مربيتي أمي مباركة في إشفاق وحب منقطع النظير وأتأمل كيف نال الهرم منها واحدودب منها الظهر وامتلأ وجهها الطيب غضونا وتجاعيد إذا مشت في أزقة الحي فبمشقة تخبط كأنها ناقة عشواء على الرغم من استعانتها بالعصا وتكاد تكون كفيفة لولا بقية من بصر ولو أنها تتعرف على الناس بمشقة من أصواتهم إلا أن السمع كالبصر أجهده الزمن ونالت منه الأيام فلا يكاد يعمل عمله .
وهي تعيش اليوم في بيت كبير لوحدها كأنه ثكنة مستطيلا امتلأ غرفا إذا دخلته أدركت للتو أن هذا البيت شهد في الماضي عزا وحركة وخيرا كثيرا فالإسطبل شاهد على أنه كان عامرا بالشاء والماعز والبقر والفناء الواسع المفتوح على الهواء تتخلله شجرة الليمون والمشمش والعناب وبعض نباتات كالنعناع والحبق يوحي إليك ذلك أن صاحبته لا تحب العيش إلا في رحاب الطبيعة وفي البيت حجرة كبيرة ولو أن الزمن نال منها إذ يكاد يتهدم سقفها العربي وتنهار أسوارها المطلية بالجبس والطين، كانت تلك الحجرة يضرب فيها المنسج وتحيك صاحبة البيت الأغطية وما تحتاجه من شؤون البيت ولما كنت قارئا للشعر أستحضر للتو قول السياب وأنا أطوف في أرجاء ذلك البيت كلما زرته :
مطفــأة هي النوافـذ الكثــار
وباب جدي موصد وبيتـه انتظـار
وأطرق الباب فمن يجــيب يفتـح
تجيبني الطفولة، الشباب منذ صــار
تجيبني الجرار جف ماؤها فليس تنضح
بويب غـبر أنها تـذرذر الغبــار
على أن أمي مباركة بالرغم من أميتها تدرك قيمة الأشياء تحدثك وهي تطوف بك في أرجاء البيت يوم كانت تقدر على ذلك فتقول لك هذه الكأس ذات اللون الأخضر اشترتها “للا الصغيرة” عام الجوع وهذا المنبه الذي صار عاطلا اشتراه شيخي عام الاستقلال، وهذا الصحن أحضره من الشام يوم كان جنديا في الجيش الفرنسي أيام الحرب وهكذا مع كل شيء من أشياء البيت حتى لتخال نفسك في متحف.
وأهل الحي يكبرونها اليوم ويضمرون لها الوداد ويعطفون عليها مرسلين إليها كل يوم من يقوم على خدمتها- بعد أن ذهبت إلى العمل والعيش في المدينة وقد أبت أن تلحق بي- يطبخون لها الطعام ويصلحون لها فراشها وينظفون لها البيت ويرسلون لها في الليل فتاة تؤنسها وتبيت معها، وهي في النهار تقضي جزءا منه تطوف على بيوت الحي تتحدث إلى هذه أو تسمع من تلك هربا من الوحشة وثقل الصمت وبلادة الجدران.
وما أشق الوحدة عليها حين تتلفت ذات اليمين وذات الشمال فلا ترى نفسها إلا وحيدة كطائر هرم يتيه في فيافي، وربما زاد في وحشة القلب رؤية غيرها من العجائز وقد تحلق بهن الأبناء والأحفاد وأزواج الأبناء يقومون على خدمتهن أو يأتمرون بأمرهن، أما هي فالزمن يمر عليها برتابة وعقارب الساعة شفرات تقطع من القلب نياطه والشمس تسير برتابة كأن على كاهلها جبل الأولمب والأرض تدور متثاقلة كأنها حمار السقي، ولكن الزمن يفعل فعله يزيد في إعطاب الخلايا وفي إتلاف المخ وفي نهب ما تبقى من الصحة والبصر والسمع ولولا مواظبتها على تناول دواء الضغط لهلكت من ارتفاعه .
عاشت مع زوجها بابا الطاهر في ذلك البيت عشرات السنين ولم تشأ قدرة الله أن تنعم عليهما بالذرية وكانت تقول لمن تشكو عقما أو تسألها عن قصتها :
– كل شيء بإرادة الله ، يهب لمن يشاء الذرية ويحرم من يشاء لا دخل لنا في علم وإرادة ربنا . على أن أمي كانت إذا رأت عقوقا من البنين إزاء آبائهم صاحت:
– الحمد لله لم أخرجهم من هنا وتضع يدها على بطنها، أما بابا الطاهر فخصاصة العيش وشظفه أيام الاحتلال دفعته إلى الانتساب إلى الجندية فانخرط في الجيش الفرنسي ورابض في البحر الأبيض وتونس والمغرب ثم الشام والتحق أخوه الوحيد “محمد” جدي بمصانع السيارات في فرنسا، غير أن تدهور صحة بابا الطاهر بفعل البلل والتدخين والمبيت في العراء ألزمت الجيش تسريحه بعد أن انتهى مصدورا وعاد إلى البلدة – يرضى من الغنيمة بالإياب – وبمعاش ضئيل يدفعه الجيش كل ثلاثي لا يسد رمقا ولا يقي من مسغبة،فعمل في حقله على الرغم من مرضه يزرع الغلات ليقيم أود زوجه وأود أبي الذي رباه صغيرا بعد أن طلق أبوه أمه وعاش لوحده في باريس ثم أودي فيما بعد.
وكان يبيع القليل من تلك الغلات استجلابا لنقود يستعين بها على متطلبات الأيام – وما أكثرها ! – وظل ذلك دأبه أربعين عاما يتقي شبح الفقر بالعمل بتفان في الحقل وبحسن تدبير زوجه فيما يتعلق بمعاشه .
وكان أبي “اعمر” قرة عينيهما أحباه وحدبا عليه ودفعاه إلى الكتاب فحفظ القرآن ثم أسلماه إلى فقيه درسه علوم اللغة والدين وأخلص هو في طلب العلم ووفرا له نقودا يشتري بها أمهات الكتب في النحو والفقه والتفسير وطالعها بنهم حتى صار حجة البلدة في الفقه واللغة ثم زوجاه وغادر البلدة مع زوجه معلما في مناطق نائية.
وقد رزق الله أهل ذلك البيت بفعل تفاني صاحبه في عمله ومساعدة أخيه المغترب في فرنسا من حين لآخر فاشترى أنعاما درت لبنا ولحما وأكرم أهل الحي وفتح بيته لمساعدة ذوي الحاجات وإطعام الغرثان وتربى في ذلك البيت يتيمان فتى وفتاة وهما أخوان غير شقيقين لأمي مباركة، فأما الفتاة فتزوجت وأما الفتى فكان مبتور القدم اليسرى، أصيب بورم وكاد هذا الداء أن يفتك بحياته فلم يكن من سبيل لإنقاذ حياته إلا بتر ساقه، على أن الطبيعة التي حرمته من رجله عوضته عن ذلك وسامة في الملمح مع سمرة محببة وعينان كأنهما أفق مغري يستثير الرائي ويأسره، وكان موهوبا يعزف على القيتارة ويطالع الروايات البوليسية ويصنع بمهارة تحف النساء ويحي حفلات الزفاف في الصيف ثم زوجاه هو كذلك واستقل بحياته.
واشتهر أمر البيت كما ذاع صيت كرم أهله فقد كان يؤمه كل ذي حاجة ومسغبة والبهاليل و”دعدونة” واحدة من زوار البيت وكانت فقيرة ترتدي الخرق البالية وفي قدمها خلخال يوحي بأن صاحبته عزيزة قوم ذلت، كانت تعيش لوحدها بهامس من الجنون والخرف مع الاحتفاظ بشيء من روح الاجتماع وكانت تزورنا باستمرار وما إن تراني حتى تصبح علي :
– صباح الخير بيبيش ( القط الصغير ) .
فيذهب عني الخوف إذ تعابثني وتضاحكني ثم تخوض مع أمي في أحاديث على الرغم من بلهها وكانت أمي تطعمها وتكرمها وتحادثها على قدر ما تبقى منها من عقل وقد قضت دعدونة في بيتها محترقة. وكان من رواد البيت “عياشة” عجوز أخرى بيننا وبينها أواصر القربى حكت لي أمي أنها مرضت على النفاس فجنت وهامت على وجهها في الجبال والكهوف تأتي إلى البلدة من حين لآخر فيطعمها بعض الناس وربما باتت في الجامع أو في الزقاق وتزورنا أحيانا وتبيت في بيتنا، وقضت عياشة في فصل الشتاء خرجت إلى الجبل كدأبها فداهمتها عاصفة ثلجية حالت بينها وبين العودة فماتت هناك وأخذت منها الذئاب بنصيب .
أحبتني أمي مباركة كما أحبت أبي قبلي حبا لا نظير له إذ لا أنام إلا بجنبها وتميزت في تربيتها لي بالشدة حينا وباللين حينا آخر ولكنها لم تكن تحرمني من شيء بل وتعطيني نصيبها من اللحم وكنت شقيا شأني شأن صبيان البلدة فيحدث أن أتمرد عن الذهاب إلى العين العمومية لجلب الماء أو إلى الذهاب إلى الكتاب وكان لعب الكرة مع أترابي يستبد بي فأختلق الأكاذيب والحيل في سبيل ذلك ويكون جزائي الضرب الشديد من جهتها والبكاء الصاخب من جهتي ولكنها آخر الأمر ترأف بي إذ تعطني نقودا – لأشتريها سعوطا خفية – أو تقدم لي شيئا من الطعام الذي أشتهيه.
وربما امتدت قسوتها إلى بابا الطاهر أو صاحت في وجهه إذا خالفها رأيا أو احتج على ضربها لي فلا يجد من حيلة إلا الانسحاب والانطواء وربما البكاء المتشنج .
على أنها تميزت في علاقتها به بالمودة له والقيام على شؤونه وحسن رعايته ورعاية صحته وحسن اقتسام العمل حتى غدت مضرب المثل في الحي .
وقد كان بابا الطاهر مثلا حيا للشقاء يستبد به داء الصدر فيطرحه في الفراش أسابيع وربما شهورا وكان الشتاء هو وقت التباريح والأرزاء إذا قام من فراشه استعصى عليه التنفس فتسمع شهيقا شاقا وزفيرا أشق منه وسعالا متواصلا وتمخطا و عيناه تحملقان في سقف البيت ويرفع سبابته متشهدا ولا ينفع الدواء في تخفيف النوبة وكان هذا المشهد يتكرر مرات في اليوم إذ كان يحرص على الوضوء وأداء الصلاة على الرغم من اشتداد المرض عليه و تشتد عليه النوبة فنقول قد دنت القاضية وأهرب أنا إلى فناء البيت مرعوبا مرتجفا وأبتهل إلى الله أن يشفيه داعيا ملحاحا فما كنت أصبر على رؤيته في تلك الحال .
أما إذا صار الجو دافئا واعتدل النهار وخف عليه الداء وآنس من نفسه القدرة على العمل في الحقل خف إلى حقله يزرع الغلات ويتعهدها بالسقي ليلا إذ كان لكل حقل حصة من ماء العين العمومية مقدرة ليلا بوقت معلوم و كم عاد إلينا وفي جبهته كدمة أو في رجله جرح من أثر السقوط .
و كم مرة يبيت في الحقل يحرص غلاته إذا سمع أن لصوص الحقول يدورون حول حقلنا و كانوا يسرقون الغلال ويبيعونها في سوق البلدة وفي ليلة هجم أحدهم على حقلنا حيث يقبع بابا الطاهر حارسا متخفيا و إذ خاف اللص أن يفتضح أمره قذفه بحجر فكسر ساعده و عاد إلينا ذراعه تتدلى و أعولت أمي وانتحبت عند قدميه وكذلك فعلت أنا وهدأ من روعنا ثم قال :
– معوش هو الفاعل تبينت ملامحه تحت ضوء المصباح .
فترد أمي متشنجة .
– يأتي عمر من البرج غدا ثم يذهب مع أبناء عمومته إلى الدرك يشتكيه، لا نسكت على ذلك، طمع في شيخ سرق حقله ثم كسر ساعده حرام .
ثم تعول وتنتحب وتبكي نساء الجيران وقد جئن عائدات لما سمعن بالخبر.
وقد كان شديد التدين سحنته المحمرة وشنبه التركي وعمامته وقندورته البيضاء كلها تدل على وقاره ورزانته بالرغم من قصر قامته وكان يقوم على خدمة جامع بجوار بيتنا ” أبي الأرقط” ويحتفظ بالمفتاح وكانت أمي تفتخر بذلك قائلة لمحدثها :
– أعطانا المفتاح سيدي علي بن الشيخ .
وفي ليلة الجمعة كان بيتنا يتحول إلى مزار تتهافت علينا النساء من كل جهة يسألننا المفتاح والرفقة ، يأتين وفي صحبتهن أبناؤهن للزيارة يشعلن الشموع ويحرقن البخور ويحشين خزينة الجامع بالنقود ويطفن حول مقام “سيدي بلقاسم” و”سيدي مخلوف” سائلات الله متوسلات بصاحبي الضريحين أن يرزق إحداهن ذرية أو يمن على أخرى شفاء أو بعودة الزوج من غربته لواحدة ولا تنسى الأخرى أن تعد صاحبي الضريحين بكساء أخضر إن حقق لها بغيتها !
وكان بابا الطاهر يرى ذلك ولا ينكره بل يراه من دلائل الإيمان ويهيأ الجامع ينظفه ويفرشه إذا جاء موعد زيارة رهط من الناس يأتون كل عام من أقاصي البلدة رجالا ونساء يجمعون مالا ويشترون عجلا، يلفون عنقه بقماش أخضر ويسوقونه إلى بلدتنا يذبحونه ويقيمون بمعية أهل الحي وليمة كبيرة وكان الجامع الذي يقوم بابا الطاهر على خدمته هو آخر محطة لهم في زيارتهم السنوية إلى البلدة، وأمي تؤمن بهم وتنتظر بلهفة موعد زيارتهم وترى فيهم الكرامة والولاية ولا تذكرهم إلا وأعقبت :
– مسلمين وتضم يديها كأنهما مغلولتان !
على أن أحد شيوخ البلدة ممن عرف بصلابته واستماتته في الدفاع عن آرائه يتصدى لهم بمعية شباب قد أرسلوا لحاهم وارتدوا قمصانا بيضاء مانعين إياهم من دخول فناء الجامع فيقول كبيرهم الذي اشتهر بصلابته .
– لن تدخلوا الجامع وعودوا من حيث أتيتم ما تأتونه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وإذا قبلنا بدخولكم بنعالكم ودفكم ورقصكم إلى بيت الله شاركنا في آثامكم فيرد عليه آخر من أولئك الرهط وهو يتمايل تحت ضرب الدف وعزف الناي ( القصبة ) وفي عنقه منديل أخضر اللون .
– سنة آبائنا وآبائكم ونحن نداوم عليها كرامتنا لا غبار عليها، والصبح قد انبلج لكل ذي عين عمياء . فيرد الشيخ وحناجر الشباب تصادق سلفا على ما يقول .
– أنتم فيكم مروق وبعضكم لا يصلي تطأون أرض الجامع بنعالكم، تحبون ازدراد الطعام وجمع المال والرقص والله ما دخلتم إلى الجامع أبدا.
– فيرد الآخر :
ببركة أسيادي لا فلاح لك دنيا وآخرة وقفنا لك في طريق عقبك لا زواج لهم ولا ذرية.
ويفلح الشيخ منتشيا في صدهم بمعية أولئك الشباب، غير أن أولئك الرهط يقيمون جمعهم في بطحاء قرب الجامع ومعهم نساء الحي ورجاله وفتيانه، وكانت أمي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال تحت ضرب الدف وترنم القوم ورقصهم! وفي سنوات عمره الأخيرة استبد الحنين ببابا الطاهر إلى أخيه أنهكه الداء وقعد عن العمل وكان أخوه يماطل ويسوف وهو في غربته في باريس يكتب إليه الرسائل يستعطفه ويتوسل إليه أن يعود ليراه قبل أن يموت ويطلب مني أن أفعل فعله لعل توسلي وكلماتي أنفذ من كلماته ويظل يتقلب على فراش المرض بين مطرقة الداء وسندان الحنين متسليا بالقراءة في “كتابي الأذكار” أو “بدائع الزهور”.
غير أن يوم العيد كان مبعث أحزاننا ومنبجس أشجاننا يتحامل على نفسه ويصر على أداء الصلاة في مسجد الحي وتعاونه أمي في حلق ذقنه وتنضيد شاربه وارتداء ثيابه البيضاء وأسنده في المشي مع بعض الأقارب في الذهاب إلى المسجد فإذا قضيت الصلاة وانتشر المصلون في البيوت يتبادلون التهاني انفجر باكيا متشنجا وهو يجلس على كرسي يتلقى من الجيران والأهل التهاني بالعيد، كان الشوق إلى أخيه يتعاظم في العيد فلا يملك إلا الدمع مدرارا ويشق على الأهل وهم يرونه كذلك.
فما كان أقسى العيد على قلوبنا ينكأ الجراح وتسري فيه الأحزان في النفوس سريان النار في الهشيم ! وقضى بابا الطاهر ذات فجر من رمضان دون أن يرى أخاه اشتد عليه الداء وشق عليه التنفس حتى صار شخيرا حملق في السقف واستقبلت به أمي في شجاعة وبكاء مكتوم قبلة الموت ودعت أحد الجيران، كان يسقيه الماء قدماه بردتا ويبستا والروح تغادر الجسد وربما تمنت لو عرجت على باريس لتعانق الأخ القالي – وهيهات لها اليوم أشغال – إنها كالشذا لا تطلب إلا الآفاق العالية رفرفت كحمامة بيضاء وطارت إلى حيث لا أوبة ، أما النظرات فقد جمدت شيعت الروح وعجزت عن اقتفاء أثرها.
أغمض العينين الجار وقال إنا لله وإنا إليه راجعون.
مات بابا الطاهر ودفن حيث قبره الذي حدثتك عنه أول الأمر عند رأسه يزهر النرجس في الربيع وعند قدميه شجرة السرو تنمو في ثقة مجتهدة يتفيأ الراقد في قبره ظلالها.[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى